أعمال القلوب وأهميتها
العقيدة الصحيحة رأس مال المسلم، وعمود نَجاته، والعَثرة في مسائل العقيدة لا جابر لها إلاَّ لِمَن رَحِم الله تعالى.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - أعمال القلوب -
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا الله عباد الله، وأخلِصوا لله أعمالكم، ففي التقوى والإخلاص نيْلُ المُنى، والسلامة من العَنا، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
عباد الله، اعْلَموا أنَّ المسلم لا يستغني عن تعلُّم مسائل العقيدة التي سيَلقى الله تعالى عليها، ومهما عَلِم منها وفَقِه، فلا غِنى له عن مراجعتها وتذكُّرها بين الحين والآخر، فالعقيدة الصحيحة رأس مال المسلم، وعمود نَجاته، والعَثرة في مسائل العقيدة لا جابرَ لها إلاَّ لِمَن رَحِم الله تعالى.
عباد الله، إنَّ حقيقة الإيمان لدى أهل السُّنة والجماعة أنه: إقرار باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة ويَنقص بالمعصية، فهو إقرار باللسان بأداء الشهادتين لفظًا، واعتقاد بالقلب وهو نيَّته وإخلاصه، وعمل بالجوارح بأن يؤدِّي العبد ما أوجبَ الله تعالى عليه من العبادات، فالإيمان قول وعملٌ، ومَن آمَن لسانه ولَم تَعمل جوارحه بما أوجبَ الله، فهو بعيدٌ عن الإيمان، فليس الإيمان مجرَّد ألفاظ يُطلقها اللسان والقلب في معزلٍ عنها، وليس الإيمان مجرَّد أعمال يعملها العبد دون إخلاص لله فيها، فمَن آمَن بالله، عَمِل بطاعته رجاء ثوابه، وانتهى عن معاصيه خوف عقابه؛ إذ المحب لِمَن يحبُّ مُطيع، ثم إنَّ هذا الإيمان يَزداد ويعظم بفِعل الطاعات، ويَنقص ويَضمحل بفِعل المعاصي والخطيئات، ويظهر من هذا أنَّ لعمل القلب مكانتَه من الإيمان، بل ذكَر العلماء أنَّ عمل القلب أهمُّ من عمل الجوارح؛ قال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله -: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبَعٌ ومُكمِّلة، فمعرفة أحكام القلوب أهمُّ من معرفة أحكام الجوارح".
ويقول أيضًا: "ومَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها، عَلِم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأنَّ أعمال القلوب أفرضُ على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميَّز المؤمن عن المنافق إلاَّ بما في قلب كلِّ واحد من الأعمال التي ميَّزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كلِّ وقتٍ"؛ ا.هـ.
فانظروا - رحمكم الله - إلى المثَل الذي ضرَبه ابن القيِّم، فالمنافق يعمل بعمل المؤمنين؛ فهو يصلي، ويُنفق ماله في سبل البِرِّ، ورُبَّما جاهَد مع المسلمين؛ كما ذكَره الله تعالى عن المنافقين في القرآن الكريم، ومع هذا فهو في الدَّرك الأسفل من النار؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].
وما ذلك إلاَّ لِما في قلوبهم من النفاق وعدم الإخلاص، وما تكنُّه من بُغض المسلمين.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - متحدِّثًا عن الأعمال القلبيَّة: "وهي من أصول الإيمان وقواعد الدين، مثل: محبَّة الله ورسوله، والتوكُّل على الله، وإخلاص الدين لله، والشكر له، والصبر على حُكمه، والخوف منه، والرجاء له، وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخَلق باتِّفاق أئمَّة الدين"؛ ا.هـ.
وأعمال القلوب كثيرة لا تُحصى، فمنها: محبَّة الله تعالى، ومحبَّة رسوله المحبةَ الحقيقيَّة التي تُثمر المتابعة والاستقامة، فمن أحبَّ الله تعالى أطاعَه؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
ومنها الخوف من الله تعالى وخشيته، فمَن خاف الله تعالى حقًّا، عَمِل بطاعته وابتعَد عن مَناهيه؛ إذ إن من خاف من أحدٍ، لَم يتعرَّض لسَخطه، ومنها الرجاء، فمَن عَلِم أنَّ الله تعالى بيده خزائن السماوات والأرض، وأنه على كلِّ شيء قدير، لَم يَرجُ غيره، ولَم يُعلِّق آماله في الحياة بغير الله تعالى، ومَن عَلِم أنَّ الجنة عند الله تعالى، طَمِع فيها ورجَا ما عنده، ومَن أيقَن أنَّ الله يُعذِّب بالنار مَن عصاه، خاف منه وارتَجى عفوه ومَغفرته، ومَن ضاقَت به الأرض بما رَحُبَت، وأُغلِقت في وجهه أبوابُ الدنيا، وعَلِم أنَّ له ربًّا يكفي مَن توكَّل عليه، الْتَجَأ إليه، وفوَّض أمره إليه، وقَوِي يقينُه بربِّه القائل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
ومن أجَلِّ أعمال القلوب الإخلاص لله تعالى؛ فهو حقيقة الدين، ومِفتاح دعوة المُرسلين؛ قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
قال الفُضيل بن عِياض: "أخلصُ العمل: أخلصُه وأصوبه".
وللنيَّات مدخلٌ عظيم في صلاح القلب واستقامته، كما أنَّ لها دورًا كبيرًا في هلاك العبد وتردِّيه، ولخطورة ما يتعلَّق بالنيَّات، قال بعض السلف: "وَدِدْتُ أنه لو كان من الفقهاء مَن ليس له شُغل إلاَّ أن يعلِّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويَقعد للتدريس في أعمال النيَّات ليس إلاَّ؛ فإنه ما أتى على كثيرٍ من الناس إلاَّ من تضييع ذلك"؛ ا.هـ.
