ما هو المباح الذي نتقرب إلى الله به؟
أقوالنا وأفعالنا لا تخلو من ثلاث أحوال إما مأمور بها أو منهي عنها أو مباحة فالمأمور به نثاب على فعله تعبدا لله سواء كان واجبا أو مستحبا والمنهي نتركه لله تعبدا فنؤجر على تركه وإذا تركناه غفلة لم نؤجر عليه أما المباح فلا يتعلق به أمر ...
- التصنيفات: فقه العبادات - أعمال القلوب -
أقوالنا وأفعالنا لا تخلو من ثلاث أحوال إما مأمور بها أو منهي عنها أو مباحة فالمأمور به نثاب على فعله تعبدا لله سواء كان واجبا أو مستحبا والمنهي نتركه لله تعبدا فنؤجر على تركه وإذا تركناه غفلة لم نؤجر عليه أما المباح فلا يتعلق به أمر ولا نهي فالأصل في فعله وتركه الجواز لكن في مواطن يكون فعل المباح عبادة يؤجر المسلم والمسلمة عليه وكلامي بين أيديكم هذه الدقائق ماهو المباح الذي نتقرب لله به؟ وماهو المباح الذي لانتقرب لله به؟ فأقول مستعينا بالله.
المباحات التي يستعان بها على طاعة الله نثاب عليها وتكون عبادة وقربة فالوسائل لها أحكام المقاصد كالنوم في النهار والنوم في الليل مبكرا ليستعين النائم بذلك على صلاة القيام وصلاة الفجر فهذا النوم عبادة يؤجر عليه النائم لأنه وسيلة لصلاة الفرض والنفل قال معاذ بن جبل مخاطبا أبا موسى الأشعري أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي رواه البخاري (4345) وفي رواية مسلم (1824) تذاكرا - أبو موسى ومعاذ - القيام من الليل فقال معاذ أما أنا فأنام وأقوم وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي.
وإذا كانت العبادة لاتأتى إلا بالمباح فنؤجر عليه كالمشي والركوب للصلاة وسائر أبواب الخير فيؤجر المسلم على تنقلاته لمواطن الخير لأنها وسيلة لتلك العبادات ولايمكن حصول العبادة إلا بذلك يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ﴾ [سورة التوبة: 120] فجعل الله مشيهم في الجهاد وتنقلهم وتعبهم في ذلك عملا صالحا.
الأكل والشرب من المباحات فإذا كان يتقوى بهما على أمور الدين أو الدنيا التي يحتاجها الشخص فيؤجر على ذلك فعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» )) (رواه البخاري (1923) ومسلم (1095)) فندب النبي صلى الله عليه وسلم الصائمين لأكلة السحر ليتقووا بها على الصيام بقية يومهم.
ويكون المباح عبادة وقربة إذا كان طاعة للأبوين فإذا أمر الأبوان بأمر مباح وجب على الولد طاعتهما ما لم يتضرر بذلك فمثلا في شدة البرد تأمر الأم ولدها بلبس ملابس شتوية فيؤجر الولد على لبسه أو تأمر الأم ولدها بأكل طعام أو بشرب شراب فيؤجر على أكله وشربه لأنه طاعة لأمه.
الرياضة من المباحات إذا لم يكن فيها منكر أو كانت تلهي عن واجب كترك الصلاة المفروضة أو توقع في محرم كالنزاع الذي يحصل بين المتنافسين فالأصل فيها الإباحة وإذا كانت تمنع من محرم أو تحصل بها مصلحة شرعية أو تتقوى بها الأبدان فتستحب في هذه الحال لا لذاتها إنما للمصالح المترتبة عليها قال ابن القيم في الفروسية ص: 85 ما ليس فيه مضرة راجحة ولا هو أيضا متضمن لمصلحة راجحة يأمر الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يحرم ولا يؤمر به كالصراع والعدو والسباحة وشيل الأثقال ونحوها فهذا القسم رخص فيه الشارع بلا عوض إذ ليس فيه مفسدة راجحة وللنفوس فيه استراحة وإجمام وقد يكون مع القصد الحسن عملا صالحا كسائر المباحات التي تصير بالنية طاعات فاقتضت حكمة الشرع الترخيص فيه لما يحصل فيه من إجمام النفس وراحتها واقتضت تحريم العوض فيه إذ لو أباحته بعوض لاتخذته النفوس صناعة ومكسبا فالتهت به عن كثير من مصالح دينها ودنياها فأما إذا كان لعبا محضا ولا مكسب فيه فإن النفس لا تؤثره على مصالح دنياها ودينها ولا تؤثره عليها إلا النفوس التي خلقت للبطالة. انتهى كلامه.
الترويح عن النفس في السفر والتنزه مع قيام المسلم بما افترضه الله عليه من الأمر والنهي فالنفوس عادة بعد الاستجمام تقبل على الطاعة وتقوم بالحقوق الواجبة عليها للمخلوقين فمتى احتسب المسلم ذلك لنفسه وللترفيه عن أهله أثيب على ذلك.
تعاطي العلاج سواء كان حسيا بالأدوية أو معنويا بالرقية الشرعية يكون عبادة يؤجر عليها المسلم إذا كان ذلك أعون له على الخير أو ينتفع المسلمون به إذا كان صحيحا وإذا مرض قل خيره عنهم أو انقطع.
ترك المباحات جائز كمن يترك بعض الأطعمة فلا يأكلها أو بعض الأشربة أو بعض المراكب من غير تحريم لها كمن تركها حمية أو عدم رغبة فيها لكن لو تركها تعبدا لله معتقدا أن هذا من الزهد المأمور به فتركه محرم في هذه الحال فعن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فحمد الله وأثنى عليه فقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه البخاري (5063) ومسلم (1401) فلا نتعبد الله إلا بما شرعه لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لا بأهوائنا وأذواقنا.
المباحات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم من غير قصد القربة بحسب عادة قومه أو بمقتضى طبيعته فلا يتعبد الله بها في أصح قولي أهل العلم كلبس العمامة وأكل الدباء [القرع] فمن وافق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بسبب ميل نفسه لذلك من غير اعتقاد استحباب ذلك فهذا من المباح.
في حديث أبي ذر وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا رواه مسلم (1006).
ويستفاد من الحديث أن الأعمال التي يقوم بها الموظفون سواء كانوا يعملون لأنفسهم أو لغيرهم في قطاع حكومي أو خاص يؤجرون عليها إذا اتقوا لله فيها ولم يخونوا الأمانة فإذا كان عليهم وزر إذا لم يقوموا بالواجب فلهم أجر إذا قاموا به وأيضا هذه الأعمال سبب وحيد عند بعض العاملين لأداء النفقة الواجبة عليهم فيكون العمل واجبا عليهم ويؤجرون عليه كما أنهم لو لم يعملوا في هذه الحالة آثمون.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز في مجموع الفتاوى (2/314) أنواع الصناعات المباحة واستخراج المعادن والزراعة والفلاحة وغير ذلك.... مع صلاح النية تكون عبادة، ومع خلوها من ذلك تكون أمورا مباحة، وقال النووي في شرحه على مسلم (7/92) في هذا - حديث أبي ذر السابق - دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة انتهى.
فالمباحات تكون عبادة بنية التعبد لعموم حديث «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرء ما نوى» لكن إذا كان المباح يتعدى نفعه للآخرين فيؤجر المسلم عليه ولو لم يستشعر التعبد لله كما دل على ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن معاشرة الزوجة فيها أجر وظاهر الحديث ولو لم ينو التعبد لله بذلك ومثله ما يؤكل من الزروع والثمار يؤجر عليها صاحبها ولو لم يستشعر التعبد لله والله أعلم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» (رواه البخاري (2320) ومسلم (1553)). لكن من استشعر التعبد لله أثناء الزرع والغرس أفضل من الغافل قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في لقاء الباب المفتوح (5/ 53) إذا فعل المباح ولم ينوِ أنه عبادة فليس فيه أجر، إلا إذا كان فيه نفع متعدٍ، مثل: أن يطعم الإنسان أهله الذين تجب عليه نفقتهم فيطعمهم، فهنا قد لا يستحضر النية ويكون له الأجر، وكذلك إن زرع حباً أو غرس نخلاً فأصاب منه طير أو دابة أو إنسان فإنه يكتب له الأجر. انتهى.
تذكر أخي أنك تستطيع التقرب لله تعالى بكثير من المباحات إذا نويت التعبد لله بذلك فالمباحات بالنية الحسنة واستشعار التعبد لله تكون عبادة في الأكل والشرب والنوم والجماع ولبس الثوب والنعل وخلعه والدخول والخروج أو غير ذلك وإذا لم يكن عندك علم تفرق به بين مسائل المباحات التي تتقرب بها إلى الله وبين ما لايشرع التقرب إلى الله به فسل من تثق بدينه وعلمه فإنما شفاء العي السؤال.
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان