سلاح الصبر في مواجهة العلمانية

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


تمثّل العلمانية العربية العدوانية أكثر من تحدّ للحركة الإسلامية ولعموم المسلمين المتمسّكين بدينهم وبالمشروع المجتمعي والحضاري المنبثق عنه، فهي دائمة التحرّش بالقيم والشرائع والأخلاق، فضلًا عن حامليها والداعين لها، تسخَر وتغمز وتلمز، بل وتصرّح بكلّ وقاحة بمعاداتها السافرة للإسلام، وتتوعّد دعاته وتتحالف مع جميع الأعداء في الداخل والخارج، وتتبع كلّ السبل وتستعمل كلّ الوسائل للكيد لدين الله وأهله إذا هم تجرّؤوا على العمل السياسي والدعوي وبشّروا بالحياة الطاهرة النظيفة فكريا وسلوكيا، وأعلنوا انعتاقهم من المرجعية الغربية، ودعوا إلى عدم التطبيع مع الكيان الصهيوني... فكيف علينا أن نواجه هذا الخصم الذي هو من جلدنا ويتكلّم لغتنا ويزعم حماية الأمّة منّا ومن مشروعنا "الظلامي"؟

يطرح هذا السؤال نفسه بإلحاح في ظلّ اكتساح الأحزاب الإسلامية للانتخابات في أكثر من قطر عربي بعد ثورات الربيع، وهو اكتساح يبشّر بمزيد من الحضور الرسمي للإسلاميين وفي أكثر من بلد آخر في المستقبل القريب، وهذا يعني ازدياد الهجمة العلمانية إعلاميًّا وسياسيًّا مع محاولات تحريك أطراف شتّى في المجتمع بمؤامرات خفية وعلنية بأشكال متعدّدة وذرائع مختلفة، وهي لم تكفّ عن عدوانيتها وتآمرها في ظلّ الأنظمة الاستبدادية وقد تمادت في تحرّشها بالرموز الإسلامية وهي تحت وطأة الاضطهاد البوليسي على مدى عقود.

وقد أثبتت التجارب المعاصرة أنّ استفزازات الأقلية العلمانية الليبرالية واليسارية وعُدوانيتها ومكائدها لا يصبر عليها إلا أولو العزم من الرجال، ولا يحجم عن الانسياق في الردّ العنيف عليها إلاّ من ثبتت قدماه على مبادئ العمل البصير وانخرط في سلك الدعوة الربانية الهادئة، وإن العاقل ليكاد يفقد رزانته وهو يرى في كثير من البلاد الإسلامية أقلية متغرّبة متفسّخة تستحوذ على الإدارة والاقتصاد، وتمُسك بمقاليد الإعلام، تسخر من ديننا ولغتنا، وتتأمر على توجّهات الشعب واختياراته، وتؤجّج نار الفتنة، و تدقّ إسفين الفرقة، وتتبجّح بالمساندة الغربية السافرة، وقد أغرى كل ذلك فئة من الناس ركبها الحماس فانبرت للمنازلة وهي على غير دراية كافية بخيوط المؤامرة وموازين القوى وأبعاد المخطط العلماني المحبوك منذ مدة غير قريبة، فكان الاستدراج في بعض البلاد العربية والإسلامية - للرّدّ العنيف على المجموعة الحاكمة سلاحًا إضافيًا في يد تلك الأقلية تشوّه به صورة الإسلام و دعاته ومشروعه الاجتماعي كما حصل منذ عشرين سنة في الجزائر مع الأسف.

أجل، يصعب الصبر في هذه المواطن، ولذلك ينال الصابرون جزاءً لا نظير له: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُ‌ونَ أَجْرَ‌هُم بِغَيْرِ‌ حِسَابٍ} [الزمر:10]. وقد مرّ بمثل هذه المحنة موكب الأنبياء الكرام فتحلّوا بالصبر بمعناه الإيجابي المشتمل على عنصري التحمّل والسعي من أجل التغيير، فتحمّلوا الأذى المادي والنفسي من الفئات التي أعماها الصلف والرئاسة والمكاسب الدنيوية، وواجهوا ذلك بالشعار الرباني المتألّق: {وَلَنَصْبِرَ‌نَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12].

ولم يكن الصبر ذلّة وانهزامًا، وإنما كان زادا لعمل تغييري دؤوب عميق شامل من شأنه اجتثاث الداء من أصله، فلمّا صدق الربانيون في الصبر وفي السعي لم يعد يعنيهم تهديد البغاة ووعيدهم، بل كان ذلك آخر تخطيط لهؤلاء قبل البوار: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا لِرُ‌سُلِهِمْ لَنُخْرِ‌جَنَّكُم مِّنْ أَرْ‌ضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13].

بهذه الوقاحة وهذا الصلف تُخيّر الشرذمة الزائغة المعادن الأصيلة بين التنازل عن المبادئ والنفي... فما أشبه الليلة بالبارحة! لكن عند هذا الحد من الطغيان والغطرسة تأخذ السنّة الإلهية مداها: {فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَ‌بُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْ‌ضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14،13].

جاء النصر إذًا وانقلبت الموازين لتأخذ وضعها الطبيعي بعد مصابرة ومثابرة كان للدعاة فيها -كما هو مبيّن في آي الذكر الحكيم- استمساك وثيق بحبل الله وعمل واعٍ بصير على هدي من سنن الله في الأنفس والمجتمعات وإعراض واضح عن ردود الفعل الآنية التي كثيرًا ما تخالطها حظوظ النفس فتكون غير ذات جدوى أو تُفضي إلى عواقب وخيمة تصيب الدعوة ورجالها ورموزها وجماهيرها، واللبيب لا يعمد إلى الصخرة الضخمة المتجذّرة يضرب بالمعول لكسرها -ولا يستطيع- وإنما يجنح إلى إحاطتها بالحفر العميق الكبير فتتزحزح بعد ذلك بعناء قليل.

إنه عمل هادئ متواصل وصبر ساعةً ثمّ يفرح المؤمنون بنصر الله وتتجرّع الحثالة الباغية غصص الخزي والندم، وهو ذا القرآن الكريم يصف كيد بطانة السوء ثم يوجه المؤمنين بهذا الهدي الرفيع: {وَإِن تَصْبِرُ‌وا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّ‌كُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120].

نتعلّم من سير موكب الأنبياء الكرام الذي بيّنه الله تعالى في كتابه أن عواطف الإيمان ضرورية من غير شكّ لكنّها لا تنفع إلا إذا صبّت في إناء التربية الربانية وأبردَها العقل الحصيف المهتدي بمعالم الكتاب والسنة، فهذا ما يحصّن دعاة الإسلام من ردود الأفعال التي كثيرا ما يستدرجهم إليها خصومُهم ليُنهكوا قواهم ويشغلوهم بمخطط هم الذين وضعوه أساسا لبلبلة الصف المؤمن والإجهاز عليه من خلال تصيّد الأخطاء وتضخيم الهفوات وبثّ الإشاعات، والعاقبة للمتقين بلا ريب، لكن العمل وفق سنن التغيير هو من صميم التقوى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبر في مكة على عداوة المشركين وفي المدينة على كيد المنافقين واليهود ويرفض الاستدراج "يترك متابعة بعض المرجفين في الداخل ومعاقبتهم ويقول: «لا أريد أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (الراوي: جابر بن عبد الله، المحدث: مسلم، خلاصة حكم الحديث: صحيح). والاستعجال: «لقد كان فيمن قبلكم يمشّط بالأمشاط ما بين لحمه وعظمه لا يردّه ذلك عن دينه، ولكنّكم تستعجلون» (رواه البخاري). ويضبط سير أصحابه الكرام بضوابط الشرع فلا يجنحون إلى العمليات القيصرية وإنما يصبرون ويثبتون ويضحّون بالوقت والجهد والمال والأهل والأنفس حتى يتكوّن جيل رباني يتولّى بنفسه هدم الأصنام التي كان يعبدها من قبل، مردّدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. ولو بدؤوا بتكسير الأصنام كردّ فعل على تعظيم المشركين لها لما قامت للإسلام قائمة.

فهل من فقه عميق لمعاني الصبر والتقوى نُخرجها من عالم التجريد لتكون زادا يُغذّينا ومعالم واضحة ناصعة تنير لنا الطريق فلا نزيغ ولا نطغى؟ هذا موطن الامتحان حقّا وساحة بروز الأخلاق الرفيعة والسمت الرباني الذي تلقّاه أبناء الحركة الإسلامية في المحاضن التربوية، قرؤوا عنه في تراجم الصالحين وسير السابقين، وآن أوان تحويل كلّ ذلك إلى برنامج استراتيجي وسلوك عملي يلازم العاملين في الحقل السياسي، يصدّرون أخلاق المسجد إلى ساحة التدافع، يجسّدون قيم التقوى ويستمسكون بألوان الصبر، فلا يعاملون الخصوم بمثل باطلهم ولا ينزلون إلى مستوى كيدهم الدنيء، ولا يبرحون الفضيلة والصدق والنصح وطهر القلب واللسان، ويتذكرون أن الإمامة إنما تنال بالصبر واليقين، والصبر يقتضي إبصار مواطن الحقّ والباطل برويّة وفقه عميق، ومعرفة سنن الابتلاء والتمكين معرفة وافية تُلجم ردود الأفعال العاطفية بلجام العقل الحصيف، حتّى لا يجد الخصوم سبيلًا إلى تصيّد فورات الغضب لنفث السموم، لا سيما أنّهم يمتلكون أركانًا إعلامية يأوون إليها، فيها آذان سمّاعة لهم لا تتورّع عن التزييف ورمي الإسلاميين زورًا وبهتانًا، وافتعال الأزمات الماحقة.، ولكن للصفّ الإسلامي ميزة على شانئه، لأنّ الصبر عنده انتظار للمدد الرباني وتحقّق النصر الموعود: {وَتَرْ‌جُونَ مِنَ اللَّـهِ مَا لَا يَرْ‌جُونَ} [النساء:104].

الكـاتب: عبد العزيز كحيل
المختار الإسلامي