رمضان شهر المسابقة والمنافسة

فيا سعادة من جعل من رمضان وقت تغير وتحول في حياته من المعاصي إلى الطاعات، ومن الإصرار على الذنوب إلى التوبة النصوح والمسارعة في فعل الخيرات.

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -

أيها الصائمون يقو الله تعالى:

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ﴾[آل عمران: 133].

 

ويقول تعالى: {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} ﴾ [الحديد: 21].

 

عباد الله: رمضان شهر المسابقة والمسارعة والمنافسة في الطاعات والخيرات.

 

فيا سعادة من جعل من رمضان وقت تغير وتحول في حياته من المعاصي إلى الطاعات، ومن الإصرار على الذنوب إلى التوبة النصوح والمسارعة في فعل الخيرات. ويا شقاوة من هتك حُرمة هذا الشهر، ودنسه بالمعاصي والسيئات! فنهاره نومٌ وخمول، وليله سهر على ما حرم الله!

 

أيها الصائمون الموحدون: حذّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من التنافس على الدنيا وأنه سبب للهلاك فقد قَدِم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم وقال: «أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء»؟ قالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأملوا ما يسركم فو الله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم». (البخاري (3158) ).. وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: «إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة». وقال عمر بن عبد العزيز: في حجة حجها عندما نزل الناس من عرفة: «ليس السابق اليوم من سبق بعيره إنما السابق من غفر الله له»... اللهم اغفر لنا يا غفار.

 

وكان أبو مسلم الخولاني وهو من التابعين إذا قام الليل يصلي وتعبت قدماه ضربها بيديه وقال: «أيحسب أصحاب محمد أن يسبقونا برسول الله والله لنزاحمنهم عليه في الحوض» الله أكبر ما هذه الهمم والعزائم في فعل الخيرات والمسابقة في الخيرات.

 

أخوين من الصالحين كانا يتنافسان في فعل الخير في القيام والصيام وتلاوة القران والدعوة إلى الله، أحدهم رأى في المنام رؤيا أن القيامة قامت وأن صاحبه قد دخل الجنة وحلّ في الفردوس الأعلى، أما هو ففي منزلة أقل، فقال يارب نتنافس في كل شيء كفرسي رهان لماذا هو في الفردوس الأعلى؟

فسمع من يقول: «صاحبك فلان سألني الفردوس الأعلى أنت سألتني الجنة فقط ما سألتني الفردوس»... يا الله كم نحن بخلاء حتى في الدعاء، أخي الصائم: لك دعوة لا ترد عند إفطارك فلا تفرط فيها، وسل الله ما شئت فخزائنه ملأنه لا تنفد أبدا. قال -صلى الله عليه وسلم- رافعاً من هممنا: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وسقفه عرش الرحمن» (أخرجه البخاري في الجهاد (2790) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بنحوه).

 

عباد الله: التنافس على الخيرات في الدنيا سبب لتفاوت الأجر في الآخرة كلٌ حسب عمله وعلو همته ومسارعته إلى الخيرات، فالجنة درجات قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: -1014 ].

 

أيها المؤمنون عباد الله: يأتي الفقراء من الصحابة إلى رسول الله يشتكون الأغنياء؛ هل لأنهم لم يعطوهم مما أعطاهم الله؟ أو أنهم لم يتفقدوا جائعهم ومحتاجهم؟ أو لأنهم يأكلون أفضل منهم ويلبسون أحسن منهم؟ كلا لم يكن ذلك هو السبب؛ بل قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يُصلون كما نُصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: «أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة. وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكرٍ صدقة». (مسلم/ 1006)، فرح الفقراء بذلك، فلما قُضيت الصلاة فإذا لهم زجَل بالتسبيح والتكبير والتحميد، التفت الأغنياء فإذا الفقراء يُسبّحون، سألوهم عن ذلك، فأخبروهم بما علّمهم النبي عليه السلام، فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء، حتى تسابقوا إليها.. نعم.. إذا أبو بكر يُسبّح.. وإذا ابن عوف يُسبّح.. وإذا الزبير يُسبّح.. فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام.. فقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا.. ففعلوا مثلنا.. فعلّمنا شيئاً آخر.. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».

 

ويوم أن دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للإنفاق والاستعداد للجهاد في سبيل الله فإذا بالصحابة يسارعون بأموالهم وأنفسهم كلٌ حسب طاقته وقدرته بل ينادي -صلى الله عليه وسلم- «من يجهّز جيش العسرة وله الجنة» فيقوم عثمان بن عفان رضي الله عنه ويحهّز الجيش بماله فيقول -صلى الله عليه وسلم-: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، ويأتي الفقراء يريدون المشاركة والمنافسة على هذا الباب من أبواب الخير لكنهم لا يملكون زاداً ولا راحلة فيأتون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه ما يحملهم عليه للغزو فقال لهم: «والله لا أجد ما أحملكم عليه»، فهل عادوا فرحين مستبشرين لأن الجهاد سقط عنهم، أو لأنهم لا يجدوا ما ينفقوا فبرئت ذمتهم؛ بل تولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا ولا ينافسوا في هذا الخير فأنزل الله عذرهم في كتابه فقال: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 90].. في يوم من الأيام يسمع الصحابة قول الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].

 

وكان بينهم أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه وكان قد بلغ من العمر ثمانون عاماً فقال: لبنيه وكانوا أربعة يا بني جهزوني أريد الخروج في سبيل الله. قالوا: لقد عذرك الله فأنت رجل كبير وقد قاتلت وجاهدت مع رسول الله وأصحابه ونحن نكفيك قال: إن الله لم يعذر أحد فقال: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، فخرج في جيش المسلمين لفتح القسطنطينية ومات في السفينة وظل سبعة أيام لم يجدوا جزيرة يدفنوه بها حتى دُفن تحت أسوار القسطنطينية طلباً لرضوان الله وطاعته ورغبةً في الفوز بجنته.

 

استهم يوم بدر خيثمة بن الحارث وابنه سعد رضي الله عنهم، فخرج سهم سعد، فقال له أبوه: «يا بُني آثرني اليوم «فقال له سعد:» يا أبت لو كان غير الجنة فعلت«، فخرج سعد إلى بدر فقُتل شهيداً فيها، ومازال أبوه خيثمة يتطلع إلى الجنة حتى كان يوم أحد، فقتل شهيداً يوم أحد.

 

عبد الله: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تربيته لأصحابه يركز على إذكاء روح التنافس في الأعمال التي يعود نفعها على المرء في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أصبح منكم اليوم صائماً»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم اليوم مسكيناً»؟ قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم مريضاً»؟ قال أبو بكر: أنا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة» (مسلم 2/713 برقم (1028) )..

 

وكان -صلى الله عليه وسلم- يوجه إلى التنافس على فضائل العبادات والطاعات فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عليه لاسْتَهَمُوا. وَلَوْ يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إليه. ولَوْ يعلمون ما في العَتَمَةِ والصُّبْحِ لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوا» (متفق عليه)..

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا من الجنة كلما غدا أو راح». (البخاري، الفتح (2/173) برقم 662).

 

وكان -صلى الله عليه وسلم- يحذّر من انحراف النفوس عن هذا الطريق فتتحول المنافسة على الدنيا وشهواتها وأموالها ومتاعها فتضعف القيم، ويندثر الدين، وتسوء الأخلاق، وتزيد الهموم؛ وهذا ما يعيشه كثير من الناس اليوم، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا شَدَّادُ بْنَ أَوْسٍ! إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدِ اكْتَنَزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا ، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ». (رواه الطبراني في المعجم الكبير (6992)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة وقال: " إسناده صحيح" (3228)). عباد الله: - إن التنافس المحمود في أمر الدنيا هو ذلك التنافس الذي يهدف إلى خدمة الفرد والمجتمع والأمة، وبه تتطور الأمة وتتقدم في جميع نواحي الحياة سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتربوياً وبه ينتشر بسببه الحب والتسامح والألفة بين أفراد المجتمع.

 

أين من يتنافسون في كفالة اليتامى وإطعام المساكين.

أين من يتنافسون في دعم الجهاد والمجاهدين في فلسطين وغيرها من بقاع الأرض.

أين من يتنافسون في بر الوالدين وإرضاءهما.

أين من يتنافسون في طلب العلم والمزاحمة في. حلقات العلم.

أين من يتنافسون في الصيام والقيام وتلاوة القران والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

فلنتنافس في العبادات والطاعات ولنتسابق إلى الخيرات ولنسارع إلى ما يحبه الله ويرضاه. هذا وصلوا على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...

_______________________________________________
الكاتب: د. أمير بن محمد المدري