نظرة تحليلية للصراع العربي الصهيوني
كانت النكبة عبارة عن صدمة في الذاكرة الجمعية العربية، أثَّرت بشكل بارز على المجتمعات العربية لفترة ما بعد الاستعمار، وكان من المفهوم دوليًّا ومحليًّا أن الشعوب والحكومات العربية رفضت رفضًا قاطعًا فكرة وجود الكيان الصهيوني...
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
يعلم المجتمع الصهيوني أن وجوده في أرض فلسطين وجود استعماري مرتبط باستمرارية وجود القوة المستعمِرة التي تكفل وجوده، ولذلك تحتل مسألة «الأمن الوجودي» مرتبة متقدمة في سُلّم أولويات الناخب الصهيوني -حسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل-.
ومن السهل تفسير هذا القلق الصهيوني الجمعي بخصوص البقاء في أرض فلسطين عند النظر إلى تاريخ الكيان الصهيوني الذي هو عبارة عن سلسلة ممتدة من المعارك العسكرية والسياسية مع أصحاب الأرض ودول الجوار، فالكيان الصهيوني -وعلى عكس أيّ مجتمع طبيعي- يُوصَف بأنه كيان عسكري، وهذا الوصف دائمًا ما يتردّد في السياقات التاريخية الخاصة بقوى الاحتلال والاستعمار.
وعلى الرغم من أن الصراع العربي الصهيوني اكتسب زخَمَه بعد نكبة 1948م؛ إلا أنه لم يبدأ منذ تلك اللحظة، ففي الحقيقة تعود إرهاصات الصراع الأولى لنهايات القرن التاسع عشر الميلادي مع أول استيطان صهيوني في أرض فلسطين، حين تحدَّدت الملامح الأساسية للوجود الصهيوني في فلسطين، فبدلًا من السعي للاندماج مع النسيج المجتمعي للشرق الأوسط عمومًا، ولفلسطين خصوصًا؛ سارَع الصهاينة لإنشاء مجتمعات منعزلة خاصَّة بهم على أراضي فلسطينية، منحتهم إياها إدارة الانتداب البريطاني، وكانت السمة الأساسية لهذه المستوطنات هي أنها ثكنات عسكرية أكثر من كونها مجتمعات مدنية، مثل ميلشيا «هاشومير»[1] التي أسَّسها الصهاينة منذ الأيام الأولى للاستيطان في فلسطين بهدف إرهاب السكان الفلسطينيين.
استمر النهج الصهيوني القائم على نظرية القوة الغاشمة ضد أصحاب الأرض بالتعاظم طوال مراحل الاستيطان وصولًا لعام 1947م الذي شهد إقرار الأمم المتحدة لقرار تقسيم فلسطين، والذي اتخذته العصابات الصهيونية نقطة ارتكاز لادعاء الشرعية في بَدْء حرب إبادة جماعية ضد السكان الفلسطينيين، وكردة فعل هبَّت جيوش 7 دول عربية لإنقاذ الفلسطينيين والسعي لإنشاء دولة فلسطينية، وتسارعت الأحداث لتصل لحرب عام 1948م، والتي كان من نتائجها قيام الكيان الصهيوني، وتهجير الغالبية العظمى من السكان الفلسطينيين، وهزيمة الجيوش العربية، والتي ترسَّخت بعد ذلك في الذاكرة العربية باسم «النكبة».
في الحقيقة، إن الاختصار السريع السابق لمجريات تلك الفترة دائمًا ما تسبَّب في سوء فَهْم لحقيقة ما حدَث، فعلى سبيل المثال، لفظ «عصابات صهيونية»، ورغم أنه يُعبِّر عن حقيقة الصهاينة كمجرمي حرب إبادة؛ إلا أنه يُخْفِي في ثناياه تفاصيل مهمة عن شكل هذه العصابات التي كانت أكثر عددًا وتسليحًا وتدريبًا من الجيوش العربية السبعة مجتمعةً، فحسب جميع المصادر المعاصرة[2]، كان مجموع تعداد «العصابات الصهيونية» عند بدء الحرب يصل إلى 25000 جندي صهيوني ضمن ميليشيا منظمة ذات خبرة عسكرية طويلة مثل (الهاجاناه)، و(شتيرن)، و(إرجون) الذين شارك معظم أفرادهم في معارك الحرب العالمية الثانية قبل الانضمام لهذه العصابات، ومن ناحية أخرى وصلت قبيل الحرب بعدة أيام ألوية عسكرية كاملة متطوعة أو مستأجرة من أوروبا بتنظيم عسكري حقيقي وخبرة عسكرية واسعة[3]؛ لتنضمّ لـ«العصابات الصهيونية» في حربها ضد الفلسطينيين والجيوش العربية.
ومن ناحية أخرى بلغ مجموع الجيوش العربية السبع المشاركة في حرب فلسطين 13000 جندي فقط في بداية الحرب؛ ومع أنّ القوات العربية كانت متفوقة في أول أسبوعين في المعارك من ناحية السلاح؛ إلّا أن هذا الوضع انقلب تمامًا بعد أن دشَّن الصهاينة حملة توريد سلاح ثقيل من أوروبا بعملية (بالاك)[4] التي استورد فيها الكيان الصهيوني معظم سلاح ألمانيا النازية السابق عن طريق تشيكوسلوفاكيا بجسر جويّ متّصل كفلته الخطوط الجوية الفرنسية، والذي استمر لأسبوعين كاملين انقلبت فيهما موازين القوى لصالح الصهاينة الذين ارتفع عدد قواتهم إلى 88 ألف جندي مقاتل[5].
وقد كانت معظم القوات الصهيونية قبل هذه العملية عبارة عن مشاة مسلحين بأسلحة خفيفة، ولكن بعد أن سلّمت قوات الانتداب البريطاني ميناء حيفا المركزي للعصابات الصهيونية، ومع بدء تدفق السلاح عبر الجسر الجوي تحوَّلت معظم القوى الصهيونية لتشكيل عسكري منظّم على أعلى المستويات ومزوّد بعدة ألوية مدرَّعة وفِرَق مدفعية ولواء طيران حربي كامل مع طياريه الخاصين فاق أعلى تسليح عربي موجود في ذلك الوقت[6]؛ مما أدى إلى تفوق صهيوني سريع في ساحة المعركة، ورغم عملية التسلح السريعة هذه؛ إلا أن القوات العربية كانت ما زالت تسيطر على ما يصل إلى أكثر من 50 بالمئة من أرض فلسطين، فجهَّز ديفيد بن غوريون خط تنسيق مباشر مع القوى البريطانية البحرية الموجودة في البحار العربية لقطع طريق إمدادات القوات العربية، وظهر ذلك جليًّا حين هاجمت البحرية البريطانية سفينة كانت تنقل فرقة عسكرية سعودية كانت تتوجه لميناء غزة البحري[7]؛ ولم يكتفِ بن غوريون بهذا، بل أمر بتنفيذ هجوم كيميائي على القرى العربية في الجليل بتسميم آبار المياه الخاصة لها ببكتيريا التيفوئيد لتشكيل عائق صحي أمام القوات العربية التي كانت تتقدم باتجاه المنطقة[8].
يسهل في حال تحليل مجريات الحرب تحديد عوامل الانتصار الصهيوني التي تتمثل في الإعداد المسبق والطويل للمعركة، والدعم البريطاني اللامحدود بجانب تواطؤ قوى الحلفاء الأوروبيين، واستخدام القوة الغاشمة لإرهاب السكان الفلسطينيين، ويمكن حصر عوامل الهزيمة العربية في نقاط أساسية؛ أولها ضَعْف تنسيق القيادة العربية، وضعف تسليح القوات العربية الذي تسبَّب به الاستعمار وقرار الأمم المتحدة بحظر تصدير السلاح للدول العربية، وأيضًا سوء تقدير القيادة العربية لمدى قوة نفوذ الصهاينة في الدول الأوروبية، لتُشكِّل هذه التوليفة نقطة ارتكاز لفَهْم أحداث حرب 1948م.
كانت النكبة عبارة عن صدمة في الذاكرة الجمعية العربية، أثَّرت بشكل بارز على المجتمعات العربية لفترة ما بعد الاستعمار، وكان من المفهوم دوليًّا ومحليًّا أن الشعوب والحكومات العربية رفضت رفضًا قاطعًا فكرة وجود الكيان الصهيوني، بالذات بعد أفعاله العدائية المتكررة في فترة ما بعد الحرب؛ مثل مجزرة كفر قاسم، والعدوان الثلاثي على مصر 1956م، فكانت الدول العربية تتوقع حربًا شاملةً أخرى، وكذلك كان الكيان الصهيوني، ولكن الفرق أن الكيان الصهيوني من موضعه كمُعتدٍ ومع إدراك ذاتي لكونه احتلالاً قرر المبادرة بالهجوم خوفًا من هجوم مضادّ شامل ينهي وجوده -حسب تصريح موشيه دايان-.
يُشكّل الهجوم الصهيوني المفاجئ عام 1967م بجانب أهميته التكتيكية في الحرب ونتائج ما بعد الحرب أساسًا لفهم العقيدة الصهيونية العسكرية القائمة على المباغتة أولًا، والاعتماد على التعقيد السياسي ثانيًا، فهاجم الكيان الصهيوني الدول العربية في الخامس من يونيو/حزيران لعام 1967م بضربة استباقية سُمِّيت «عملية موكد» قضت فيها على القوات العربية الجوية التي كانت تحوز أهمية قصوى في معادلة حسم المعركة[9].
وبهذا الهجوم حقَّق الكيان الصهيوني -حسب اعتقاده- أول تطبيق عملي لـ«نظرية الردع» التي تقوم عليها دولة الكيان، ورغم أن السيطرة الصهيونية على كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وشبه جزيرة سيناء لم تكن سهلةً أبدًا من الناحية العسكرية -على حد تعبير إسحاق رابين-؛ إلا أن الماكينة الإعلامية الصهيونية نجحت في تصديره انتصارًا ساحقًا؛ بهدف ترسيخ معادلة الردع سالفة الذكر.
مع استمرار حرب الاستنزاف وفشل السياسة الصهيونية في تحقيق اعتراف دولي بانتصارها عام 1967م وصولًا لحرب أكتوبر 1973م وضع أول حجر أساس لهدّ وَهْم «نظرية الردع» التي سوّق لها على أنها مفتاح البقاء في المشرق الإسلامي، وكانت النتيجة الإيجابية الأهم لنكسة 1967م، هو فَهْم الدول العربية لطبيعة هذا الكيان العسكرية ومواضع ضَعْفه، وتمثل هذا الفهم في أهم حرب خاضتها القوات العربية حتى ذلك الحين؛ ألا وهي حرب أكتوبر 1973م حين نجحت القوات العربية في هجوم استباقي مفاجئ بتدمير خطوط الدفاع الصهيونية وفكرة القوة التي لا تُقْهَر على أرض الواقع وفي الميدان السياسي؛ حيث كانت خطة الهجوم العربية تقوم على استغلال عنصر المفاجأة، وتوفير غطاء دفاع جوي بهدف تحييد التفوق الجوي الصهيوني[10].
يُرصَد هنا تطور الفهم العربي للعقلية الصهيونية، وتطبيقه في خطوات عملية؛ حيث صرحت «جولدا مائير» قائلةً: «وجدت نفسي فجأة أمام أعظم تهديد تعرَّضت له -إسرائيل- منذ قيامها».
مع أن الصراع العربي الصهيوني تغيَّر لاعبوه الأساسيون على مدار سنوات الصراع؛ إلا أن المنهج العسكري والسياسي الصهيوني كان دائمًا محدودًا بالاعتماد على دعم القوى الخارجية ونظرية القوة الغاشمة بهدف تحقيق ردع إستراتيجي، ولكن كان من اليسير للقوى الفلسطينية عند استلامها لزمام المبادرة في الحرب على الكيان الصهيوني أن تتشرَّب الخبرة العربية في الصراع مع الصهاينة، فمثلًا تبنَّت المقاومة الفلسطينية في غزة منهجية استغلال عنصر المفاجأة مع تحقيق واقع صعب في أرض المعركة ينعكس على طاولة السياسة، وظهر ذلك في عمليات المقاومة منذ عملية الوهم المتبدِّد 2006م التي أنتجت للكيان الصهيوني أزمة «صفقة شاليط 2011م»، وصولًا للعملية الأبرز للمقاومة الفلسطينية، وهي «طوفان الأقصى 2023م»، وحسب العديد من المحللين السياسيين فإن نتائج «طوفان الأقصى» لم تنحصر في تحقيق كسب عسكري كبير وانعكاس ذلك على قدرة المقاومة في السياسة، بل تعدى ذلك ليُنهي وأخيرًا أيّ وهم صهيوني بخصوص «الردع».
«هجوم -حماس- كشف عن فشلنا الاستخباراتي بطبيعة الحال، ولكنَّ الأخطر أنه كشف عن فشلنا السياسي»؛ إيهود باراك، رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق.
هذا التصريح السابق ما هو إلا قطعة وحيدة في سلسلة كبيرة من التساؤلات والتحقيقات التي تنهش البناء السياسي في الكيان الصهيوني الآن نتيجة عملية «طوفان الأقصى»، ولكن أهم سؤال سيُطْرَح في الكيان الصهيوني اليوم هو «ما البديل لنظرية الردع؟»، ليبقى هذا السؤال شاهدًا على فشل المنظومة الصهيونية بعد أكثر من 75 عامًا في تحقيق استقرار حقيقي للصهاينة في أرض فلسطين.
[1] المسيري، عبد الوهاب، الموسوعة الصهيونية.
[2] مارتن فان كريفيلد، السيف والزيتون: التاريخ النقدي للصهيونية.
[3] الخالدي، وليد، الخطة دالت: الخطة الرئيسية لاحتلال فلسطين.
[4] مائير، زومر، دراسات الشرق الأوسط، العمل الفرنسي السري في فلسطين.
[5] بريجمان، هارون، 2002م، حروب إسرائيل: تاريخ 1948م.
[6] تقرير وكالة المخابرات المركزية للسياسة العالمية 1948م.
[7] عسيري، حسن، الو
يعلم المجتمع الصهيوني أن وجوده في أرض فلسطين وجود استعماري مرتبط باستمرارية وجود القوة المستعمِرة التي تكفل وجوده، ولذلك تحتل مسألة «الأمن الوجودي» مرتبة متقدمة في سُلّم أولويات الناخب الصهيوني -حسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل-.
ومن السهل تفسير هذا القلق الصهيوني الجمعي بخصوص البقاء في أرض فلسطين عند النظر إلى تاريخ الكيان الصهيوني الذي هو عبارة عن سلسلة ممتدة من المعارك العسكرية والسياسية مع أصحاب الأرض ودول الجوار، فالكيان الصهيوني -وعلى عكس أيّ مجتمع طبيعي- يُوصَف بأنه كيان عسكري، وهذا الوصف دائمًا ما يتردّد في السياقات التاريخية الخاصة بقوى الاحتلال والاستعمار.
وعلى الرغم من أن الصراع العربي الصهيوني اكتسب زخَمَه بعد نكبة 1948م؛ إلا أنه لم يبدأ منذ تلك اللحظة، ففي الحقيقة تعود إرهاصات الصراع الأولى لنهايات القرن التاسع عشر الميلادي مع أول استيطان صهيوني في أرض فلسطين، حين تحدَّدت الملامح الأساسية للوجود الصهيوني في فلسطين، فبدلًا من السعي للاندماج مع النسيج المجتمعي للشرق الأوسط عمومًا، ولفلسطين خصوصًا؛ سارَع الصهاينة لإنشاء مجتمعات منعزلة خاصَّة بهم على أراضي فلسطينية، منحتهم إياها إدارة الانتداب البريطاني، وكانت السمة الأساسية لهذه المستوطنات هي أنها ثكنات عسكرية أكثر من كونها مجتمعات مدنية، مثل ميلشيا «هاشومير»[1] التي أسَّسها الصهاينة منذ الأيام الأولى للاستيطان في فلسطين بهدف إرهاب السكان الفلسطينيين.
استمر النهج الصهيوني القائم على نظرية القوة الغاشمة ضد أصحاب الأرض بالتعاظم طوال مراحل الاستيطان وصولًا لعام 1947م الذي شهد إقرار الأمم المتحدة لقرار تقسيم فلسطين، والذي اتخذته العصابات الصهيونية نقطة ارتكاز لادعاء الشرعية في بَدْء حرب إبادة جماعية ضد السكان الفلسطينيين، وكردة فعل هبَّت جيوش 7 دول عربية لإنقاذ الفلسطينيين والسعي لإنشاء دولة فلسطينية، وتسارعت الأحداث لتصل لحرب عام 1948م، والتي كان من نتائجها قيام الكيان الصهيوني، وتهجير الغالبية العظمى من السكان الفلسطينيين، وهزيمة الجيوش العربية، والتي ترسَّخت بعد ذلك في الذاكرة العربية باسم «النكبة».
في الحقيقة، إن الاختصار السريع السابق لمجريات تلك الفترة دائمًا ما تسبَّب في سوء فَهْم لحقيقة ما حدَث، فعلى سبيل المثال، لفظ «عصابات صهيونية»، ورغم أنه يُعبِّر عن حقيقة الصهاينة كمجرمي حرب إبادة؛ إلا أنه يُخْفِي في ثناياه تفاصيل مهمة عن شكل هذه العصابات التي كانت أكثر عددًا وتسليحًا وتدريبًا من الجيوش العربية السبعة مجتمعةً، فحسب جميع المصادر المعاصرة[2]، كان مجموع تعداد «العصابات الصهيونية» عند بدء الحرب يصل إلى 25000 جندي صهيوني ضمن ميليشيا منظمة ذات خبرة عسكرية طويلة مثل (الهاجاناه)، و(شتيرن)، و(إرجون) الذين شارك معظم أفرادهم في معارك الحرب العالمية الثانية قبل الانضمام لهذه العصابات، ومن ناحية أخرى وصلت قبيل الحرب بعدة أيام ألوية عسكرية كاملة متطوعة أو مستأجرة من أوروبا بتنظيم عسكري حقيقي وخبرة عسكرية واسعة[3]؛ لتنضمّ لـ«العصابات الصهيونية» في حربها ضد الفلسطينيين والجيوش العربية.
ومن ناحية أخرى بلغ مجموع الجيوش العربية السبع المشاركة في حرب فلسطين 13000 جندي فقط في بداية الحرب؛ ومع أنّ القوات العربية كانت متفوقة في أول أسبوعين في المعارك من ناحية السلاح؛ إلّا أن هذا الوضع انقلب تمامًا بعد أن دشَّن الصهاينة حملة توريد سلاح ثقيل من أوروبا بعملية (بالاك)[4] التي استورد فيها الكيان الصهيوني معظم سلاح ألمانيا النازية السابق عن طريق تشيكوسلوفاكيا بجسر جويّ متّصل كفلته الخطوط الجوية الفرنسية، والذي استمر لأسبوعين كاملين انقلبت فيهما موازين القوى لصالح الصهاينة الذين ارتفع عدد قواتهم إلى 88 ألف جندي مقاتل[5].
وقد كانت معظم القوات الصهيونية قبل هذه العملية عبارة عن مشاة مسلحين بأسلحة خفيفة، ولكن بعد أن سلّمت قوات الانتداب البريطاني ميناء حيفا المركزي للعصابات الصهيونية، ومع بدء تدفق السلاح عبر الجسر الجوي تحوَّلت معظم القوى الصهيونية لتشكيل عسكري منظّم على أعلى المستويات ومزوّد بعدة ألوية مدرَّعة وفِرَق مدفعية ولواء طيران حربي كامل مع طياريه الخاصين فاق أعلى تسليح عربي موجود في ذلك الوقت[6]؛ مما أدى إلى تفوق صهيوني سريع في ساحة المعركة، ورغم عملية التسلح السريعة هذه؛ إلا أن القوات العربية كانت ما زالت تسيطر على ما يصل إلى أكثر من 50 بالمئة من أرض فلسطين، فجهَّز ديفيد بن غوريون خط تنسيق مباشر مع القوى البريطانية البحرية الموجودة في البحار العربية لقطع طريق إمدادات القوات العربية، وظهر ذلك جليًّا حين هاجمت البحرية البريطانية سفينة كانت تنقل فرقة عسكرية سعودية كانت تتوجه لميناء غزة البحري[7]؛ ولم يكتفِ بن غوريون بهذا، بل أمر بتنفيذ هجوم كيميائي على القرى العربية في الجليل بتسميم آبار المياه الخاصة لها ببكتيريا التيفوئيد لتشكيل عائق صحي أمام القوات العربية التي كانت تتقدم باتجاه المنطقة[8].
يسهل في حال تحليل مجريات الحرب تحديد عوامل الانتصار الصهيوني التي تتمثل في الإعداد المسبق والطويل للمعركة، والدعم البريطاني اللامحدود بجانب تواطؤ قوى الحلفاء الأوروبيين، واستخدام القوة الغاشمة لإرهاب السكان الفلسطينيين، ويمكن حصر عوامل الهزيمة العربية في نقاط أساسية؛ أولها ضَعْف تنسيق القيادة العربية، وضعف تسليح القوات العربية الذي تسبَّب به الاستعمار وقرار الأمم المتحدة بحظر تصدير السلاح للدول العربية، وأيضًا سوء تقدير القيادة العربية لمدى قوة نفوذ الصهاينة في الدول الأوروبية، لتُشكِّل هذه التوليفة نقطة ارتكاز لفَهْم أحداث حرب 1948م.
كانت النكبة عبارة عن صدمة في الذاكرة الجمعية العربية، أثَّرت بشكل بارز على المجتمعات العربية لفترة ما بعد الاستعمار، وكان من المفهوم دوليًّا ومحليًّا أن الشعوب والحكومات العربية رفضت رفضًا قاطعًا فكرة وجود الكيان الصهيوني، بالذات بعد أفعاله العدائية المتكررة في فترة ما بعد الحرب؛ مثل مجزرة كفر قاسم، والعدوان الثلاثي على مصر 1956م، فكانت الدول العربية تتوقع حربًا شاملةً أخرى، وكذلك كان الكيان الصهيوني، ولكن الفرق أن الكيان الصهيوني من موضعه كمُعتدٍ ومع إدراك ذاتي لكونه احتلالاً قرر المبادرة بالهجوم خوفًا من هجوم مضادّ شامل ينهي وجوده -حسب تصريح موشيه دايان-.
يُشكّل الهجوم الصهيوني المفاجئ عام 1967م بجانب أهميته التكتيكية في الحرب ونتائج ما بعد الحرب أساسًا لفهم العقيدة الصهيونية العسكرية القائمة على المباغتة أولًا، والاعتماد على التعقيد السياسي ثانيًا، فهاجم الكيان الصهيوني الدول العربية في الخامس من يونيو/حزيران لعام 1967م بضربة استباقية سُمِّيت «عملية موكد» قضت فيها على القوات العربية الجوية التي كانت تحوز أهمية قصوى في معادلة حسم المعركة[9].
وبهذا الهجوم حقَّق الكيان الصهيوني -حسب اعتقاده- أول تطبيق عملي لـ«نظرية الردع» التي تقوم عليها دولة الكيان، ورغم أن السيطرة الصهيونية على كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وشبه جزيرة سيناء لم تكن سهلةً أبدًا من الناحية العسكرية -على حد تعبير إسحاق رابين-؛ إلا أن الماكينة الإعلامية الصهيونية نجحت في تصديره انتصارًا ساحقًا؛ بهدف ترسيخ معادلة الردع سالفة الذكر.
مع استمرار حرب الاستنزاف وفشل السياسة الصهيونية في تحقيق اعتراف دولي بانتصارها عام 1967م وصولًا لحرب أكتوبر 1973م وضع أول حجر أساس لهدّ وَهْم «نظرية الردع» التي سوّق لها على أنها مفتاح البقاء في المشرق الإسلامي، وكانت النتيجة الإيجابية الأهم لنكسة 1967م، هو فَهْم الدول العربية لطبيعة هذا الكيان العسكرية ومواضع ضَعْفه، وتمثل هذا الفهم في أهم حرب خاضتها القوات العربية حتى ذلك الحين؛ ألا وهي حرب أكتوبر 1973م حين نجحت القوات العربية في هجوم استباقي مفاجئ بتدمير خطوط الدفاع الصهيونية وفكرة القوة التي لا تُقْهَر على أرض الواقع وفي الميدان السياسي؛ حيث كانت خطة الهجوم العربية تقوم على استغلال عنصر المفاجأة، وتوفير غطاء دفاع جوي بهدف تحييد التفوق الجوي الصهيوني[10].
يُرصَد هنا تطور الفهم العربي للعقلية الصهيونية، وتطبيقه في خطوات عملية؛ حيث صرحت «جولدا مائير» قائلةً: «وجدت نفسي فجأة أمام أعظم تهديد تعرَّضت له -إسرائيل- منذ قيامها».
مع أن الصراع العربي الصهيوني تغيَّر لاعبوه الأساسيون على مدار سنوات الصراع؛ إلا أن المنهج العسكري والسياسي الصهيوني كان دائمًا محدودًا بالاعتماد على دعم القوى الخارجية ونظرية القوة الغاشمة بهدف تحقيق ردع إستراتيجي، ولكن كان من اليسير للقوى الفلسطينية عند استلامها لزمام المبادرة في الحرب على الكيان الصهيوني أن تتشرَّب الخبرة العربية في الصراع مع الصهاينة، فمثلًا تبنَّت المقاومة الفلسطينية في غزة منهجية استغلال عنصر المفاجأة مع تحقيق واقع صعب في أرض المعركة ينعكس على طاولة السياسة، وظهر ذلك في عمليات المقاومة منذ عملية الوهم المتبدِّد 2006م التي أنتجت للكيان الصهيوني أزمة «صفقة شاليط 2011م»، وصولًا للعملية الأبرز للمقاومة الفلسطينية، وهي «طوفان الأقصى 2023م»، وحسب العديد من المحللين السياسيين فإن نتائج «طوفان الأقصى» لم تنحصر في تحقيق كسب عسكري كبير وانعكاس ذلك على قدرة المقاومة في السياسة، بل تعدى ذلك ليُنهي وأخيرًا أيّ وهم صهيوني بخصوص «الردع».
«هجوم -حماس- كشف عن فشلنا الاستخباراتي بطبيعة الحال، ولكنَّ الأخطر أنه كشف عن فشلنا السياسي»؛ إيهود باراك، رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق.
هذا التصريح السابق ما هو إلا قطعة وحيدة في سلسلة كبيرة من التساؤلات والتحقيقات التي تنهش البناء السياسي في الكيان الصهيوني الآن نتيجة عملية «طوفان الأقصى»، ولكن أهم سؤال سيُطْرَح في الكيان الصهيوني اليوم هو «ما البديل لنظرية الردع؟»، ليبقى هذا السؤال شاهدًا على فشل المنظومة الصهيونية بعد أكثر من 75 عامًا في تحقيق استقرار حقيقي للصهاينة في أرض فلسطين.
[1] المسيري، عبد الوهاب، الموسوعة الصهيونية.
[2] مارتن فان كريفيلد، السيف والزيتون: التاريخ النقدي للصهيونية.
[3] الخالدي، وليد، الخطة دالت: الخطة الرئيسية لاحتلال فلسطين.
[4] مائير، زومر، دراسات الشرق الأوسط، العمل الفرنسي السري في فلسطين.
[5] بريجمان، هارون، 2002م، حروب إسرائيل: تاريخ 1948م.
[6] تقرير وكالة المخابرات المركزية للسياسة العالمية 1948م.
[7] عسيري، حسن، الوطن، إلى وزير دفاعنا الهمام (ما بين الحرب).
[8] موريس، بيني، 2022م، ثمن الخبز: الحرب البيولوجية الصهيونية 1948م.
[9] كويجلي، جون، 2005م، القضية الفلسطينية: منظور قانوني.
[10] الشاذلي، سعد الدين، 2003م، مذكرات حرب أكتوبر.
طن، إلى وزير دفاعنا الهمام (ما بين الحرب).
[8] موريس، بيني، 2022م، ثمن الخبز: الحرب البيولوجية الصهيونية 1948م.
[9] كويجلي، جون، 2005م، القضية الفلسطينية: منظور قانوني.
[10] الشاذلي، سعد الدين، 2003م، مذكرات حرب أكتوبر.
_________________________________________________________
الكاتب: نور الدين عبد - مجلة البيان