مواقف مشرفة لأطفال السلف
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
يمر الإنسان منذ ولادته وحتى وفاته بمراحل متعددة, منها: مرحلة الطفولة, التي تبدأ من ولادة الإنسان وحتى بلوغه, والبلوغ يكون بالاحتلام
- التصنيفات: أخبار السلف الصالح -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فيمر الإنسان منذ ولادته وحتى وفاته بمراحل متعددة, منها: مرحلة الطفولة, التي تبدأ من ولادة الإنسان وحتى بلوغه, والبلوغ يكون بالاحتلام, قال الله عز وجل: {﴿وَإِذَا بَلَغَ ٱلۡأَطۡفَٰلُ مِنكُمُ ٱلۡحُلُمَ﴾ } [النور:59] قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: ﴿ ٱلۡحُلُمَ ﴾ الاحتلام.
فالإنسان إذا لم يحتلم فيعتبر طفلًا, ذكر ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله في تفسيره, عن بسر بن سعيد رحمه الله في قول الله عز وجل: {﴿ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ ﴾} [النور:31] قال: الغلام الذي لم يحتلم
والاحتلام ليس له سن محدد, يقول العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله: ليس لوقت الاحتلام سن معتاد, بل من الصبيان من يحتلم لاثنتي عشرة سنة, ومنهم من يأتي عليه خمس عشرة سنةً, وأكثر من ذلك, ولا يحتلم.
وهناك علامتان للبلوغ فيهما خلاف بين العلماء, وهما: نبات الشعر الخشن حول القبل, وتمام خمس عشرة سنة, يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وقوله: { ﴿وَإِذَا بَلَغَ ٱلۡأَطۡفَٰلُ مِنكُمُ ٱلۡحُلُمَ فَلۡيَسۡتَـٔۡذِنُواْ﴾ } [النور:59] لم يذكر الله سبحانه وتعالى سوى بلوغ الحلم, والمعروف أن هناك شيئين آخرين يحصل بهما البلوغ هما تمام خمس عشرة سنة, وإنبات شعر العانة, لكن هذا الأمران فيهما خلاف بين العلماء, فمنهم من يرى أنه لا بلوغ إلا بالإنزال وأن تمام خمس عشرة سنة ليس علامة على البلوغ....أما إنبات العانة ففيه خلاف أيضًا...لكن المشهور من المذهب ما هو معروف من أن البلوغ يحصل بواحد من ثلاثة أشياء.
والطفل يُقال له: صبي, قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: والطفل: الصبي, ويقع على الذكر والأنثى والجماعة.
والطفل يُقال له: غلام, فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كنتُ غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت يدي تطيش في الصحفة, فقال لي: ((يا غلام, سمِّ الله, وكل بيمينك, وكل مما يليك )) [متفق عليه]
لقد كان لأطفال السلف مواقف مشرفة, يسّر الله الكريم فجمعت بعضًا منها, أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
إمامة المصلين:
& عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه، عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( « إذا حضرت الصلاة فليُؤذِّن أحدُكم، وليؤمُّكم أكثركم قُرْآنًا» ))، قال عمرو: فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، فقدَّموني وأنا ابن ست أو سبع سنين. [أخرجه البخاري].
& عن معمر أن الضحاك بن قيس: أمر غلامًا قبل أن يحتلم فصلى بالناس.
فقيل له: لِم فعلت ذلك؟
قال: إن معه من القرآن ما ليس معي, فإنّما قدّمت القرآن.
& قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: كُنت أُقرىُ الناس, وأنا ابن ثلاث عشرة سنة.
& قال إبراهيم بن شماس رحمه الله تعالى: كنتُ أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام, يحيى الليل.
ــــــــــــــ
حضور مجالس العلم:
& قال الإمام البخاري رحمه الله: كُنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي.
& قال يحيى بن صالح العبدي رحمه الله: أتيت الحسن وأنا غلام, فقعدت بعيدً عن الحلقة. فقال لي: يا بُني, ادن.
& قال مالك رحمه الله: كنت آتي نافعًا مولى ابن عمر, وأنا يومئذ غلام حديث السن, فينزل إليّ فيقعد معي ويُحدثني.
& قال الإمام سفيان بن عيينة: أتيتُ الزهري وفي أذني قرط ولي ذؤابة، فلما رآني جعل يقول واسنينه، واسنينه، ما رأيتُ طالب علم أصغر من هذا!
& قال الإمام الذهبي عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله: وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره ويناظر ويفحم الكبار.
سرعة الفهم والتعلم:
& عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه, قال: ذُ «هِبَ بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأُعجب بي, فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة, فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: (( يا زيد, تعلم لي كتاب يهود, فإني والله ما آمن يهود على كتابي )) قال زيد: فتعلمت فلم يمُرّ بي إلا نصف شهر حتى حذقته, فكنت أكتب له إذا كتب, وأقرأ له إذا كُتِبَ إليه. [ أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح ] وقد كان صغيراً عند قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة, يقول رضي الله عنه: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, وأنا ابن إحدى عشرة سنة» .[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في المجمع إسناده حسن]
ــــــــــــــــ
خدمة أهل العلم:
& عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, قال: فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم, فخدمته عشر سنين» .[أخرجه البخاري]
& وعنه رضي الله عنه قال: ك «ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء, فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة, فيستنجي بالماء» .[متفق عليه]
& وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضواًء, قال: من وضع هذا؟ فأُخبر. فقال: (( اللهم فقههُ في الدين, وعلمه التأويل ))» [أخرجه البخاري]
& قال سفيان بن عيينة رحمه الله, جالست عمرو بن دينار, وأنا صغير, وكان مقعدًا فلم أفارقه حتى كُنت أحمله.
& قال أبو بكر بن سماعة رحمه الله: نزل علينا أبو عبدالله, أحمد بن حنبل, وأنا غلام, فقالت لي أمي: الزم هذا الرجل, فاخدمه, فإنه رجل صالح, فكنت أخدمه.
الرد على من أخطأ بأدب:
& قال يوسف بن عبدالله الحارث رحمه الله: كانت مجالسة الأحنف تُعجبني وأنا غلام فقرأ مرةً حرفًا سقط, فقلت: ليس هو كذا, فنظر في وجهي, وسكت, فلقيته من الغد, فقال: إني نظرتُ في المصحف, فوجدته كما قلت.
& قال محمد بن عبدالله بن عمار رحمه الله: رددت على المعافي بن عمران حرفًا في الحديث, فسكت, فلما كان من الغد جلس في مجلسه من قبل أن يحدث, وقال: إن الحديث كما قال الغلام. قال: وكنت حينئذِ غُلامًا أمرد ما في لحيتي طاقة.
ــــــــــــــــ
& قال الإمام البخاري رحمه الله: جعلتُ أختلف إلى الداخلي وغيره, وقال يومًا فيما قرأ على الناس: سفيان, عن أبي الزبير, عن إبراهيم.
فقلتُ: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني.
فقلت له: ارجع إلى الأصل.
فدخل, ثم خرج, فقال لي: كيف يا غلام؟
قلتُ: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم مني وأصلحه, وقال: صدقت.
فقال للبخاري بعض أصحابه: ابن كم كُنت؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة.
عدم التحديث مع وجود من هم أسن منهم:
& عن سمرة بن جندب رضي الله عنه, قال: « لقد كنتُ على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غُلامًا, فكنتُ أحفظُ عنه, فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالًا هم أسن منّي» . [أخرجه مسلم]
الفطنة والذكاء:
& دخل المعتصم رحمه الله يومًا إلى خاقان بن عرطوج يعوده, فرأى الفتح ابنه وهو صبي فمازحه, ثم قال: أيما أحسن داري أم داركم؟
فقال الفتح بن خاقان: دارنا إذا كنت فيها أحسن.
فأراه فصًّا في يده, فقال: هل رأيت يافتح أحسن من هذا الفصِّ؟ فقال: نعم, اليد التي هو فيها فقال المعتصم: لا أبرح والله حتى أنثر عليه مائة ألف درهم. ففعل ذلك
& قال الأصمعي: قلت لغلام حدث السن من أولاد العرب: أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم, وأنك أحمق. فقال: لا, قلت: ولِمَ؟
قال: أخاف أن يجني عليّ حُمقي جنايةً تُذهب مالي ويبقي عليّ حُمقي.
ـــــــــــــــــ
& قال بشر الخافي: أتيت باب المعافي بن عمران, فدققت الباب, فقيل لي: من؟ قلت: بشر الحافي. قالت بنية من داخل الدار: لو اشتريت نعلًا بدانقين ذهب عنك اسم الحافي.
& قال ثمامة بن أشرس: عدت رجلاً وتركت حماري على بابه, ثم خرجت, فإذا عليه صبي فقلت: لم ركبت بغير إذني ؟ قال: خفت أن يذهب فحفظته لك.
قلت: لو ذهب كان أهون عليَّ.
قال: فهبه لي, وعد أنه ذهب, واربح شكري. فلم أدر ما أقول.
الفصاحة والبلاغة:
& لما استخلف عمر بن عبدالعزيز رحمه الله دخل عليه وفد أهل الحجاز وكان معهم غلام أراد الكلام فقال له عمر مهلًا يا غلام, ليتكلم من هو أسن منك فقال الغلام: مهلًا يا أمير المؤمنين, إنما المرء بأصغريه. قلبه ولسانه ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أحق بمجلسك منك. فقال عمر: صدقت...عظنا يا غلام وأوجز.
قال: نعم يا أمير المؤمنين, إن إناسًا غرهم حلم الله عنهم, وطول أملهم, وحسن ثناء الناس عليهم, فلا يغرنك حلم الله عنك, وطول أملك, وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك فنظر عمر في سن الغلام فإذا هو بضع عشرة سنة وفي رواية عشر سنين
& لما انصرف عمر بن عبدالعزيز رحمه الله, من دفن سليمان بن عبدالملك رحمه الله, ودخل بيته, قال له الحاجب: الأمويون بالباب. فقال: وما يريدون؟! قال: ما عودهم الخلفاء قبلك! قال ابنه عبدالملك _ وهو ابن أربع عشرة سنة _: ائذن لي في إبلاغهم. قال: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرأ عليكم السلام, ويقول: {﴿إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ﴾ [الأنعام:15]}
ــــــــــــ
الثبات وعدم الخوف:
& مرَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, بصبيان وفيهم عبدالله بن الزبير, ففروا, ووقف.
فقال له عمر: ما لك لم تفرّ مع أصحابك ؟
فقال: يا أمير المؤمنين, لم أُجرم فأخافك, ولم يكن بالطريق ضيق فأوسع لك.
قوة الذاكرة:
& عن محمود بن الربيع رضي الله عنه, قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجةً مجّها في وجهي, وأنا ابن خمس سنين. [أخرجه البخاري]
وختامًا فالطفولة هي مرحله البراءة, والصدق, والفطرة, والصفا, وهي مرحلة البناء, والانقياد في حياة الإنسان, فينبغي على الوالدين استغلال هذه المرحلة لغرس الصفات والخصال الطيبة في نفوس أبنائهما مع مراعاة ما هو مستعد له يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: ومما ينبغي أن يُعتمد حال الصبي, وما هو مستعد له من الأعمال, ومهيأ له منها,...فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه, وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك جيد الحفظ واعيًا، فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم، فلينقشه في لوح قلبه ما دام خاليًا فإنه يتمكن فيه ويستقر...وإن رآه بخلاف ذلك ... وهو مستعد للفروسية وأسبابها...مكنه من... التمرن عليها... وإن رآه بخلاف ذلك ... ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعدًّا لها قابلًا لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه، فإن ذلك ميسر على كل أحد.
ـــــــــــــــــــ كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