وبشر الصابرين

"إن المؤمن حين يعيش مع هذه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله يهنأ ويسكن ويرتاح راجيا ما عند الله من خير الدنيا والآخرة".

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - تزكية النفس -

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الله تعالى أمر عباده بالصبر فقال:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

فلا ينال العبد ما يؤمله من خير الدنيا والآخرة إلا إذا تحلى بالصبر.

وقال الله تبارك وتعالى:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].


‌‌أهمية الصبر:
قال ابن تيميّة -رحمه الله تعالى-: (قد ذكر الله الصّبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعا. وقرنه بالصّلاة في قوله تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} [البقرة: 45] ، وجعل الإمامة في الدّين موروثة عن الصّبر واليقين بقوله:{وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فإنّ الدّين كلّه علم بالحقّ وعمل به، والعمل به لا بدّ فيه من الصّبر. بل وطلب علمه يحتاج إلى الصّبر.

كما قال معاذ بن جبل- رضي الله عنه-: عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجّد الله ويوحّد، يرفع الله بالعلم أقواما يجعلهم للنّاس قادة وأئمّة يهتدون بهم وينتهى إلى رأيهم.


فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بدّ في الجهاد من الصّبر، ولهذا قال تعالى: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر] ، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ} [ص: 45].

فالعلم النّافع هو أصل الهدى، والعمل بالحقّ هو الرّشاد، وضدّ الأوّل الضّلال، وضدّ الثّاني الغيّ.

فالضّلال العمل بغير علم، والغيّ اتّباع الهوى، قال تعالى:
{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى} [النجم/ 1- 2].

فلا ينال الهدى إلّا بالعلم ولا ينال الرّشاد إلّا بالصّبر. ولهذا قال عليّ: ألا إنّ الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، فإذا انقطع الرّأس بان الجسد، ثمّ رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له).
هذا الكلام من شيخ الإسلام ابن تيمية يبين بجلاء منزلة الصبر من الدين.

وإذا رجعت إلى كلام خير البشر صلى الله عليه وسلم لوجدت ما تستأنس به أنفس المحبين، وتطمئن به قلوب الصابرين، فعن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد».


وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة».

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسوة من الأنصار رضي الله عنهن: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة». فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: «أو اثنين».


وعن أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مصيبة يصاب بها المسلم، إلّا كفّر بها عنه حتّى الشّوكة يشاكها».

وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتّى يلقى الله وما عليه خطيئة».

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ( (التعب) ) ولا وصب ( (الوجع) ) ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ- حتّى الشّوكة يشاكها، إلّا كفّر الله بها من خطاياه».
إن المؤمن حين يعيش مع هذه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله يهنأ ويسكن ويرتاح راجيا ما عند الله من خير الدنيا والآخرة.

وقد عرف السلف رضي الله عنهم وأرضاهم قيمة الصبر فعاشوه ونعموا به وأوصوا بالتحلي به.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (أفضل عيش أدركناه بالصبر ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا).

وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر).

وقال عمران بن حصين - رضي الله عنه -: (ثلاث يُدرك بهن العبد رغائب الدنيا والآخرة: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والدعاء في الرخاء).

وقال الحسن البصري: (الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده).

وقال إبراهيم التيمي: (ما من عبد وهب الله له صبرًا على الأذى وصبرًا على البلاء وصبرًا على المصائب، إلا أوتي أفضل ما أوتيه أحد بعد الإيمان بالله).

وقال سليمان بن القاسم: (كل عمل يُعَرفُ ثوابه إلا الصبر قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال: كالماء المنهمر).

الصبر عند الصدمة الأولى:
إذا كان الصبر على المصيبة يثاب عليه صاحبه، فإن أكثر الصبر ثوابا ما كان عند بداية المصيبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى».

قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: (قوله صلى الله عليه وسلم: الصبر عند الصدمة الأولى ـ وفي الرواية الأخرى: إنما الصبر ـ معناه الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر الجزيل؛ لكثرة المشقة فيه).
وفي عمدة القاري للعيني (وحاصل المعنى: أن الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولى، هو الذي يكون صبرا على الحقيقة، وأما السكون بعد فوات المصيبة، ربما لا يكون صبرا، بل قد يكون سلواه، كما يقع لكثير من أهل المصائب، بخلاف أول وقوع المصيبة، فإنه يصدم القلب بغتة، فلا يكون السكون عند ذلك والرضى بالمقدور إلا صبرا على الحقيقة).

علاج المصائب ومدافعتها:
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في علاج المصائب ومدافعتها: (ومن علاجها أن يعلم أن الجزع لا يَرُدُّها، بل يضاعفها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض.
ومن علاجها أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم، وهو الصلاة والرحمة، والهداية التي ضمنها الله على الصبر، والاسترجاع، أعظم من المصيبة في الحقيقة.

ومن علاجها أن يعلم أن الجزع يُشمِت عدوه، ويسوء صديقه، ويُغضب ربه، ويَسُر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أنضى شيطانه ورده خاسئا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه، وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بالويل، والثبور، والسخط على المقدور.

ومن علاجها: أن يعلم أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرّة، أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه، واسترجاعه فلينظر: أي المصيبتين أعظم؟ مصيبة العاجلة، أو مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد.

وفي الترمذي مرفوعا: يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا؛ لما يرون من ثواب أهل البلاء. وقال: بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس.

نسأل الله تعالى أن يعافينا في الدنيا والآخرة وأن يرزقنا الصبر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.