حقوق الأخوة في الإسلام
إن من أوثق الحقوق بين المسلمين التواصي بينهم بالحق، وتثبيت كل واحد منهم بالآخر، وبث التفاؤل في نفوس المسلمين، والسعي في إصلاح شؤون دينهم ودنياهم وآخرتهم.
- التصنيفات: الولاء والبراء -
إن من مقاصد الإسلام ومبادئه العظام تحقيق الألفة والوئام بين أهل الإسلام، قال الله جل جلاله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
فأمة الإسلام المستمسكة بأوامر الله جل جلاله أمةٌ مرحومةٌ يسودها التوافق والأخوة والنصرة واجتماع كلمة المسلمين على الحق، هو سبيل قوتها وعزتها ونصرتها، قال الله جل جلاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7 - 9].
عباد الله، ربنا العظيم جمع أمة الإسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فألَّف بينهم وجمع كلمتهم، ولقد امتنَّ الله على رسوله بجمع قلوب أصحابه، قال ربي جل جلاله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62، 63].
اللهم ألِّف بين قلوبنا يا رب العالمين.
عباد الله، حين تشتد غربة الإسلام يحتاج المسلم إلى أخيه حاجةً ملحةً ليُثبِّته ويُذكِّره، أو لم تسمع بقول عبدالله بن رواحة لأبي الدرداء رضي الله عنهما: هيا بنا نؤمن ساعة، فإن القلب أسرع تقلُّبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا.
ألم تسمع ما قال معاذ لصاحبه وهو يذكره: اجلس بنا نؤمن ساعة؛ بل إن كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أخاه هارون في دعوته ورسالته إنما أراده ليكون معينًا له ومُثبِّتًا ومُذكِّرًا، قال الله جل وعلا: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: 29 - 35].
عباد الله، المسلم ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه، يذكر أخاه فيجتمعون على الطاعة، ويثبته على الحق ويُشجِّعه ويُعينه، فالمؤمن يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويعينه على ما أهَمَّه من أمور الدنيا والآخرة، يحفظه في غيبته ولا يتأخَّر عن مساعدته، يذكره بالثناء الحسن في حضوره وفي غيبته، يستر عورته فلا يغتابه.
والمؤمنة تقوى بأختها، تذكرها وتثبتها، يتعاونون على حفظ كتاب الله جل وعلا ومدارسته، ويتعاونون على نشر الفضائل في مجتمعاتهم، تُثبِّت الأختُ المحتشمةُ أختَها فتقوى بها.
عبد الله، من أسباب نجاة العبد في الدنيا والآخرة حسنُ اختيار أخيه، فعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلا تقيٌّ»، وقال عليه الصلاة والسلام: «المرءُ مع مَنْ أحَبَّ».
عباد الله، إن من حقوق الأخوة في الإسلام الحرص على إسعاده وتبشيره وإدخال السرور عليه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أحَبُّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحَبُّ إلى الله عز وجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحَبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحَبُّ الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخِلُه على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تطرد عنه جوعًا، أو تقضي عنه دينًا».
وهكذا كان حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فلقد بَشَّر أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة، وبَشَّر كعب بن مالك بتوبة الله عليه، وعن عبدالله بن أبي أوفى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم بَشَّر أُمَّنا خديجةَ رضي الله عنها ببيتٍ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
فالحرص على إدخال السرور بين الأهل والأحباب وتبادل الأخبار المبشرة المثبتة من انتشار الخير بين الناس وما أكثره! إياكم أن يموت صوت الخير في مجتمعاتكم، والبعد غاية البعد عن بثِّ الهوان في الناس وتثبيطهم عن العمل لدينهم، فدينكم منصور بنصر الله جل جلاله، وتذكَّرُوا على الدوام قول الله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 139، 140].
واعلم- رعاك الله- أن الأخوة الحقيقية هي التي تقود إلى الجنة بأية وسيلة، فيجب علينا جميعًا تربية النفس ومن تحت اليد على قبول النصيحة؛ بل وطلبها وقبولها والفرح بسماعها؛ لأنها بحق دليل المحبة، وهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلنها صريحةً ويصدع بها رحم اللهُ امرأً أهدى إليَّ عيوبي.
ولقد كان حبيبكم وإمامكم وقدوتكم محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أُمَّتَه بالمعروف وينهاهم عن المنكر بشتى الوسائل، واسمع خبر أبي مسعود البدري رضي الله عنه يقول: كنت أضرب لي غلامًا بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قلت: يا رسول الله، هو حُرٌّ لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: لو لم تفعل لَلَفَحَتْكَ النارُ أو لَمَسَّتْكَ النارُ، فقلت: والذي بعثك بالحق، لا أضرب عبدًا بعده، فما ضربت مملوكًا بعد ذلك اليوم.
يا أخي، قبول النصيحة والعمل بها علامةُ توفيقٍ، والتكبُّر على النصيحة وردُّها علامةُ خذلان وخسران، ويخشى العبد أن يكون ممن قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]، فلنتأمل في أنفسنا.
وأهمس في أُذُن كل ناصح الرفقَ؛ فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وإلى كل من كتبت له النصيحة احمد الله أن سخَّر لك من يدلك على طريق نجاتك.
من حقوق الأخوة في الإسلام ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إن كان ظالمًا، كيف أنصره؟ قال: «تحبسه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره».
فالوقوف مع أخيك وقت ضعفه نصرة، وهذا خيرُ مُعَلِّم للبشرية، لما جيء برجل من الصحابة يُجلد في الخمر مرارًا، قال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه؛ فما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله»، وفي رواية: «لا تعينوا الشيطان على أخيكم».
وهذا حاطب بن أبي بلتعة في لحظة ضعف وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجِّهًا لفتح مكة وقد أمر أصحابه أن يكتموا أمره، فخالف حاطب أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب كتابًا لقريش يخبرهم بما أجمع عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام له: «ما حملك على هذا يا حاطب» ؟، فقال: يا رسول الله، وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَالِكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. لحظة ضعف، قال عمر: دعني فلأضرب عنقه؛ فإن الرجل قد نافق، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم، هذا الرفيق بالأمة يقول ويعلمنا: «وما يدريك يا عمر، لعلَّ الله اطَّلَع على أهل بَدْر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
من حقوق الأخوة في الإسلام: الدفاع عن بعضهم في حضورهم، ويتأكد ذلك في غيبتهم، ففي الحديبية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ليفاوض قريشًا، فتأخر عثمان، فقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان، وقلوبهم تطوق شوقًا لبيت الله الحرام: خَلَص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به فقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: «ما أظُنُّه طاف بالبيت ونحن محصورون»، قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص، قال: «ذلك ظني ألا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا»، فصدق ظَنُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ما أحوجنا اليوم في مجالسنا أن نذبَّ عن أعراض المسلمين والمسلمات! فهذا حقُّ المسلم على أخيه، فلا نتَفَكَّه بسماع أخبارهم التي يكرهون، أو السكوت عما يفتري عليهم، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ مسلم يردُّ عن عرض أخيه إلا كان حقًّا على الله أن يردَّ عنه نار جهنم يوم القيامة».
فإذا جلست في مجالس تدار بغيبة المسلمين ونميمتهم، فدافع عن عرض أخيك، فإن لم تستطِع فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر دفاعه عن صحابته، واسمع هذا الخبر العجيب، من عجائب الأخبار أن رسولنا صلى الله عليه وسلم دافع عن ناقته القصواء يوم الحديبية يوم أن توقفت عن المسير فلم تتحرك، فقال الناس: خَلأتِ القَصْواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأَت، وما هو لها بخُلُق، ولكن حَبَسها حابِسُ الفيل» ؛ أي: منعها الله جل جلاله، لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم في ناقته في حضرته ودافع عنها، ألا يكون المسلم أعَزَّ علينا؟!
من حقوق الأخوة في الإسلام: التماس العذر للمخطئ، فأنت لا تدري ما هي ظروف الناس ولا مشكلاتهم، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم لما كسرت أُمُّنا عائشة الصحفةَ التي أرسلتها إحدى زوجاته وفيها طعام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «غارت أُمُّكم، غارت أُمُّكم صحفة بصحفة وطعام بطعام».
فلنقل عَلَّه كان مشغول البال مجهود البدن عنده من الأمور... قال الله جل جلاله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199].
ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض الحرص على قضاء حوائجهم، قال علي رضي الله تعالى عنه: إن الله خلق خلقًا من خلقه لخلقه، فجعلهم للناس وجوهًا، وللمعروف أهلًا، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون يوم القيامة.
ومن الحقوق التي فرَّط فيها كثير من الناس: نسيان الفضل عند الخصام والنزاع، والله يقول في الزوجة التي طَلَّقها زوجها قبل الدخول ولم يكن بينهم عشرة: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، فكيف بمَنْ جمعتهم سنين وفرقتهم خصومة؟! {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
ومن الحقوق التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاء والتواصي به، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستغفر لسبعين من إخواني في سجودي بأسمائهم وأسماء آبائهم.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكَّل به: آمين ولك بمثله»، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
إن من أوثق الحقوق بين المسلمين التواصي بينهم بالحق، وتثبيت كل واحد منهم بالآخر، وبث التفاؤل في نفوس المسلمين، والسعي في إصلاح شؤون دينهم ودنياهم وآخرتهم.
يقول يحيى بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
اللهم ألِّف بين قلوبنا، واجمعنا على الحق يا رب العالمين.