صفحات مضيئة من حياة الفاروق رضي الله عنه الرحمة العمرية (5)

فاطمة الأمير

ما زلنا نعيش مع شخصية عمر بن الخطاب، تلك الشخصية العجيبة، فإذا كنا تحدثنا عن قوته وشدته، فالآن نتحدث عن رحمته،

  • التصنيفات: قصص الصحابة -

 

ما زلنا نعيش مع شخصية عمر بن الخطاب، تلك الشخصية العجيبة، فإذا كنا تحدثنا عن قوته وشدته، فالآن نتحدث عن رحمته، فلكل إنسان خبايا من الرحمة مهما بلغت شدته أو قوته، لكنَّ رحمةَ عمرَ لم تكن من الخبايا، بل عنوانًا أصيلًا في شخصيته.

رحمته بالرعية:

وأما عن رحمة وتواضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلكل إنسان خبايا من الرحمة مهما بلغت شدته أو قوته، فها هي رحمة عمر بن الخطاب تظهر في تلك المواقف، فتُعلِن عما حَوَتْهُ نفسه من رحمة عميقة بمن حوله، فمن رحمته بالرعية أنه كان يشترط في وُلاتِهِ الرحمة والشفقة على الرعية، وكم مرةٍ أمَرَ قادته في الجهاد ألَّا يُغرِّروا بالمسلمين ولا ينزلوهم منزل هَلَكَةٍ، وكتب عمر لرجل من بني أسْلَمَ كتابًا يستعمله به، فدخل الرجل على عمر وبعض أولاد عمر على حِجْرِ أبيهم يُقبِّلهم، فقال الرجل: "تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فوالله ما قبَّلت ولدًا لي قط، فقال عمر: أنت والله بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملًا"، وردَّه عمر فلم يستعمله؛ لقد كان لعمر بُعْدُ نظرٍ وحكمة من هذا القرار، لقد رأى أنه كيف لمن لا يمتلك رحمة في قلبه لأهل بيته أن تكون بداخله رحمة لمن سيتولى أمرهم، ويكون واليًا عليهم.

رحمة أمير المؤمنين الممزوجة بالتواضع:

ويُروى عن رحمة عمر الممزوجة بالتواضع، أنه كان من عادة الفاروق أن يخرج ليتفقد أحوال رعيته، فخرج ذات ليلة فإذا امرأة تلد وتبكي، وزوجها لا يملك حيلة، فأسرع عمر رضي الله عنه إلى بيته، فقال لامرأته أم كلثوم بنت عليِّ بن أبي طالب: هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ ثم أخبرها الخبر، فقالت: نعم.

فحمل عمر على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها يحدثه ويطمئنه، ويُعِدُّ معه الطعام، فوضعت المرأة غلامًا، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين، بشِّر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر، فقال عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، ثم أعطاه ما ينفقون وانصرف.

فأين حُكَّام اليوم ليشاهدوا حال عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين، وهو يتفقد رعيته ويعمل على راحتهم؟ أين هم ليتعلموا فقه التواضع والرحمة في الإمارة والخلافة، ويُحقِّقوا الرحمة بين الرعية؟

رحمته بالدواب:

أما عن رحمته بالدواب، فلقد ارتقى قلبه لمنزلة أشد رحمة، حتى كان يقول: "لو مات جملٌ في عملي ضياعًا على شطِّ الفرات، لَخشيتُ أن يسألني الله عنه".

رحمته بالمشركين:

وأما عن رحمة عمر بن الخطاب بالمشركين، فها هو الفاروق يبثُّ نصائحه لجنوده أثناء قتالهم لنشر دين الله؛ يقول ابن عمر قال: "كتب عمر إلى أمراء الأجناد: ألَّا تقتلوا امرأةً ولا صبيًّا، وأن تقتلوا من جرت عليه المواسي"؛ [مصنف ابن أبي شيبة (33119)، بسند صحيح].

إنها حقًّا رحمة عمر التي شمِلت الصغار والكبار، والرجال والنساء، والإنسان والحيوان، والمسلم والكافر، هكذا كان يَرِقُّ قلب الفاروق، فيا ليته كان بيننا اليوم.

ولكنَّ تلك الرحمة لا يمكن أن تأتي في غير موضعها، أو تتعارض مع الحق، فقد كان شديدًا في الحق؛ فقد أشار عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم في أُسارى بدر أن يقتلهم، فقال: «((يا رسول الله، أخرجوك وكذَّبوك، قرِّبهم فاضرب أعناقهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مَثَلَك يا عمر كَمَثَلِ نوح قال» : {﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾} [نوح: 26]، وإنَّ مَثَلَك يا عمر كَمَثَلِ موسى قال: {﴿ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾} [يونس: 88]))؛ [رواه الإمام أحمد].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «((والذي نفسي بيده، ما لَقِيَك الشيطان قط سالكًا فَجًّا، إلا سلك فجًّا غير فَجِّـك))» ؛ [رواه البخاري ومسلم].

ترعرع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كَنَفِ والده، فورِث منه الصرامة والشدة والحزم، فكان لا يقبل أنصافَ الحلول، فظهر حزمه في بعض المواقف؛ يَروِي لنا سويد بن غفلة رحمه الله: "جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب وهو بالشام يستعدي على عوف بن مالك الأشجعي أنه ضربه وشجَّه، فسأل عمرُ عوفًا عن ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تُصرع، ثم دفعها فجرت عن الحمار، ثم تغشَّاها، ففعلت ما ترى.

فذهب إليها عوف، وأخبرها بما قال لعمر، فذهبت لتجيء معه، فانطلق أبوها وزوجها فأخبروا عمر بذلك.

قال: فقال عمر لليهودي: والله ما على هذا عاهدناكم، فأمر به فصُلب، ثم قال: يا أيها الناس: فُوا بذمَّةِ محمدٍ، فمن فعل منهم هذا، فلا ذمة له".

بقلم/ فاطمة الأمير