طيبة الطيبة
محمد بن إبراهيم السبر
تتفاوَتُ البُلدانُ والأوطانُ شرفًا ومكانة، وعلُوًّا وحُرمة، وتأتي المدينةُ النبويَّة في المكانِ الأعلى والموطنِ الأسمَى، فهي بعد مكة خير البقاع، وأشرف الأماكن والأصقاع، وتالِيَتُها في الحُرمةِ والإكرام، والتعظيمِ والاحتِرام.
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
تتفاوَتُ البُلدانُ والأوطانُ شرفًا ومكانة، وعلُوًّا وحُرمة، وتأتي المدينةُ النبويَّة في المكانِ الأعلى والموطنِ الأسمَى، فهي بعد مكة خير البقاع، وأشرف الأماكن والأصقاع، وتالِيَتُها في الحُرمةِ والإكرام، والتعظيمِ والاحتِرام.
دُرَّةُ الأوطان، وزينةُ الأقطار، وبهجةُ الأمصار، إنها مدينةُ الحبيبِ المُصطفى صلى الله عليه وسلم، دولةُ الإسلام الأولى، وأرضُ الهِجرة، وموطِنُ السُّنَّة، أمرَ الله نبيَّه بالهِجرة إليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ في المنامِ أنِّي أُهاجِرُ من مكَّة إلى أرضٍ بها نَخلٌ، ذهَبَ وهَلِي إلى أنها اليمامَةُ أو هَجَر، فإذا هي المدينةُ يثْرِب»؛ (متفق عليه).
وهي دارُ الإيمان، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 9]، قال الإمامُ مالِكٌ -رحمه الله-:"إن المدينة تُبوِّئَت بالإيمانِ والهِجرةِ".، والإيمانُ يأرِزُ إلى نواحِيها؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمانَ ليأرِزُ إلى المدينةِ كما تأرِزُ الحيَّةُ إلى جُحرِها»؛ (متفق عليه). أي يرجع وينضم ويجتمع.
المدينة بلدةٌ مرغوبة السُّكنَى، طيبةُ المثوَى، طوبى لمن سكنها مع الإيمان والتقوى؛ قال صلى الله عليه وسلم:«يأتي على الناسِ زمانٌ يدعُو الرجلُ ابنَ عمِّه وقريبَه: هلُمَّ إلى الرَّخاء، هلُمَّ إلى الرَّخاء، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يعملون»؛ (أخرجه مسلم).
والمدينةُ مُبارَكةٌ في صاعِها ومُدِّها، ومِكيالِها وتمرِها، وقليلِها وكثيرِها، دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، فقال: «اللهم اجعل في المدينة ضِعفَيْ ما بمكة من البركة»؛ (متفق عليه).
هي حبيبةُ حبيبناصلى الله عليه وسلم ووطنه الذي عبر عن حبه وانتمائه له قائلًا: «اللهم حبِّب إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ»؛ (متفق عليه). وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدِمَ من سفرٍ، فرأى درجات المدينة أوضعَ ناقته، أي أسرع بها، فإذا أشرفَ عليها قال: «هذه طابَة، وهذا أُحُدٌ جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه»؛ (رواه البخاري).
طيبةُ الطيبة دارُه ومُهاجرُه، فيها نُصِبَ مِحرابُه ورُفِع مِنبرُه، وفيها مضجَعُه ومنها مبعثُه.
بطَيبةَ رَسمٌ للرسولِ ومعهَــــــــــدُ *** مُنيرٌ وقد تعفُو الرُّسُومُ وتهمُـــدُ
ولا تنْمَحِي الآياتُ من دارِ حُرمـــةٍ *** بِها مِنبَرُ الهادِي الذي كان يصعَدُ
وواضِحِ آياتٍ وباقِي معالِـــــــــــمٍ *** ورَبْعٌ له فيه مُصلًّى ومسجِـــــدُ
بها حُجُراتٌ كان ينزِلُ وسطَهـــــــا *** مِنَ الله نُورٌ يُستضاءُ ويُوقَـــــدُ
معالِمُ لم تُطمَسْ على العهدِ آيُهَــــا *** أتاهَا البِلَى فالآيُ منها تجَــــــدَّدُ
المدينة بلدةٌ آمنة، ومدينةٌ ساكِنة، لا يُهراقُ فيها دم، ولا يُحمَلُ فيها سلاحٌ لقتال؛ فعن سهل بن حُنَيف -رضي الله عنه- قال: أهوى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة، فقال: «إنها حرَمٌ آمِن»؛ (اخرَّجه مُسلمٌ). فالمدينةُ حرامٌ ما بين لابَتَيْها وحرَّتَيها، وجبَلَيْها ومأزِمَيْها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «المدينةُ حرَمٌ ما بَين عَيْرٍ إلى ثَورٍ؛ فمَن أحدَثَ فيها حَدَثًا، أو آوَى مُحدِثًا فعليهِ لعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يَقبَلُ الله منه يوم القيامةِ صَرفًا ولا عَدلًا»؛ (متفق عليه).
والمسجد النبوي الشريفُ أحدُ المساجِدِ الثلاثة التي لا يجوزُ شَدُّ الرِّحالِ إلا إليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجِد: مسجِد الحرام، ومسجِدِي هذا، ومسجِد الأقصَى»؛ (متفق عليه)، وينوي زيارة المسجد النبوي لا زيارة القبر؛ فإن شد الرحل على وجه التعبد لا يكون لزيارة القبور.
والصلاةُ في المسجد النبوي مُضاعفَةُ الجزاءِ فرضًا ونَفلًا -في أصحِّ قولَي العُلماء-؛ قال صلى الله عليه وسلم: «صَلاةٌ في مسجِدِي هذا أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سِوَاه إلا المسجِد الحرام»؛ (متفق عليه).
ويستحب أن يكثرَ من صلاة النافلة في الروضة الشريفة؛ إن تيسر له من أجل فضيلتها قال صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومِنبَري روضةٌ من رِياضِ الجنةِ، ومِنبري على حوضي»؛ (متفق عليه).
ويستحب للزائر أن يذهب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- مع مراعاة آداب الزيارة، ثم ينصرف ولا يقف.
ويسن زيارة مسجد قُباء؛ فقد: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجِد قُباء كلَّ سبتٍ ماشِيًا وراكِبًا فيُصلِّي فيه ركعتين»؛ (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من تطهَّرَ في بيته ثم أتَى مسجِدَ قُباءٍ فصلَّى فيه صلاةً كان له كأجرِ عُمرةٍ»؛ (أخرجه ابن ماجه).
ويشرع للزائر زيارة مقبرة البقيع وقبور الشهداء في أحد للسلام على مَنْ فيها من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين وغيرهم والدعاء لهم، ويقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية».
واعلموا -وفقكم الله- لاتباع السنة أن من البِدعِ التبرُّك بجُدرانِ المسجد النبويِّ، أو أعمدته، أو أبوابِه، أو مِنبَره ومِحرابِه، أو التمسح بشبك الحجرة النبوية أو الطواف بها، ولا يستقبلها حال الدعاء بل يستقبل القبلة.
ولا يرفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم، لأنه محترم حياً وميتاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 2، 3].
وعلى المصليات الزائرات للمسجد النبوي والروضة الشريفة وأنحاء المسجد التحلي بالآداب الشرعية وعدم رفع الصوت، والالتزام بالحشمة وعدم التبرج والسفور.
ولا يجوز سؤال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الموتى قضاء الحاجات أو تفريج الكربات، أو شفاء المرضى، أو طلب الشفاعة منه، لأن كل هذا لا يطلب إلا من الله عز وجل الحي الذي لا يموت.
ولا يُقصد في المدينة من المساجد إلا المسجد النبوي، أما ما يسمى المساجد السبعة وغيرها من المواضع، وإن ذكرها بعض المؤلفين في المناسك فهي مبتدعة ولا أصل لها، لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرعه الله ورسوله، والعبادات مبناها على الاتباع لا على الابتداع.