وما يعلم جنود ربك إلا هو
محمد سيد حسين عبد الواحد
إن من الفضائل التي تُذكر وتُشكر في شهر رمضان أن الله سبحانه وتعالى نصر فيه المسلمين على عدوهم في رمضان غير مرة ..
- التصنيفات: فقه الجهاد -
وما يعلم جنود ربك إلا هو :
أما بعد : فقد أخرج البخاري وغيره من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي المَغَانِمُ ولَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً » .
أيها الإخوة الكرام: إن من الفضائل التي تُذكر وتُشكر في شهر رمضان أن الله سبحانه وتعالى نصر فيه المسلمين على عدوهم في رمضان غير مرة ..
فبدر الكبري كانت في رمضان ، وفتح مكة في رمضان ، والقادسية في رمضان ، وفتح بيت المقدس في رمضان ،وفتح الأندلس في رمضان ، وعين جالوت في رمضان ، وفي العصر الحديث حرب العاشر من رمضان...
ينصر الله عز وجل المؤمنين على عدوهم ، ويمكن الله تعالى الحق من الباطل ، ويسبب لذلك الأسباب ، ويسلط من جنده على عدوه ما يشاء والله تعالى يقول {{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ }}
السماء والأرض والجبال والبحار والرمل والحصى والتراب كل ذلك من جنود الله عز وجل {{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ }} والماء من جنود الله حملت المياه سفينة نوح عليه السلام وحملت المؤمنين معه ، وأغرقت الكافرين فلم تبق منهم على الأرض ديّاراً ، والريح من جنود الله تعالى حملت سليمان عليه السلام إلى الأرض التي بورك فيها ، والنار من جنود الله عز وجل كانت برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام ، والرعد والبرق من جنود الله ، وكذا الصواعق أيضاً من جنود الله عز وجل قال القوي العزيز سبحانه وتعالى {﴿ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِۦ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِۦ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَٰدِلُونَ فِى ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ ﴾}
في الغزوة يوم حنين هزمت هوازن وثقيف بحفنة من تراب ورمل وحصى جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه ورماها في وجوه القوم ، {{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ }}
قال أصحاب السير لما انهزم المسلمون يوم حنين وفروا «قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمه العباس ولابن عمه أبي سفيان : [ ناولاني كفا من حصباء الوادي ] فناولاه فأخذه بيده ورمى به في وجوه المشركين وقال : [ شاهت الوجوه . حم . لا ينصرون ] فانهزم القوم عن آخرهم ، فلم يبق أحد إلا امتلأت منخراه وفمه وعيناه تراباً ورملاً وحصباءً . ثم نادى صلى الله عليه وسلم في أصحابه فرجعوا فقال لهم عند رجوعهم [ لو لم أرمهم لم ينهزموا ] فأنزل الله - عز وجل» : {﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ ﴾}
والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدر للمشركين أن يقتلوا وهو الذي أراد أن تستأصل شأفتهم ، وأن العبد إنما يشارك بحضوره وسعيه وكسبه وقصده ..
{﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رميت وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ ﴾}
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا صدروا عن الغزو ذكر كل واحد منهم ما فعل : يقولون هزمنا فلانا ، وجرحنا فلاناً ،وقتلنا فلاناً ، وفعلنا كذا وكذا ، فيدخلهم من ذلك العجب والتفاخر ونحو ذلك . فنزلت الآية {﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ﴾}
إعلامًا بأن الله تعالى هو المحيي وهو المميت وهو المقدر لجميع المقادير ، وأن العبد إنما يشارك بتكسبه وقصده . وهذه الآية ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم . فقيل : المعنى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم حين ساقهم إليكم وحين أمكنكم منهم وأظفركم عليهم . وقيل : ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم .
أما قوله تعالى {{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ﴾}
فالمعنى : ( وما رميت ) الفزع والرعب في قلوبهم ( إذ رميت ) بالرمل والحصى فانهزموا ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك . والعرب تقول : رمى الله لك ، أي أعانك وأظفرك وصنع لك . . وقال محمد بن يزيد : وما رميت بقوتك ، إذ رميت ، ولكنك بقوة الله رميت .
وتحت عنوان { {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ }} يأتي يوم الأحزاب ، يوم نصر الله تعالى عباده المؤمنين على قريش وعلى غطفان وعلى الأحابيش بريح عاصفة في ليلة شديدة البرد سلّطها الله تعالى على ومن معها من الأحزاب فمزقت أوصالهم ، وشتت شملهم ، واقتلعت خيامهم ، وقلبت قدورهم ، وأطفأت نارهم ، وأهلكت الخف والحافر ، وزرعت الرعب والفزع في قلوبهم ..
قال الله تعالى {﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱذْكُرُوا۟ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ ﴾ }
حينها قال أبو سفيان : ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مُقام ، ولقد هلك الكراع والخُفُّ وأخلفتنا بنو قريظة ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، ما يستمسك لنا بناء ، ولا تثبت لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، فارتحلوا فإني مرتحل .
ووثب أبو سفيان على جمله فما حل عقال يد الجمل إلا وهو قائم .. وذلك من شدة الرعب والفزع ..
وتحت عنوان يقول {{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ }} يأتي يوم بدر ، يوم نصر الله تعالى عباده المؤمنين ، على قريش بعدتها وعتادها وكبرها، وأنزل الله تعالى الملائكة لنصرة المؤمنين، كانوا في البداية ألفاً ومن وراء الألف ألفٌ فصار المجموع ألفين ، ثم أمدهم الله بثلاثة آلاف فصار المجموع خمسة آلاف ملك ينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.. {﴿ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا۟ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ۚ سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُوا۟ فَوْقَ ٱلْأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُوا۟ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾}
الحقيقة التي لا نشك فيها طرفة عين هى أن الله تعالى هو الحاكم لهذا العالم ، وأنه لا تمر صغيرة ولا كبيرة إلا من تحت يده ، وبعد أن يأذن بها ، وأن كل ما تقع عليه عينك إنما هو جند من جنود الله عز وجل إن شاء الله سخره لك ، وجعله رهن إشارتك.
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير ..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث عن قول الله عز وجل
{{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ }} وإسقاط الآية على أيام الله التي أيد فيها المؤمنين ونصرهم على عدوهم ، في رمضان.. بقى لنا أن نقول إن الله تعالى نصر المؤمنين في رمضان على جميع أعدائهم على قريش عبدة الأصنام ، على الفرس عبدة النار ، على التتار ، على الصليبيين ، على اليهود ...
كان رمضان شهر إعزاز للإسلام ونصر للمسلمين يوم كان رمضان شهر عبادة ،شهر إخلاص ، شهر إنابة ..
أما اليوم فرمضان يأتينا وبيننا وبين عدونا مواجهات ولا نرانا إلى الجانب الأضعف ، المشرد ، المحاصر ..
رمضان هو رمضان والصيام هو الصيام لكننا ضيعنا هيبة الشهر ، وانتهكنا حرمته ، بقائمة طويلة عريضة من السفاهات والتفاهات والتي لا نأتي بها إلا في رمضان ..
حولنا رمضان من شهر إقبال على الله تعالى إلى شهر بُعد ، ولهو ، ولعب ، وسفه ، ثم نتسائل كيف نهزم ونحن على الحق وعدونا على الباطل ...
العزة تنقلب إلى ذلة ، ... إذا النفوس تغيرت {{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ}}
قال الإمام ابن كثير: «قال ابن أبى حاتم: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بنى إسرائيل أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول الله لهم مما يحبون إلى ما يكرهون.
ثم قال: إن مصداق ذلك في كتاب الله { {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمْ}}
وعلى الجانب الآخر إذا تحولت القلوب من الشر إلى الخير ، حولهم الله تعالى مما يكرهون إلى ما يحبون ..
عن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا على بن أبى طالب على منبر الكوفة فقال: كنت إذا سكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأنى، وإذا سألته عن الخبر أنبأنى، وإنه حدثني عن ربه- عز وجل- قال: ««قال الرب: وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي»» .
أمرنا بأيدينا أيها المؤمنون : إن استقمنا استقامت أمورنا ، إن نصرنا الإسلام في نوايانا وقلوبنا وأقوالنا وأعمالنا نصرنا الله تعالى على عدونا مهما كانت قوته وجبروته {﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا۟ ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾﴿ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُوا۟ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَٰتٌ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾﴿ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا۟ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ ﴾ .} .