حلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصبره على الأذى

للحلم مكانة عظيمة؛ لأنه صفة من صفات العلي العظيم، الذى له صفات الكمال؛ كما أخبر - سبحانه - عن نفسه: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}.

  • التصنيفات: تزكية النفس - محاسن الأخلاق -

والحِلم: هو ضبْط النفس عند هَيجان الغضب.

والغضب: هو ثورة النفس وغَليان القلب؛ لتملُّك الشيطان من النفس والعقل. فالحلم مَلَكة تعمل على ضبْط النفس، وهو درجة سامية لا يصل إليها إلا من استطاع أن يَكبح زِمام غضبه. وللحلم مكانة عظيمة؛ لأنه صفة من صفات العلي العظيم، الذى له صفات الكمال؛ كما أخبر - سبحانه - عن نفسه: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].  

وأيضًا من صفات الأنبياء: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]. ودلَّنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغَّبنا في الحلم بقوله: «من كظَم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يُخيَّر من الحور العين ما شاء»[1].  

وحثَّ - صلى الله عليه وسلم - على الحلم حينما قال رجل: أوصني يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَغضب»، فردَّد مرارًا، قال: «لا تَغضب» [2].

فدعانا - صلى الله عليه وسلم - بقوله للحلم، كما كانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - دعوة عملية إلى الحلم في مواقفَ كثيرةٍ معلومة مشهورة؛ منها: ما حدَث حينما كُسِرت رَباعيَتُه وشُجَّ وجْهُه - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، وقد شقَّ ذلك على أصحابه كما يروي لنا أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله، ادعُ على المشركين، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبعَث لعَّانًا؛ وإنما بُعثت رحمة» [3].

وينقل ابن مسعود - رضي الله عنه - لنا ذلك؛ حيث قال: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء ضرَبه قومه فأدْمَوه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهمَّ اغفِر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون»؛ (رواه البخاري 3477، ومسلم 1792).

انظر ما في هذا القول من جِماع الفضل، ودَرجات الإحسان، وحُسن الخلق، وكرَم النفس، وغاية الصبر والحلم؛ إذ لم يَقتصر - صلى الله عليه وسلم - على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفَق عليهم ورحِمهم، ودعا وشفَع لهم، فقال: ((اغفر))، أو ((اهدِ))، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: ((لقومي))، ثم اعتذر عنهم بجهْلهم، وقال: ((فإنهم لا يعلمون)).  

ويوم ذهب إلى أهل الطائف يدْعوهم، فسبُّوه وآذَوه أيَّما إيذاءٍ، وسلَّطوا عليه السفهاء وقذَفوه بالحجارة، وسخِروا منه، وردُّوه، فماذا كان منه - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي ونفسي؟! هل دعا عليهم؟ هل طلب من ربِّه أن يَنتقم منهم؟ هل غضِب وثأَر لنفسه؟ هل تمرَّد على القيام برسالته وإتمام دعوته؟ لا والله بأبي هو وأمي ونفسي، ما كان ذلك، بل كان الصبر والحلم والحرص على نجاة قومه، بل الخوف من أن يكون قد قصَّر في رسالته ودعوته. وهذا ربُّه قد أرسَل إليه جبريل ومعه ملك الجبال - عليهما السلام - ليَأمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بما يشاء، فيأبى إلا الدعاءَ لقومه، والأمل في الله بهدايتهم. فما أعظمه من نبي وما أحلَمه! فمن يَملك مثل هذا الحلم من البشر؟!

وتعالَوا لنَستمع إلى أُمِّنا عائشة - رضي الله عنها - وهي تروي لنا ذلك؛ حيث إنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم أشدُّ من يوم أُحد؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد لَقيت من قومك ما لَقيت، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العَقبة؛ إذ عرَضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلَقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفِق إلا وأنا بقَرن الثعالب، فرفَعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرَتُ فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال؛ لتَأمره بما شِئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلَّم علي، ثم قال: يا محمد، ذلك فما شِئت، إن شئت أُطبق عليهم الأخْشَبين»، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئًا» [4].  

____________________________________________________________

[1] رواه أبو داود 4777 عن سهل بن معاذ عن أبيه - رضي الله عنه - وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع 6522.

[2] رواه البخاري 6116.

[3] رواه مسلم 2599 عن أبي هريرة.

[4] رواه البخاري 3231، ومسلم 1795.

_________________________________________________________

الكاتب: د. محمد بن عبدالسلام