احذروا الورع الكاذب والتدين المغشوش
خيرُ الناس وأحسنُهم وأفضلُهم هو الذي يُحسِن معاشرة زوجته وأهل بيته، وليس هناك أحدٌ أفضل في تعامله مع أهل بيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق -
قال رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلانة يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا، وَصِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلانة يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا، وَصَلاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ، وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ»[1].
أَغرّ عليه للنبوة خاتــــــــــــــــم ** من الله مشهود يلوح ويشهــــــــدُ
وضَمَّ الإلهُ اسمَ النبيِّ إلى اسْمِهِ ** إذا قال في الخَمْسِ المُؤذِّنُ: أشهدُ
وشقَّ له من اسْمِه ليجلَّـــــــــــه ** فذو العَرْشِ محمودٌ وهذا محمـــدُ
فيا رب صل وسلم على هذا النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ سيدنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّارِ.
أيها المسلم الكريم، هذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذات يوم كان يسير في السوق، فرأى رجــلًا يحمل تمرةً وينادي عليها صارخًا: "لقد وجدت تمرةً، فمن صاحبها"؟ وظلَّ يكرِّرها مرارًا "لقد وجدت تمرةً فمن صاحبها"؟ فنظر إليه سيدنا عمر رضي الله عنه نظرة ثاقبة، فلما رأى أن مرَادَهُ إظْهَارُ وَرَعِهِ وَدِيَانَتِهِ- يريد أن يُظهِرَ للناس أنه يخاف الله، وأنه لا يأكل حقوق الناس، وأنه صاحب ورع وتقوى- فماذا قال له سيدنا عمر رضي الله عنه؟
ضَرَبَهُ بالدِّرَّة وقال له: كُلْها وأرِحْنا من صوتك يا صاحب الورع الكاذب[2]؛ أي: كفاك تمثيلًا، ولا تشغلنا بأمر صغير عن كبائر الأمور.
والله، إنها التفاتة عظيمة من سيدنا عمر رضي الله عنه، كأنَّه يريد أن يقول لنا من خلال هذا الموقف: احذروا يا مسلمين من أصحاب الورع الكاذب والتدين المغشوش! وما أكثرهم في دنيا اليوم!
بعض الناس اليوم تراهم أصحاب ورعٍ في بسائط الأمور، والتزام في بعض الأخلاقيات، حتى لتعتقد أنهم بقية من سلفنا الصالح، فإذا عاشرتهم وتعرَّفت على بقية أحوالهم وتصرفاتهم، لرأيت أن بينهم وبين أخلاق الإسلام وورعه كما بين المشرق والمغرب! وهذا هو التديُّن المغشوش والورع الكاذب، قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].
تجد الواحد منهم يدَّعي الصلاح وهو ليس من أهل الصلاح، ويدَّعي الورع وهو ليس من أهل الورع، ويدَّعي التَّديُّن وهو بعيد عن الدين، هؤلاء أخبرنا الله تعالى عنهم في كتابه العزيز فقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105].
بعض الناس يهتمون بالقشور على حساب اللُّبِّ، وبالمظهر على حساب الجوهر، فترى الواحد منهم يدَّعي أنه يسير على الكتاب والسنة، فتراه لا يشرب الماء إلا وهو جالس، ويتمسَّك بالسواك فلا يُصلِّي إلا والسواك معه، ولكننا نراه لا يتورَّع من أكل لحوم الناس بالغيبة والنميمة والطعن في أعراضهم! كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "تجِدُ الرجلَ يتورَّعُ عن القطرة من الخمر أو مِنِ استناده إلى وسادةِ حريرٍ لحظةً واحدةً، ولكنه يُطلِقُ لسانَهُ في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق"[3]، هذا هو الورع الكاذب والتدين المغشوش.
وترى الواحد منهم محافظًا على الصف الأول، ولا يصلي إلا على السنة، ولباسه على السنة، وهذا شيء جميل، ولكن المصيبة عندما تنظر إلى أخلاقه في بيته، تراه لا يحترم أُمَّه وأباه، ويظلم زوجته ولا يعاملها المعاملة الطيبة، هذا هو التدين المغشوش، أين هم من نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال ذات يوم لأصحابه الكرام: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي»[4]؛ يعني: خيرُ الناس وأحسنُهم وأفضلُهم هو الذي يُحسِن معاشرة زوجته وأهل بيته، وليس هناك أحدٌ أفضل في تعامله مع أهل بيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأين هم من السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سألها الناس: ما هي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه؟ كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أهل بيته؟
فأجابت رضي الله عنها بوصف وجيز بليغ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألينَ الناس وأكرم الناس، كان رجلًا من رجالكم إلا أنه كان ضحَّاكًا بسَّامًا"[5].
وترى الواحد منهم يجلس في المجالس ويتحدَّث: هذا العمل من السنة ينبغي أن نتمسك به، وهذا العمل من البدعة ينبغي أن نتركه، وهذا حلال وهذا حرام، وهذا يجوز وهذا لا يجوز، فعندما تسمع لكلامه تقول: ما شاء الله على هذا الورع وعلى هذا التديُّن، ولكنك تصدم عندما تخالطه وتعامله وتنظر في تصرفاته، تراه يزوِّر في معاملاته، ويأكل أموال الناس بالباطل، جاره يستغيث بالله منه، يغش في بيعه وشرائه، يأخذ الرشوة، وهذا هو الورع الكاذب والتديُّن المغشوش.
رُوِيَ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلًا مظهرًا للنُّسك متماوِتًا، فخفقه بالدِّرَّة وقال: "لا تُمِتْ علينا ديننا، أماتك الله"، ورأى رجلًا مُطأطئًا رأسه، فقال له: "ارْفَعْ رأسَك فإن الإسلام ليس بِمَريِض"[6]، ورَأَى رَجُلًا يُطَأْطِئُ رَقَبَتَهُ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ، ارْفَعْ رَقَبَتَكَ لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ إِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقُلُوب"[7].
الزهد ليس أن يكون المرء هزيلًا كأنه مريض، ولا أن يلبس الثياب البالية، وإنما الزهد ترك الحرام، فمن ترك الحرام كان زاهدًا ولو مَلَكَ مُلْكَ قارون.
سُئل الحسن البصري رحمه الله: أيكون المرءُ زاهدًا وهو يملك ألف درهم؟ فقال: نعم، إذا كانت الدراهم في يده ولم تكن في قلبه! وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قَالَ: قِيلَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟، قَالَ: أَنْ تَرَى الْجَسَدَ خَاشِعًا وَالْقَلْبَ لَيْسَ بِخَاشِعٍ[8]، ويقول لقمان الحكيم وهو يوصي ولده: يا بني، اتقِ اللهَ ولا تُري النَّاسَ أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيُكْرِمُوكَ بِذَلِكَ وَقَلْبُكَ فاجر[9].
كثير من الناس يُظْهِر أمام الآخرين مظاهر الصلاح والورع سواء في الشكل والهيئة أو الكلام، أو في بعض الممارسات العملية، ليسجل له مكانة أو موقفًا، أو تزكية نفس، أو تحقيق مأرب أو تزلُّفًا عند صاحب سلطان أو جاه.
يقول سيدنا سفيان الثوري رحمه الله: سيأتي أقوام يخشعون رياءً وسُمْعة، وهم كالذئاب الضواري، غايتهم الدنيا، وجمع الدراهم من الحلال والحرام!
إن تَكَلُّف الورع هو مَحْض كذب وافتراء، وهو تديُّن مغشوش به علة وفيه دخن، وهو أول ما يصل بصاحبه إلى الرياء، والعياذ بالله؛ لذلك فإن الورع المطلوب من المسلم لا يُقاس بشكل ولا بهيئة، ولا يُقاس كذلك بطنطنة اللسان ولا بفصاحة البيان، ولكنه كما قال الصحابي الجليل يحيى بن معاذ رضي الله عنه: "الْوَرَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَرَعٌ فِي الظَّاهِرِ، وَوَرَعٌ فِي الْبَاطِنِ، أَمَّا وَرَعُ الظَّاهِرِ فَلَا يَتَحَرَّكُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَلَا يَدْخُلُ قَلْبَكَ سِوَاهُ "[10].
وأختم كلامي بهذا الحوار الذي دار بين سيدنا الفضيل بن عياض وولده علي رحمهما الله تعالى، سأل علي في ذات مرة أباه الفضيل فقال: يَا أَبَتِ، مَا أَحْلَى كَلَامَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فرد عليه أبوه الفضيل بن عياض قائلًا: يَا بُنَيَّ، وَتَدْرِي لِمَ حَلَا؟ قَالَ: لَا يَا أَبَتِ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا اللَّهَ بِهِ[11].
فديننا أيها الأحبة دين عِزَّة وكرامة، دين إخلاص وورع، يقصد بهما وجه الله سبحانه وتعالى، وليس دين التظاهر والورع الكاذب والتديُّن المغشوش، فينبغي علينا أن نراقب نيَّاتنا دائمًا، ونجعل أقوالنا وأفعالنا خالصة لوجه الله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
[1] أخرجه أحمد في مسنده: (15/ 421)، برقم (9675)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[2] ينظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: (4/ 81).
[3] ينظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم: (ص: 70).
[4] سنن ابن ماجه، كتاب النكاح - باب حسن معاشرة النساء: (1/ 636)، برقم (1977)، وسنن الترمذي، أبواب المناقب - باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: (6/ 192)، برقم (3895)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[5] مسند إسحاق بن راهويه (3/ 1008)، برقم (1750).
[6] ينظر: تفسير المراغي: (21/ 86)، والتفسير المنير للزحيلي: (21/ 151).
[7] إحياء علوم الدين للغزالي: (3/ 296).
[8] مُصنف ابن أبي شيبة، كتاب الزهد - ما قالوا فِي البكاءِ مِن خشيةِ اللهِ (14/ 59)، برقم (36861).
[9] البداية والنهاية لابن كثير: (2/ 151).
[10] الزهد الكبير للبيهقي (ص: 318).
[11] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 23).
[12] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، بَابُ الْقَوْلِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ لِمَنْ سَمِعَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَسْأَلُ لهُ الْوَسِيلَةَ (1/ 288)، برقم (384).
[13] قال الإمام النووي رحمه الله عزَّ وجلَّ: (وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ: الْمُتَابَعَةُ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ، يُكْرَهُ تَرْكُهَا؛ لتصريح الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِالْأَمْرِ بِهَا، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَأَمَّا أَصْلُ الْفَضِيلَةِ وَالثَّوَابِ فِي الْمُتَابَعَةِ فَلَا يَخْتَصُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)؛ المجموع شرح المهذب (3/ 119).
[14] قال الشيخ عليش رحمه الله في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 202): "وإذا أذَّن جماعة، واحدٌ عقب واحد؛ فاختار اللخمي: تكرير الحكاية. وقيل: يكفيه حكاية الأول "... وقال المرداوي: "ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا: إجَابَةُ مُؤَذِّنٍ ثَانٍ وَثَالِثٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ. قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَمُرَادُهُمْ: حَيْثُ يُسْتَحَبُّ، يَعْنِي الْأَذَانَ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: مَحَلُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْأَذَانُ مَشْرُوعًا"؛ انتهى من "الإنصاف" (1/ 426).
____________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي