موعظة عن الموت

((أكْثِروا من ذكر هادم اللذات؛ فما ذَكَرَهُ أحدٌ في ضيق من العيش إلا وسَّعه، ولا سَعَة إلا ضيَّقها))

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

واعظ القلوب، والزاجر عن الذنوب؛ إنه الموت، حقيقة من الحقائق، لكنها غائبة عند كثير من الناس؛ كما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]، إنها الحقيقة الكبرى؛ كلُّ حي سيفنى، وكل جديد سيبلى، وما هي إلا لحظة واحدة في مثل غمضة العين، أو لمحة البصر تخرج فيها الروح إلى بارئها؛ فإذا العبدُ في عِداد الأموات.

 

ذهب العمر وفَاتَ، يا أسيرَ الشهوات، ومضى وقتك في سهو ولهو وسُبات، وبينما أنت على غيك حتى قِيل: قد مات.

 

عباد الله، بينما نحن في غفلة الحياة ومع صباح كل يوم، بينما نطالع الأخبار والمواقع، أو قد نُفاجَأ باتصال أو رسالة، أو غير ذلك؛ أن فلانًا مات، وقد كان في كامل صحته وعافيته؛ وذلك مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:  «إن من اقتراب الساعة أن يظهر موتُ الفَجْأَةِ»؛ [ (رواه الطبراني، وحسنه الألباني) ].

 

إنه الموت الذي كتبه الله تعالى على جميع الخلائق، فكما أنه خلق الحياة فإنه خلق الممات؛ قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

 

‏فما من نفس على هذه الأرض إلا وكتب الله تعالى عليها الموت؛ قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، فكيف بغيره من الناس؟!

 

الموت كأسٌ، الكلُّ ذائقه؛ قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

 

وبالموت تفنى أعمار الخلائق وتنقضي؛ قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].

 

الموت واعظ القلوب، والزاجر عن الذنوب، فلم نجد واعظًا للقلوب كالموت، ولم نذكر زاجرًا عن الذنوب كالموت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «كفى بالموت واعظًا»،  «من لم يتَّعِظْ بالموت فلا واعظ له»، وصدق ابن مسعود رضي الله عنه إذ يقول: "السعيد من وُعِظَ بغيره".

 

الموت: لِعِظَمِ أمره سمَّاه الله تعالى بالمصيبة؛ قال الله تعالى: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]، وأي مصيبة أعظم من أن يترك العبد ماله وولده وأهله؟! وأي مصيبة أعظم من أن يعاني العبد سكراتِ الموت وشدتَه وأهواله؟! كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سكرات الموت:  «لا إله إلا الله، إن للموت سكراتٍ»، وقال كعب رضي الله عنه في وصف الموت: "كغصن كثيرة أشواكه، أُدخلت في جوف رجل فأصاب كل شوكة كل عرق فيه، ثم نُزِعت منه مرةً واحدةً، أبقى منه ما أبقى، وأخذ منه ما أخذ"، وقيل لأحدهم عند احتضاره: كيف تجد نفسك؟ قال: "أجِدُ أن السماء أطبقت على الأرض، وكأني أتنفس من ثقب إبرة".

 

الموت الذي لا هروب منه ولا فرار؛ كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8].

 

‏فمهما تحصَّن من التحصينات، فسيأتيه مَلَكُ الموت؛ كما قال تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148]، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، فلو اجتمع أطباء الأرض جميعًا، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، ما استطاعوا أن يردُّوا نفسًا واحدة.

 

‏ولذا فهو أعظم تحدٍّ تحدَّى به الله تعالى الناسَ أجمعين؛ الملوك والأمراء، والأغنياء والفقراء؛ كما قال تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168].

 

وحتى لا تغيب هذه الحقيقة عنا، فلقد اهتم القرآن الكريم أيما اهتمام بهذا الموضوع؛ وذلك بكثرة التذكير بالموت والآخرة، والتحذير من الاغترار بالدنيا، مع بيان حقارتها وسرعة فنائها؛ كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]، فإن أهم تسلية نُسلِّي بها أنفسنا عند فَقْدِ الأحِبَّة هو العلم واليقين بزوال هذه الدنيا، وأنها ليست مقرًّا ولا مستقرًّا.

 

‏هذه هي الدنيا، من عاش فيها مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ فهو آتٍ؛ كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5].

 

‏والتحذير من الغفلة عن الموت، ومن مظاهر هذه الغفلة طول الأمل؛ كما قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207].

 

‏ولتقوية هذا المعنى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُربِّي الصحابة على عدم طول الأمل؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك)).

 

وأمرنا بالاستعداد للموت، وذلك بالإكثار من ذِكْرِهِ؛ واسمع إلى هذه الوصية الموجزة: ((أكْثِروا من ذكر هادم اللذات؛ فما ذَكَرَهُ أحدٌ في ضيق من العيش إلا وسَّعه، ولا سَعَة إلا ضيَّقها))، كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة؛ وقال صلى الله عليه وسلم:  «الكَيْسُ من دانَ نفسه، وعمِل لِما بعد الموت»، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: من أكيس الناس؟ فقال:  «أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم استعدادًا للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة»، وكان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يجمع كل ليلة الفقهاءَ، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.

 

‏وفي إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى تذكُّر الموت، كل يومين، أمر بكتابة الوصية؛ كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده»، قال ابن عمر رضي الله عنهما: فوالله ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، إلا ووصيتي عندي)).

 

فلو أنك سألت أحدهم: هل كتبت وصيتك؟ لَنَظَرَ إليك نظرة تعجب واستغراب، وهل أنا على فراش الموت حتى أكتب وصيتي؟ ولا شكَّ أن هذا فهم خاطئ؛ فالوصية لا تُقدِّم أجلًا ولا تؤخِّره، وإنما شُرعت ليتفكر الإنسان في الموت ويستعد له، كما فيها إبراء لذمة الموصي من حقوق تعلَّقت بها:

• إما حقوق لله تعالى؛ من نذر أو زكاة، أو صوم أو حج، لو فَجَأَهُ الموت دون أن يتمكن من أدائها بنفسه.

 

• أو حقوق لأحد من خَلْقِ الله من ديون أو ودائع ونحوهما.

 

• كما أنه يتبرأ من البدع والمحدَثات بعد موته؛ كالنياحة عليه، وشقِّ الجيوب، ولطم الخدود، وإقامة السرادقات، وغيرها من المخالفات.

 

 

فوائد وثمرات الإكثار من ذكر الموت:

1- تذكر الآخرة، والتقلل من الدنيا، والرضا بالقليل منها؛ فتهون عليه كثير من مصائب الدنيا؛ ففي الحديث:  «زُورُوا القبورَ؛ فإنها تذكِّركم الآخرة».

 

2- الخوف من المعصية، والحث على تعجيل التوبة، والحياء من الله تعالى حق الحياء؛ فمن أكْثَرَ من ذكر الموت، فإنه يستحيي من الله أن يلاقيه على هذه المعصية؛ كما قال أحد السلف: "من أكْثَرَ ذِكْرَ الموت، أُكْرِمَ بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسِيَ الموت، عُوقِب بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكَفاف، والتكاسل بالعبادة".

 

3- الرغبة في الطاعات والعبادات، والتزود من الخير؛ فإن أقوى باعث على فعل الخير وترك الشر، هو الإيمان باليوم الآخر، وأضرب لكم هذا المثال: لو أن إنسانًا في جزيرة أو مكان فيه من الذهب والكنوز، وقيل له: سترحل بعد فترة قليلة من هذا المكان، فعليك بجمع ما تريد قبل انتهاء الفرصة، فكيف سيكون حالة في المسارعة والمبادرة والاغتنام؟!

 

4- كثرة ذكر الموت يطرد كثيرًا من أمراض القلوب، زوال كثير من الحسد بسبب التعلق بالدنيا، ويطرد الكِبْر والعُجْبَ من النفس.

 

5- من أسباب حسن الخاتمة؛ فإنه يحُثُّ على محاسبة النفس والاستعداد للموت قبل نزوله.

 

واعلم أن الإكثار من ذكر الموت له صور عديدة؛ فمنها:

• زيارة القبور؛ كما في الحديث:  «زُورُوا القبور؛ فإنها تُذكِّركم الآخرة».

 

• مشاهدة المحتضرين وهم يعانون سكرات الموت، وتلقينهم الشهادة.

 

• تغسيل الأموات، أو زيارة مغاسل الأموات، ورؤية الموتى حين يُغسَّلون.

 

• تشييع الجنائز، والصلاة عليها، وحضور دفنها.

 

• تلاوة القرآن، ولا سيما الآيات التي تذكِّر بالموت وسكراته؛ كقوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].

 

• الاتعاظ بالشَّيب والمرض؛ فإنهما من رُسُلِ مَلَكِ الموت إلى العباد.

 

• الإكثار من سماع الخطب والمواعظ عن الموت والقبر والدار الآخرة.

 

• وفي الختام، اعلم - يا عبدالله - أن ملايين الموتى يتمنون مثل الدقيقة التي تمر من حياتك ليستثمروها في طاعة الله تعالى، وذِكْرِهِ والتوبة إليه؛ فقد روى الطبراني وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبر فقال: «من صاحب هذا القبر»؟ فقالوا: فلان، فقال: «ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم»، وفي رواية قال:  «ركعتان خفيفتان مما تحقِرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحبُّ إليه من بقية دنياكم».

 

• ‏فلا ينبغي أن تضيع دقائق عمرك؛ لئلا تتحسَّر في آخرتك؛ كما قال الله تعالى عن أحوال النادمين: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]، وقال تعالى: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون: 10].

 

نسأل الله العظيم أن يُحسِن لنا الخواتيم، وأن يتوفَّانا وهو راضٍ عنا.

_______________________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي