خليج الزقاق: من هنا مر طارق بن زياد
هكذا كان عبور طارق بن زياد لخليج الزقاق، وهكذا تم على يديه فتح الأندلس، تشريفًا له من الله، ومن هنا صار ذلك الخليج، يعرف باسم "مضيق جبل طارق"
- التصنيفات: التاريخ والقصص -
أحمد الظرافي - مجلة البيان
بعد اكتمال فتح المغرب سنة 90 هـ، تطلع المسلمون بقيادة موسى بن نصير لفتح شبه الجزيرة الإيبيرية أو إسبانيا. وعندما استأذن موسى، الخليفة الوليد بن عبد الملك برغبته في تنفيذ هذه الخطة، تردد هذا الخليفة المحب للفتوحات المشجع قادته عليها، وذلك خوفا على أرواح المسلمين من مغامرة غير محسوبة العواقب، فكتب لموسى بن نصير، موجها ومحذرا:" أن خضها بالسرايا حتى تختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال". فراجعه (موسى) قائلا: "أنه ليس ببحر، وإنما هو خليج يتبيّن للناظر ما وراءه". فكتب إليه (الوليد): "وإن كان، فلابدّ من اختباره بالسرايا ".
والمقصود بذلك الخليج، هو خليج الزقاق، أو بحر المجاز، والذي يفصل بين ميناء سبته في شمال المغرب، والجزيرة الخضراء في جنوب إسبانيا. وأطلق عليه الجغرافيون العرب اسم "خليج الزقاق"، تشبيهًا له، بالزقاق الذي يربط بين حيين أو حارتين، في المدينة القديمة، لكونه يربط بين البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، بطول مقداره 51 كيلومترًا تقريبًا، ويعتبر من أهم المضائق البحرية في العالم.
ولقد كان طارق بن زياد عسكريًا ناجحًا ممتازًا، مخلصًا للإسلام، متحمسًا لنشره، ونحن لا نعرف شيئًا عن الحياة المبكرة، لهذا القائد المسلم. بيد أن المهم أن موسى بن نصير، كان يعرفه، وكان يثق به وبكفاءته
وقد كان العبور في هذا الخليج من المغرب إلى الأندلس أو العكس، محفوفًا بالمخاطر، على الرغم من المسافة القصيرة التي تفصل بين شاطئيه، والتي لا تزيد عن 14 كيلومترًا. قال ابن سعيد المغربي في جغرافيته، عند حديثه عن هذا المجاز: "ويُعرف هذا الموضع بالزُّقاق، وهو صعب المجاز، لأنه مجمع البحرين، لا تزال الأمواج تتطاول فيه والماء يدور". ولا يزال هذا الخليج، حتى اليوم يُعرف بمقبرة السفن، لكثرة السفن، التي غرقت فيه، عبر التاريخ.
وقد نفذ موسى بن نصير تعليمات الخليفة، فبعث إلى جنوب إسبانيا بسريتين استكشافيتين عبرتا خليج الزقاق، الأولى بقيادة الكونت يليان حاكم سبته، حليفه ومحرضه على غزوها. والثانية بقيادة أحد قادته، وهو طريف بن مالك، في رمضان سنة 91هـ، وذلك قبل أن يأذن بعبور الجيش الرئيسي إليها لتنفيذ خطة الفتح، بقيادة القائد الشهير والبطل الخالد طارق بن زياد، في منتصف السنة التالية، وذلك بعد أن كان موسى قد جهز السفن اللازمة لعملية العبور، بالتنسيق مع الكونت يليان.
ولقد كان طارق بن زياد عسكريًا ناجحًا ممتازًا، مخلصًا للإسلام، متحمسًا لنشره، ونحن لا نعرف شيئًا عن الحياة المبكرة، لهذا القائد المسلم. بيد أن المهم أن موسى بن نصير، كان يعرفه، وكان يثق به وبكفاءته لتنفيذ هذه المهمة العظيمة والخطيرة، التي أناطه بها، ألا وهي عبور طارق على رأس قواته لهذا المضيق (خليج الزقاق)، وتنفيذ خطة فتح الأندلس. وقد اختلف في عدد تلك القوات، ما بين سبعة آلاف، واثني عشر ألفًا، وكانوا جميعهم، على الأرجح، من البربر.
وكانت هذه سابقة في فتوح العرب المسلمين، حتى ذلك الحين، وقد جاءت هذه السابقة تعبيرًا عن سياسة موسى بن نصير، المرنة في المغرب، وانفتاحه على البربر، الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله بصدق وخلاص، وأسلموا وحسن اسلامهم، وانتقلوا من وضع الهامشية إلى وضع الفاعلية، وأخذوا في الانصهار مع إخوانهم المسلمين من العرب وغير العرب، في بوتقة واحدة، هي بوتقة الإسلام، وصاروا وأياهم يشكلون أمة واحدة، وجبهة واحدة.
ولذلك، فإنهم، أي البربر، لم يتردّدوا في أن يكونوا طليعة هذه الحملة العسكرية لفتح البلاد المجاورة لبلادهم، والتي كانوا هم أكثر احتكاكًا بها، واطّلاعًا على شئونها الداخلية، من العرب. بيد أن قيادة هذه الحملة، والحق يقال، لم تكن مطلقة لطارق بن زياد، فقد أنشأ موسى بن نصير، مجلس قيادة عسكرية، غالبيته من شيوخ العرب المجربين، تمتّع بالصفة المرجعية في اتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية.
وكان عبور طارق بن زياد لهذا المضيق (خليج الزقاق)، من المغرب إلى الأندلس، من الحوادث العظيمة والخالدة في التاريخ الإسلامي، بل والتاريخ العالمي، وبخاصة بعد الانتصار الساحق الذي حققه وجيشه، على القوط، في معركة وادي لكة
ومهما كان الأمر، فقد عبرت تلك القوات المسلمة خليج الزقاق، ووصلت بسلام إلى شاطئ العدوة الاخرى، ونزل طارق بن زياد بها، في الجبل الذي نسب إليه، والذي لا يزال يعرف باسمه حتى الآن في جميع اللغات "جبل طارق". إنه ذلك الجبل المنيف الواقع في الجزيرة الخضراء، والذي يحيط بقمته الغمام، مهما كانت الشمس ساطعة، والذي يعتبر قاعدة الوصل بين المغرب والأندلس، والمنفذ التقليدي القديم لشبه الجزيرة الإيبيرية، والذي يتراءى لعابر خليج الزقاق، على الجهة الأخرى، من الشاطئ، كأنه سرج فرس، أو كأنه أسدًا منتصبًا أمامه، مؤخرته إلى البحر المتوسط، ورأسه إلى المحيط الأطلسي، كما وصفه بعض الرحالة.
وكان عبور طارق بن زياد لهذا المضيق (خليج الزقاق)، من المغرب إلى الأندلس، من الحوادث العظيمة والخالدة في التاريخ الإسلامي، بل والتاريخ العالمي، وبخاصة بعد الانتصار الساحق الذي حققه وجيشه، على القوط، في معركة وادي لكة، تلك المعركة الحاسمة التي استهلها طارق بخطبته الشهيرة: " أيها الناس، أين المفر؟! البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، وأعلموا أنكم في هذه الجزيرة، أضيع من الأيتام، في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم العدو بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا قوت إلا ما تستخلصونه من عدوكم...".
وقد بدأت هذه المعركة في يوم الأحد الموافق 28 رمضان 92هـ، واستمرت ثمانية أيام، ونتج عنها هزيمة القوط هزيمة ساحقة ماحقة ومقتل ملكهم وطاغيتهم "لذريق"، ومن ثم، فتح الأندلس، تلك البلاد الواسعة المشهورة بخضرتها وأنهارها وخيراتها الكثيرة والوفيرة، والتي قام المسلمون البربر، بدور كبير وملموس في افتتاحها. وبهذا يكون طارق بن زياد، قد نفذ المهمة التي كلِّف بها، على أحسن وجه، وحقق الله على يديه فتح الأندلس.
فلما سمع موسى بن نصير، بما حصل من النصرة لطارق، عبر بدوره خليج الزقاق، بمن معه إلى الجزيرة الخضراء، ولحق بطارق وقال له: "يا طارق إنّه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يبيحك جزيرة الأندلس، فاستبحه هنيئا مريئا، فقال له طارق: أيها الأمير، والله لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنته إلى البحر المحيط، وأخوض فيه بفرسي، يعني المحيط الأطلسي في أقصى شمال إسبانيا، فلم يزل طارق يفتح وموسى معه، إلى أن بلغ جليقية، في شمال غرب إسبانيا، على ساحل المحيط الأطلسي. وهذا الموقف يذكرنا بموقف عقبة بن نافع، وما قاله، عندما خاض بفرسه مياه المحيط الأطلسي في المغرب الأقصى، من قبل.
هكذا كان عبور طارق بن زياد لخليج الزقاق، وهكذا تم على يديه فتح الأندلس، تشريفًا له من الله، ومن هنا صار ذلك الخليج، يعرف باسم "مضيق جبل طارق"، منذ ذلك الحين، وبجميع اللغات أيضًا، وانتهى الاسم الذي عرف به قديمًا، وهو أعمدة هرقل، إلى الأبد، وانتهت معه تلك الأسطورة التي نسجها الإغريق حوله، والتي تقول إن البطل الأسطوري هرقل، هو الذي فصل، بقوته الخارقة، البرين عن بعضهما، ليصل البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي.
وشكّل جبل طارق منذ فتحه سنة 92هـ، باب الأندلس، وصلة الوصل المباشر بين المسلمين في الأندلس والمغرب، وظل بوابة لدخول الجيوش الإسلامية والمهاجرين العرب والبربر، إلى الأندلس. ومنذ ذلك الحين، صار لا يعبر عابر لخليج الزقاق، إلا وتذكر أنه: "من هنا مرّ طارق بن زياد".
***