وفي الحديث القُدسي قال الله تعالى: "أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَن عَمِل عملاً أشْرَك معي فيه غيري، ترَكته وشِرْكه"؛ مسلم.
والعمل الذي يُقارنه الإخلاص ينفع صاحبه مهما كان قليلاً أو صغيرًا في عين صاحبه؛ قال ابن تيميَّة: "والنوع الواحد من العمل قد يَفعله الإنسان على وجه يَكمُل فيه إخلاصُه وعبوديَّته لله، فيَغفر الله به كبائر الذنوب"، ثم ذكَر الحديث الذي ورَد فيه أنَّ امرأة بغيًّا سقَت كلبًا ماءً بإيمان خالصٍ كان في قلبها، فغُفِر لها، ومثله الرجل الذي أماطَ الأذى عن الطريق، فغفَر الله له...".
ثم قال رحمه الله: "فالأعمال تتفاضل بتفاضُل ما في القلوب من الإيمان والإجلال"؛ ا.هـ.
وفي المقابل نجد أنَّ أداء الطاعة دون إخلاص وصِدق مع الله، لا قيمة لها ولا ثواب، بل وصاحبُها متعرِّض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العِظام؛ كالإنفاق في وجوه الخير، وقتال الكفار، ونَيْل العلم الشرعي؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أوَّل الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استُشهِد، فأُتي به، فعرَّفه نِعمته فعرَفها، قال: فما عَمِلت فيها؟ قال: قاتَلت فيك حتى استُشهِدت، قال: كذَبت، ولكنَّك قاتَلتَ ليُقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِي في النار، ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القُرآن، فأُتِي به، فعرَّفه نِعمه فعرَفها، قال: فما عَمِلت؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذَبت، ولكن تعلَّمت؛ ليُقال: عالِم، وقرأتَ القرآن؛ ليُقال: قارئ، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِي في النار، ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من صنوف المال، فأُتِي به فعرَّفه نِعمه فعرَفها، قال: فما عَمِلت فيها؟ قال: ما ترَكت من سبيل تحبُّ أن ينفقَ فيها، إلاَّ أنفَقت فيها لك، قال: كذَبت، ولكنَّك فعَلت؛ ليقال: جوَاد، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِي في النار»؛ (مسلم).
فيا عبد الله، احرِص على أن تكون أعمالك الصالحة خالصة لوجه الله، وحذارِ حذارِ أن تضيِّعَ أعمالك، فتذهب هباءً منثورًا، إن هي عُرِّيَت عن الإخلاص، أو داخَلها شيء من حظوظ الدنيا ورغباتها؛ من سُمعة، أو شُهرة، أو نيْلِ منزلة لدى الناس.
أيها المؤمنون قد يتعجَّب البعض من الناس حين يُذكِّرون بأهميَّة معرفة مسائل العقيدة والتحذير من بعض المخالفات العقديَّة، وبعضهم يرى أن مَن حدَّثه بهذا الحديث، فإنه يطعن في دينه، أو يتَّهمه بالقصور في المعرفة، وما عَلِم هؤلاء أنَّ الخطأ في مسائل التوحيد ليس كالخطأ فيما عداه من الأبواب، وقد ذكَر العلماء أنَّ الشِّرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب، مع أنَّ الشِّرك الأصغر لا يُخرج صاحبَه عن الدين.
وهناك أمرٌ آخر يكشف مقدار الجهل الذي عليه البعض نحو مسائل العقيدة، فلا يكاد يمرُّ بالناس مصيبة أو بلاء عام، إلاَّ ويقع البعض في قوادح عقديَّة من حيث لا يشعرون، بل رُبَّما وقعوا في الخطأ الذي يمسُّ التوحيد لأدنى شائعة أو دعوى كاذبة، يدَّعيها كاهن أو عرَّاف يدَّعي عِلْمَ الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله؛ كما قال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
ويقول على لسان أحب الخَلْق إليه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].
ولخطورة ادِّعاء علم الغيب وأثره المُدمِّر للدين، فقد ورَد الوعيد الشديد في حقِّ مَن أتى الكُهَّان والعرَّافين، فسألهم عن شيء أو صدَّقهم فيما يَزعمون؛ ففي الحديث: «مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيء، لَم تُقبل له صلاة أربعين يومًا»؛ مسلم.
وفي الحديث الآخر: «مَن أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول، فقد بَرِئ مما أُنزِل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم»؛ أحمد، والنسائي، وله شواهدُ صحيحة.
فهل يعي ذلك مَن أصابَهم الهَلع والفزَع لأدنى شائعة أو مقولة كاذبة، بأنَّ البلد الفلاني سيُصيبه كذا وكذا من المصائب في يوم كذا، ولكن كَذَب المنجمِّون والكَهَنة، وأين الإيمان بالله والخوف منه ممن يُصغي بأُذنيه لكلِّ مَن ادَّعى علمًا غيبيًّا، فيَسمع له ويعمل بموجبه؟
إنَّ هذا دليلٌ على ضَعف الإيمان، وهو خَلل يَقدح في التوحيد.
فلنتَّقِ الله أيُّها المؤمنون، ولنعلِّق رجاءنا وخوفنا بالله وحده، فهو سبحانه ولِيُّ المتَّقين وحافظ المؤمنين.
_______________________________________________
الكاتب: الشيخ د. عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي