تنزيل المؤمن من العمل الفاضل إلى المفضول
عصام بن عبد المحسن الحميدان
فإن الشيطان لا يكتفي بإغراء الناس بفعل الفواحش والمعاصي والسيئات، وتزيينها لهم؛ بل ينتقل إلى حيلةٍ ذكية يوقع بها الجهلة في شِراكه؛ بإشغال المؤمن عن الواجب بالمستحب
- التصنيفات: نصائح ومواعظ -
الحمد لله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 102].
فإن الشيطان لا يكتفي بإغراء الناس بفعل الفواحش والمعاصي والسيئات، وتزيينها لهم؛ بل ينتقل إلى حيلةٍ ذكية يوقع بها الجهلة في شِراكه؛ وهي تزيين الأعمال الصالحة التي لا ينالون منها أجرًا؛ بل ربما نالوا إثمًا، وهذا ما قاله الله سبحانه عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].
وله في ذلك أسلوبان: الأول: إشغال المؤمن عن الواجب بالمستحب، فيشغل المؤمن بالتجارة والكسب بحجة أن أفضل الكسب ما كان من عمل يد الإنسان، وبحجة حاجة الأولاد للنفقة، وهو في الحقيقة يريد أن يشغله عن الصلاة بهذه التجارة، قال الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11،] فتكون في هذه الحال محرمة.
ويُحبِّب للمؤمن قيام الليل، وسهر الليالي، وإن كان متعبًا، فيقول له: إن قيام الليل يضاعف أجره مع التعب والمشقة، وإنه أقرب للإخلاص، وليس قصده بذلك ترغيبه في الخير؛ ولكن قصده إضاعة صلاة الفجر، فإذا قرب الفجر ثقل رأسه، وأغراه بالنوم والراحة، فقيام الليل في هذه الحالة محرم.
وكما شجع المنافقين على بناء مسجد الضرار، المسجد الذي لم يؤسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد ولكنه لم يُبنَ لله؛ بل للصد عن سبيل الله، وجذب الناس عن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفريق المؤمنين إلى فرقتين، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107]، إلى أن قال سبحانه: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108].
لا يجوز للمسلم أن يشغل نفسه عن الفرائض والواجبات بالمستحبات والمباحات، ولا يجوز أن تعلن للناس فتوى لأحد المذاهب وأنت ترى صحتها وقوتها، إن كانت تؤدي إلى شق صَفِّ المسلمين، روى أبو داود أن ابن مسعود رضي الله عنه صلَّى أربعًا في الحج، وهو يرى القصر، وقد عاب على عثمان رضي الله عنه تربيعه، وود لو قصر، فقيل له: عبت على عثمان، ثم صليت أربعًا، قال: الخلاف شر، فترك رضي الله عنه إقامة السُّنَّة من أجل الواجب الذي هو أهَمُّ.
والنبي صلى الله عليه وسلم ترك هدم الأصنام في مكة لمَّا كان مستضعفًا من أجل إقامة الإسلام، والحفاظ على المسلمين، ولو هدمها لقُتِل وأصحابُه، وانتهى الإسلام. فلمَّا تمكَّن صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وهدم الأصنام، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49].
أما الحيلة الثانية فهي أن يشغل المؤمن عن الفاضل بالمفضول، وعن الأحب إلى الله بالمحبوب إليه، فيشغل المؤمن بالعبادات الذاتية عن العبادات المتعدية، قال الله سبحانه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ} [التوبة: 19]، فالجهاد في سبيل الله، ومن أجل إقامة دينه أعظم أجرًا من التعبُّد الذاتي، قال أحد السلف يقارن بين عبادة المؤمن في الحرم، والقيام بنصرة الدين:
يا عابدَ الحرمينِ لو أبصَرْتَنــــــــا *** لعلمت أنك في العبادة تلعـبُ
من كان يخضِبُ خَدَّه بدموعِــــه *** فنحورُنا بدمائنا تَتَخضَّــــــبُ
أو كان يُتعِبُ خيلَه في باطــــــلٍ *** فخيولُنا يومَ الصبيحة تتعبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيــــــرنا *** رَهَجُ السنابك والغُبارُ الأطيبُ
ولقد أتانا من مقال نبينـــــــــــــا *** قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكْـذَبُ
لا يستوي غبَّار خيل اللّه فــــــي *** أنفِ امرئٍ ودُخانُ نار تَلهــــبُ
ونحن نعلم أن الأعمال الصالحة مراتب؛ فمنها الواجبات والفرائض، ومنها السنن في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»، فالاشتغال بالأعلى أولى من الاشتغال بالأدنى، قال ابن القيم رحمه الله: "الشيطان يشغل المؤمن بالعمل المفضول عما هو أفضل منه؛ ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضُّه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًّا ومحركًا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة، فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله، وهو معذور، ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير؛ إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل، وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم "ا.هـ.