ثلاثة أحاديث نبوية عليها مدار الإسلام وقواعد الدين-3

قال الإمام ابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: (أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام)

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -

 

 

الحديث الثالث

مقصد الحديث: اجتناب الشبهات، والعناية بإصلاح القلب.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: " «إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَّا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» ". [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:52]، وَمُسْلِمٌ [رقم:1599]]

منزلة الحديث:

قال الإمام ابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله: (أجمع العلماء على عظم موقع هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام) (20)

في الحديث تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أقسام:

  1. حلال بيّن كلٌّ يعرفه كالثمر، والبر، واللباس غير المحرم، وأشياء لا حصر لها.
  2. حرام بيّن كلٌّ يعرفه كالزنا والسرقة وشرب الخمر وما أشبه ذلك.
  3. مشتبه لا يعرف هل هو حرام أم حلال؟ وسبب الاشتباه إما: الاشتباه في الدليل، أو الاشتباه في انطباق الدليل على المسألة. (21)

وغالب ما تكون المتشابهات في الأمور المستجدة مثل حكم شرب الدخان في بداية ظهوره، فقد اختلف فيه العلماء بين الإباحة والكرهة والتحريم حتى تبين ضرره فاتفقت الفتيا بتحريمه، ومثل الأمور الطبية، والمالُ المختلط، والمعاملات المالية الحادثة، ونحو ذلك.

قوله صلى الله عليه وسلم: « (لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)» يعني هذه المتشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ويعلمهن كثير، فكثير لا يعلم وكثير يعلم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: لا يعلمهن أكثر الناس، ولو قال: لا يعلمهن أكثر الناس لصار الذين يعلمون قليلاً. (22)

قال صالح آل الشيخ (المتشابهات هذه لها حالان الحالة الأولى ما تشتبه على العلماء، والحالة الثانية ما تشتبه على غير العالمِ فيجب ألا يوقعها حتى يردها إلى العالمِ)(23)  وقال ابن العطار تلميذ الإمام النووي رحمهما الله (المتشابهات: معناها أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، أما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك)(24)

(ويمتنع أن يوجد في النصوص ما يستغلق على جميع أهل العلم في جميع الأقطار وفي جميع العصور؛ لأنَّ القرآن تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل 89] وقال تعالى: (مَّا فَرَّطۡنَا فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مِن شَیۡءࣲۚ) [سورة الأنعام:38] والنبي صلى الله عليه وسلم أنزل إليه القرآن ليبين للناس، فما ترك شيئاً مما تحتاجه الأمة إلا بيَّنه. (25)

من أساب الاشتباه:  

  1. عدم بلوغ الدليل فتكون المسألة مشتبهة على العالمِ لعدم وقوفه على الدليل.
  2. الاختلاف في فهم الدليل.
  3. عدم الاطلاع على المخصِّص أو المقيِّد أو الناسخ، فيقف العالمِ على الدليل العام فقط ويخفى عليه المخصِّص أو المقيِّد أو الناسخ.
  4. الاختلاف في فهم الدليل في الأدلة التي ظاهرها التعارض.(26)

وهذا متعلق باستنباط الحكم من الدليل، وهناك اشتباه متعلق بتنزيل الحكم على الواقعة وبحث ذلك في أصول الفقه.

«(فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ)» أي: تجنبها.

«  (اسْتَبْرَأَ)» أي أخذ البراءة

  «(لِدِينِهِ)» فيما بينه وبين الله تعالى.

  «(وَعِرْضِهِ) » فيما بينه وبين الناس، لأن الأمور المشتبهة إذا ارتكبها الإنسان صار عرضة للناس يتكلمون في عرضه. (27) قال ابن رجب رحمه الله: (والعرض: هو موضع المدح والذم من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدحٌ، وبذكره بالقبيح قدحٌ، وقد يكون ذلك تارةً في نفس الإنسان، وتارةً في سلفه، وتارةً في أهله) (28)

«(وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ)» هل المراد أن ارتكاب الشبهات حرام، أو أن ارتكاب الشبهات سبب ووسيلة للوقع في الحرام؟

الجواب: أن الوقوع في الشبهات سبب ووسيلة للوقوع في الحرام وذلك من نفس الحديث، حيث ضرب صلى الله عليه وسلم مثلاَ بــــ «ـ(الرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ)» فمن وقوع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام، و (يوشك) من أفعال المقاربة.

ولأنه صلى الله عليه وسلم قسم الأحكام هنا إلى ثلاثة أقسام حلال، وحرام، وشبهات، ولو كان فعل الشبهات محرماً لكانت القسمة حلالاً وحراماً فقط.

ولا تعني هذه القسمة أن من وقع في الشبهات لا شيء عليه، فالشبهات قرِّبت وقرنت وربطت بالقسم الثالث وهو المحرم، وجعلت موصلة إليه دون القسم الأول وهو الحلال، وصُوِّر أن الواقع في الشبهات واقع في الحرام، إما لكونه انتقل به للقسم الثالث، أو لأنه وقع في أمر محرم حيث لم يستبرئ لدينه وأقدم على أمر دون حجة،   فالمكلف واجب عليه التوقف، وسؤال أهل الذكر حتى يزول الاشتباه، وواجب الاستبراء للدين، وواجب عليه سد الذرائع الموصلة لانتهاك محارم الله، والوسائل لها حكم المقاصد، ومن تهاون في تعاطي المتشابهات فيوشك أن يأتي المحرمات البينة الواضحة ولا يبالي، وفي رواية عند البخاري « (ومَنِ اجْتَرَأَ علَى ما يَشُكُّ فيه مِنَ الإثْمِ، أوْشَكَ أنْ يُواقِعَ ما اسْتَبانَ) » (2051) وفي رواية «(مَن يُخالِطُ الرِّيبةَ يوشِكُ أنْ يَجسُرَ)» [أخرجه أبو داود 3329 ] يقول ابن رجب رحمه الله (من تعدى الحلال ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة)(29)

«(كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ)» راعي الماشية قد لا يستطيع منع الدواب من الرعي في المكان المحمي، وعادة يكون المرعى المحمي أكثر عشباً، فالماشية ترعى أولاً مما حولها، ثم تُستدرج فتأكل مما يليه حتى تصل للمكان المحمي، وهو مثل ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

«(أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى)»

(أَلَا) حرف تنبيه وتوكيد.

 (وَإِنَّ) حرف توكيد.

«(لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى)» هذا بيان للواقع، والملوك يحمون، ومنهم من يحمي بحق فيكون من نوع المباح، ومنهم من يحمي ظلماً وعدواناً لمنع الناس مما أباحه الله لهم من المصالح الخاصة، وهذا من نوع المحرم. (30)

«(أَلَّا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)» وفي رواية عند أبي داود (وإنَّ حِمى اللهِ عزَ وجلَّ ما حَرَّم)

(فمن يستعمل الوسائل الموصلة إلى المحرمات سيجد نفسه في يوم من الأيام مقارفاً للمحرمات، فقد يحرص الشخص على الحلال في أول الأمر ليستبرئ لدينه وعرضه، ثم يقوده النهم على الدنيا، المشار إليه في الأثر (منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنیا)، إلى أن يأتي إلى الأمور المختلف فيها وإن كان الراجح جوازها، ثم ينتقل إلى الأمور المختلف فيها حتى وإن كان المرجح تحريمها، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المحرم المجمع عليه) (31)

قلت لا يلزم أن يكون ذلك في جميع أحواله بل قد يواقع نوعاً من الشبهات في مسألة من المسائل وينتقل منها إلى المحرم في تلك المسألة، فمستقل ومستكثر، وكثير من الزلل سبقه التهاون في المتشابه الذي من جنسه، فهو ليس بمعنى الانتكاسة وترك الاستقامة بالكلية والله أعلم.

  «(أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)»

قال ابن رجب رحمه الله (فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتِّقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قبله. فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلُّها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات). (32)

فيجب العناية بالقلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، لأن القلب عليه مدار الأعمال، وهو الذي يُمتحن عليه الإنسان يوم القيامة، كما قال تعالى: {(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ۝ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)} [سورة العاديات:9-10]، وقال تعالى: {(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ۝ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)} [سورة الطارق:8-9] فطهِّر قلبه من الشرك والبدع والحقد على المسلمين والبغضاء، وغير ذلك من الأخلاق أو العقائد المنافية للشريعة، فإن القلب هو الأصل. (33)

وتأمل في قول رسول اللهِ ﷺ: «(إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسادِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) » وفي لفظ «(إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى صُوَرِكُمْ وَأَمْوالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)» (رواه مسلم 2564) فتدبر كلماته.

ومن الكتب النافعة في العناية بالقلب:

  1. في التوحيد: الأصول الثلاثة وكشف الشبهات، وكتاب التوحيد. جميعها للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
  2. في العقيدة: لمعة الاعتقاد، العقيدة الواسطية، العقيدة الطحاوية على الترتيب بشرح ابن عثيمين وصالح آل الشيخ.
  3. في أدواء القلوب: الداء والدواء لابن القيم بل عامة كتب ابن القيم ، والمجلد العاشر في السلوك من مجموع فتاوى ابن تيمية، والسير والأخلاق في مداواة القلوب لابن حزم الأندلسي، والإخلاص لابن أبي الدنيا.
  4. وفي تعزيز اليقين وزيادة الإيمان كتاب: دلائل أصول الإسلام. إعداد مركز صناعة المحاور.

وللشيخ عبد الله العجيري محاضرة بعنوان (طالب العلم والمكون الإيماني) وهي من الأهمية بمكان.

من فوائد الحديث:

  • التحذير من الوقوع في الشبهات، والإرشاد إلى العناية بعمل القلوب وأن صلاح الأعمال تبع لصلاحه.
  • في هذا الحديث حث للمرء ألا يأتي ما يُعاب عليه في عرضه، فالمؤمن يراعي نظر إخوانه المؤمنين إليه ولا يقول أنا لا أهتم.

والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بدر الصاعدي

الهوامش

  1. جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 15)
  2. أورده ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص 18
  3. نقله عنه القرطبي في بهجة المجالس ج 1ص189
  4. الأذكار للإمام للنووي ص 34
  5.   أنظر شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص11
  6. (قال شارح الطحاوية وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين) لو قال: مؤمنين، بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن مَنْ عرف الله ولم يؤمن به كافر. وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم، وقوله مردود باطل فإن إبليس عارفٌ بربه (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة الأعراف:13-15]. وكذلك فرعون وأكثر الكافرين، قال تعالى (﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة لقمان: 25] شرح الطحاوية لأبن أبي العز ص 565)
  7. جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 18)
  8. المصدر السابق (ص 18). وهذا أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما الحافظ ابن رجب وقد رجحه صالح آل الشيخ بل عليه كلام الشراح، والاحتمال الآخر مجمله أن صدور الفعل من البشر لابد أن تسبقه إرادة للفعل وإلا لما وجد الفعل وهذا المعنى تحصيل حاصل غير مراد في الحديث، والله أعلم.
  9. شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد، ص14
  10. منهاج السنة لابن تيمية، ص6 ج 221
  11. جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص 107
  12. شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد، ص 32-33
  13. شرح الأربعين النووية لابن عثيمين. ص 123
  14. شرح الأربعين النووية للعبد الكريم الخضير. ص 115
  15. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [رقم:4607]، وَاَلتِّرْمِذِيُّ [رقم:2676] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
  16. شرح الأربعين النووية للعبد الكريم الخضير، ص124
  17. شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ، ص 131-133
  18. شرح الأربعين النووية لابن عثيمين، ص 124
  19. المصدر السابق، ص 124-126 مع الاختصار.
  20. شرح الأربعين النووية لابن العطار، ص74
  21. شرح الأربعين النووية لابن عثيمين، ص 132
  22. المصدر السابق ص 133
  23. شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ، ص148
  24. شرح الأربعين النووية لابن العطار، ص 75
  25. شرح الأربعين النووية لعبد الكريم الخضير، ص 137
  26. المصدر السابق 139،138 
  27. شرح الأربعين النووية لابن عثيمين، ص 133
  28. جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص 128
  29. المصدر السابق، ص 132
  30. شرح الأربعين النووية لعبد الكريم الخضير، ص 157
  31. المصدر السابق، ص 159
  32. جامع العلوم والحكم لابن رجب، ص 134
  33. شرح الأربعين النووية لأبن عثيمين، ص 141