أمة الأخلاق
لِكلِّ بُنْيانٍ أساس، وأساسُ الإسلامِ حُسْنُ الخُلُق، ولحسن الخلق خلقَ الله خلْقَه، وبحسن الخلُق بعثَ الله رسُلَه، وبمكارم الأخلاق ختم الله رسالاته إلى الناس
- التصنيفات: الزهد والرقائق - أخلاق إسلامية -
لِكلِّ بُنْيانٍ أساس، وأساسُ الإسلامِ حُسْنُ الخُلُق، ولحسن الخلق خلقَ الله خلْقَه، وبحسن الخلُق بعثَ الله رسُلَه، وبمكارم الأخلاق ختم الله رسالاته إلى الناس، فقال خاتَمُ الأنبياء والمرسلين - وقولُه من "السلسلة الصحيحة" -: «إنَّما بُعثتُ لأُتَمِّم مكارم الأخلاق»، وبحسن الخلق مدحَ اللهُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فخاطبَه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
فلا يستقيم المؤمنُ على الإسلام، إلاَّ إذا سلك مشوار حياته على طيِّب الأخلاق، فتناوَلَ الأرفقَ والأحمدَ من الأقوال والأفعال، وبذَل المعروف، وكفَّ عن الأذى نطقًا وعملاً، ولا يتحقَّق له ذلك إلاَّ بطاعة الله، فالله - جلَّ جلاله - هو الذي شرع الأخلاق، وأمر عباده بالتأدُّب بآدابها، والمؤمن الطَّائع يحوِّل ذلك إلى عمل وسلوكٍ، يراه الناس في أرض الواقع؛ يرَوْنه صدقًا وعدلاً، ويعيشونه قولاً وعملاً، فمُنطلَق قول المؤمن، ومجمل أقواله، يجمعها أمرُ الله - جلَّ جلاله -: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، ومنطلق عمل المؤمن، وكل أعماله، يضمُّها أمر الله - تبارك وتعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
فإذا استوى المؤمِنُ على تنفيذ أوامرِ الله، وبادلَه ذلك إخوتُه المؤمنون، تكوَّن المجتمعُ المسلم الذي أراده الله لهذه الأمَّة، مجتمَعُ التَّآلُفِ والتَّراحم، والأُخوَّة الصَّادقة، مجتمعٌ أسَّسه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم وصل إلى المدينة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وحثَّهم على مكارم الأخلاق، فجعل كمال الإيمان في حسن الخلُق؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقولُه من "صحيح الترغيب": «أكمَلُ المؤمنين إيمانًا أحسَنُهم خلقًا».
فبعثها أخوَّةً أنشأَتْ دولة الإسلام الأولى، خرجَتْ لدنيا النَّاس، تحمل رايةَ القيادة والسِّيادة، بأخلاقٍ لم يَشهد لها التَّاريخ مثيلاً؛ إذا عَمِلوا أخلصوا في أعمالهم، وإذا تكلَّموا صدَقوا في أقوالهم، تعاملوا فيما بينهم بصفاء، فصَفَتْ لهم الحياة، مدَحَهم ربُّ العزة على ما قدَّموا، عرفوا الإيثار فطبَّقوه في حياتهم وأثناء مماتِهم، في الزَّمن البهيِّ، والحديث عند الإمام البخاري: أتَى رَجُل إلى النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: أصابَنِي الجهد، إنِّي جوعان، فبَعثَ حبيبُ هذه الأمَّة - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى نِسائِه، فقُلْنَ: " «والَّذي بعثك بالحقِّ، ما مَعَنا إلاَّ الماءُ» "، بيت النبوة، دار رئيس الدَّولة، لا مأكولات، ولا فواكه، ولا غلال، ولا ذهب ولا جواهر: «هل عندكنَّ طعام» ؟))، قلن: يا رسول الله، والذي بعثَك بالحقِّ، ما معنا إلاَّ الماء، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه: «مَن يُضيفُ هذا يرحمه الله»، فقال رجلٌ من الأنصار - هو أبو طلحة، قال -: أنا يا رسول الله، فانطلقَ به إلى امرأته، ومَن هي امرأته؟ إنَّها أمُّ سُلَيم، الغميصاء بنت ملحان، أمُّ أنسِ بن مالك، خادم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاءها أبو طلحة، فقال: أكرمي ضيفَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: ما عندنا إلاَّ قوت صبياني، فقال: هيِّئي طعامَك، وأصبحي سِراجَك؛ أي: أوقِديه ونوِّريه، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عَشاءً، فهيَّأتْ طعامها، وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، وجاء الضيف، فقامت كأنَّها تُصلِح سِراجها، فأطفأَتْه، فجَعلا يُرِيان الضيف أنَّهما يأكلان معه، وما أكلا، وباتا طاوِيَيْن جائعين، فلمَّا أصبح أبو طلحة، غدا إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوجد الله قد أنزل في حقِّه قرآنًا يُتلَى إلى يوم القيامة، وهو قوله - تبارك وتعالى -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
أمُّ سليم، الغُميصاء، الزَّوجة الوفيَّة النَّقية التقية، مثالٌ للزَّوجات الصالحات.
جاء في "الصحيحين" وفي غيرِهما أنَّ أبا طلحة خرج مسافرًا، وترك أحدَ أبنائه مريضًا، ويوم عودة أبي طلحة مات الولد قبل وصول الوالِد، فقالت لأهلها: لا تُحدِّثوا أبا طلحة حتَّى أخبره أوَّلاً، ولمَّا وصل سألَها عن الولد، قالت: قد هدَأَتْ نفْسُه، وأرجو أن يكون قد استَراح، في أهنَأ نومة، وقدَّمَت له العشاء فتعشَّى، وتزيَّنت وتجمَّلت، فلمَّا كان آخر اللَّيل، قالت: يا أبا طلحة، ألم ترَ إلى آل فلانٍ استعاروا عاريةً، فتمتَّعوا بها، فلمَّا طُلبت منهم كأنَّهم كرهوا ذاك! قال: "ما أنصَفوا"، لما أخذت منه هذا الموقف، قالت: "فإنَّ ابنك كان عاريةً من الله - تبارك وتعالى - وإنَّ الله قبضَه"، فاسترجَع أبو طلحة، ولمَّا أصبح، ذهب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا رآه قال: «بارك الله لكما في ليلتِكما»، وبعد انقضاء مدَّة حَمْلِها، وضعَتْ غلامًا، حملَتْه إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فحنَّكَه، فكان أوَّلَ شيء يصل جوفَ الصبي، ريقُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت الغميصاء: قلت: يا رسول الله سَمِّه، قال: «هو عبد الله»، وهو الصحابي عبدالله بن أبي طَلْحة - رضي الله تعالى عنهما.
هكذا هي حياتُهم، يتَعاملون بكتاب الله - عزَّ وجل - وينهجون منهجَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - القرآن بينهم للطَّاعة، والسُّنة بينهم منارةُ هِداية، وها هو القرآن عند المُسلمين، بتفاسيره وتوضيحاته، يَقرؤونه ويَسمعونه، ولو تناولوا نداءً واحدًا من نداءات ربِّ العالَمين، في قرآنه المبين، لو طبَّقه المسلمون لعاشوا سالِمين غانمين، لو طبَّقوه ما عاشوا حربًا ولا كربًا، لو طبقوه ما ظلموا، وما عَرفوا ظلمَ الظَّالمين، هذا النِّداءُ هو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]؛ اتَّقوا الله في كلِّ ما أمَر الله، في كلِّ تصرُّف وتعامل، في كلِّ قول وعمل، في كلِّ موقعٍ وفي كل مكان، في كل آنٍ وفي كل زمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، فيه خُلق الأوَّلين والآخرين، فيه التراحم والتعاطف بين المؤمنين، فيه السلم والسلامة بين الناس أجمعين، فيه الفوز والنجاح في الدنيا وفي يوم الدِّين.
أليس الذي خلقَنا هو الذي أعلمنا بقوله - تبارك وتعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، إلى قوله - عز وجل -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 4 - 5]؟!
أليس هو الوفِيَّ الأوفَى، وهو القائل - جلَّ جلاله -: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111]؟ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122]؟
أوائِلُنا جمعَهم القرآن، وقرَّبت بينهم السُّنة، فرافقَتْهم المحبَّة والأخوَّة، في كلِّ لحظة من حياتهم، وشملهم التَّراحم حتى حين مماتهم، أورد الإمام البيهقيُّ في "شعب الإيمان" أنَّ حذيفة العدوي، قال: انطلقتُ يوم اليرموك، أطلب ابنَ عمٍّ لي في القتلى، ومعي شيءٌ من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمَق سقيتُه، فإذا أنا به بين القَتْلى، قلت له: أسقيك؟ فأشار إليَّ: أيْ نعم، فسَمِع رجلاً يقول: آه، فأشار إليَّ ابنُ عمِّي أنِ انطلِق إليه واسْقِه، فإذا هو هشامُ بن العاص، قلت: أسقيك؟ قال: نعم، فسمع آخَر يقول: آه، فأشار هشامٌ إليَّ أن انطلق إليه، فاسْقِه، فجئتُه، فإذا هو قد مات، رجعتُ إلى هشام فإذا هو قد مات، ورجعتُ إلى ابن عمِّي فإذا هو قد مات.
هذا تراحمُهم وتعاطفهم، وهم على وشك الموت، كلُّ واحد يقول: اسْقِ أخي؛ لعلَّه أشدُّ حاجةً منِّي إلى الماء، هم رُحَماء حتَّى في حربهم.
في زمن الخلفية الراشد عُمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - دخل جيشُ المسلمين مدينةَ سمرقند، فأرسل أهلُ سمرقند لأمير المؤمنين عمر رسالةً يقولون فيها بأنَّ الفتح الإسلاميَّ للمدينة فتْحٌ باطل؛ لأنَّ الجيش لم يدْعُنا للإسلام، ولم يفرض علينا الجِزْية إن امتنَعْنا، ولم يُخبِرنا بالحرب، فما كان من عمر - رضي الله عنه - إلاَّ أن أصدر الأوامر لقائد جيوشه في بلاد سمرقند بالانسحاب فورًا، وانسحبَ جيش المسلمين، فخرج وراءهم أهل سمرقند، يقولون لهم: عودوا؛ فما عرَفْنا الوفاء والتَّراحم إلاَّ بِكُم، عودوا؛ فإنَّا نشهد أنْ لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمدًا رسول الله، ونشهد بأنَّ هذا الدِّين هو المنهج الحقُّ.
بهذه المواقف الخيِّرة، ملَكوا الدُّنيا، وبهذه المشاعر النيِّرة، بهَروا من حولهم، وبِمَحاسن أخلاقهم، جلسوا على قمَّة كلِّ خلق حسن، فهُم على قمة الإخلاص مخلصون، وهم على قمَّة الصِّدق صادقون، وهم على قمة الرَّحمة رُحَماء، وهم على قمة الوفاء أوفياء، وما أحوج أمَّةَ الإسلام في هذا الزمان إلى الصِّدق في القول، إلى الترفُّع عن القيل والقال، ما أحوج أمة الإسلام إلى الجِدِّ في العمل، إلى الإخلاص في العبادة، إلى التَّراحم، الذي أمرها ربُّها به، وغفلت عنه، ما أحوج الأمة إلى العلاقة التي شيَّدها الإسلامُ بين الزوج والزوجة، وبين الآباء والأبناء، وبين الجار وجاره، وبين المسلم والمسلم، ما أحوجنا إلى العودة لهذا الدِّين.
يوم سلَك أجدادُنا سبيل ربِّهم - جلَّ وعلا - ونهجوا منهج حبيبهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورفعوا راية إسلامهم، أعزَّهم الله، وأكرمهم الله، عاشوا سادة، ولسادة العالَم قادة.
اللَّهم اهْدِنا للحقِّ واليقين، وعُدْ بنا إلى سبيل المتقين، واكتبنا من أهل طاعتك المقرَّبين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم.
____________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله المؤدب البدروشي