الزكاة الضمان الاجتماعي الإسلامي

تُرسخ الزكاةُ في المجتمع مبادئَ الأُخُوَّة الإسلامية، والتضامن والتراحم، والتكافل الحقيقي، المعنَوي والمادِّي، وتنشئ مجتمعًا متماسكًا يَسُود فيه الإحساسُ بالأمن والاطمئنان، ويَقْوَى فيه ركنُ الانتماءِ للوطن والأمة.

  • التصنيفات: فقه الزكاة - - آفاق الشريعة -

تتنادَى الشعوبُ العربيةُ والإسلاميةُ بالدعوةِ إلى تطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ، بوصفِها جزءًا من الحلِّ الإسلامي الشامل، وعودةً إلى مِنهاجِ الله - سبحانه وتعالى - وتلك دعوةٌ غايتُها الحقُّ، والعدلُ، والمصلحةُ؛ فأحكام الشريعة تَرتبِط بالدين والعقيدة، وتتكامَل مع الأخلاقِ والقِيَم والآداب الإسلامية.

 

وقد أثبتَ التاريخُ أن هذا المنهجَ المتكامِلَ أخرجَ للناسِ مجتمعاتٍ متكافلةً متراحمةً، تَعلُو فيها كلمةُ الحقِّ، ويَسُودُ فيها العَدْلُ الاجتماعي، وتَربِط بين أفرادها روابطُ الوُدِّ والاطمئنان، والإخاء والإيثار، وتجمَع بينهم وشائجُ الانتماء للوطن الإسلامي، الذي يُعطِي المُحْتَاجَ حقَّه، ولا يُدِير له ظهرَه؛ أسوةً بما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحمِهم، كمَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تَدَاعَى له سائرُ الجسدِ بالسهر والحُمَّى».

 

ولما كانت مشكلاتُ الفقر، والحرمان، والظلم الاجتماعي، أهمَّ مشكلات الحياةِ، ولما كانت الزكاةُ - وهي ركنٌ من أركان الدين - قد أوجبها الله - سبحانه وتعالى - وقايةً من هذه المشكلات، وعلاجًا لها، وركيزةً هامةً للتكافل الاجتماعي، وعدالةِ التوزيع، تؤخَذ من أموال الأغنياء، حقًّا معلومًا للفقراء.

 

بيت مال الزكاة:

ويؤكِّد المؤلِّف أن من خصائصِ الزكاةِ أنها ركنُ الدينِ، وفريضةٌ دائمةٌ، لا سبيلَ إلى الترخُّص فيها، أو إهمال جِبَايتِها، مشدِّدًا على الحاجة الماسَّة لتطبيقِ نظامِ الزكاةِ، وأن القيامَ على شؤونها من أهم مسؤوليات الدولة، ومن أوجبِ واجباتها.

 

لقد فهِم المسلمون منذ أقدمِ العصور معنَى ووظيفةَ وخصائصَ الزكاة، فجَعَلوا لها بيتَ مالٍ قائمًا بذاته، هو "بيت مال الزكاة"، الذي فيه تكون حصيلتُها، ومنه توزَّع مصارِفها، وكان مستقِلاًّ عن بيت المال الخاص بالجِزْيَة والخَرَاج، وبيتِ مالِ الغنائمِ والرِّكَاز، وبيتِ مالِ البضائع.

 

هذا، وإن قيامَ الدولة على شؤون الزكاة، وتخصيص مؤسَّسة عامة للضمان الاجتماعي يُنْشِئها قانونٌ - ينبغي أن تكونَ له الملامحُ العامَّة والتنظيمات الآتية:

1- يجب أن يَبْرُز في قانونِ الزكاة أن الهدفَ من إنشاء المؤسسة هو الامتثالُ لشريعةِ الله - سبحانه وتعالى - والاستقامةُ على أمره، وأن تقوم على تطبيقِ أحكامِ الزكاة الإسلامية، وتنفيذِ هذا الجانب الاجتماعي، والمالي، والاقتصادي من جوانبِ المِنهَاجِ الإسلامي، وأن تُرَاعَى في الوقتِ ذاته الأحكامُ الشرعية العامَّة.

 

2- أن الهدفَ من قيام المؤسسة تحديدُ جهةٍ عامَّة مؤتَمنةٍ متخصِّصةٍ، يُمكِن لأصحابِ الأموالِ أن يطمئِنُّوا ويَثِقوا بها، ويؤدُّوا إليها زكاة أموالهم بصفة منتظِمة.

 

3- يُضْفِي القانون على هذه المؤسَّسةِ الشخصيةَ الاعتبارية العامَّة، ويكونُ لها مَن يمثِّلها، ويَنُوبُ عنها في التصرُّفات القانونية وفي التقاضي، ويخوِّلها القانون وضعَ موازنةٍ لإيراداتها ومصروفاتها، وسلطة تلقِّي إقرارات الزكاة من أصحاب الأموال، وحساب هذه الزكاة وتحصيلها بالطرق القانونية، كما يتضمَّن القانون الإجراءاتِ والضماناتِ الكفيلةَ بحسن الجِبَاية، وبحسن التصرف في الأموال.

 

4- وفي ظلِّ الاستقلال المالي والإداري، الذي يَكْفُله القانون لهذه المؤسسة العامَّة، تخصَّص الإيراداتُ المحصَّلة من الزكاة لأبوابٍ من الإنفاقِ العامِّ معيَّنة، هي مصارف الزكاة الشرعية - دون غيرها - ولا يجوزُ للحكومة أن تأخُذ من حصيلة الزكاة لتكمِلة كلِّ أو بعضِ أبواب الإنفاق العامِّ، سواء كان ذلك بطريقِ التخصيص، أو القرض، أو غيرها.

 

إن منافعَ الزكاة ليست مجرَّد مبالغَ تُصَرف للفقراءِ، بل قد تكون خدماتٍ نافعةً لهم، وأماكنَ عملٍ تُنْشَأ لمَن لا عملَ لهم، وتسهيلاتٍ أو منافعَ عينيةٍ للمرضى والمُحتَاجِين، أو المُعَاقِين، أو المَحْرُومين، ويجب أن يكون مفهومًا أن مؤسَّسة الزكاة ليست دولةً داخلَ دولةٍ، وأنها وإن كان لها استقلالٌ ماليٌّ وإداريٌّ لتحقيقِ الأهداف القانونية، إلا أنها ليست مستقلَّةً تمامَ الاستقلالِ عن محيطِها ومجتمعِها وظروف أمَّتها، ومن ثَمَّ فإنه يَجِب أن تُواكِب الخطةُ الزَّكَوِية التي تَضعُها المؤسَّسة الخطَّةَ العامَّة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية العامة في الدولة، وأن تُساعِد على أهدافِها العامة، بشرط أن تتحرَّى المصلحة الإسلامية، ولا تخرج عن أصول الشريعة.

 

الزكاة والضرائب:

وتختلِف الزكاة عن الضرائبِ، فالأخيرةُ أهدافُها ماديَّة بحتة، وهي فرائض مالية بحتة، تفرِضها الدولة عند الحاجة، بقصد مواجهة مصروفاتها العامة وموازنة ميزانيَّتها، وليست لها صفةُ العبادةِ، فليس لها طابعٌ دينيٌّ أو روحيٌّ، وليست لها صفة الدوامِ والثباتِ؛ بل تملك الدولة ألا تفرِضها، وإذا فَرَضتها تَمْلِك أن تعدل في أحكامِها أو فئاتها، أو أن تُلْغِيها بقانون كما سبق أن فَرَضتها بقانون، وتعدل وِعاءَها كما سبق أن حدَّدته.

 

ومن هنا يتَّضح أن الزَّكَاة والضريبة، وإن كانت كلتاهما فريضةً ماليةً، إلا أن إحداهما تختَلِف عن الأخرى في طبيعةِ أهدافِها، وفي مصدر تشريعِها، وأساس جِبَايتِها، وفي مقاديرِ وعائها ومصارفها.

 

ومن ثَمَّ؛ فإن الضرائب لا تُغْنِي عن الزكاة، ولا تُعْفِي من أدائها، ولا يَجُوز للمسلم وهو يَدْفَع أيَّة ضريبةٍ من الضرائب التي تفرِضها الدول، أن يَقْصِد بذلك الدفعِ أداءَ الزكاة، ولا يُقْبَل منه أن يقول: إنه يَنْوِي بأداء الضريبة أداءَ الزكاة، ولا يجوز أن تحتَسب الضرائب التي تؤدَّى من الزكاة واجبة.

 

الضمان الاجتماعي الإسلامي:

إن قيام الدولة على شؤون الزكاة، وإنشاء مؤسسة عامة تَجمَع الزكاةَ جبرًا، وتصرفها في مصارفها الشرعية - له الآثار الآتية:

أ - الناحية الروحية:

تطهِّر الزكاة نفوسَ دافعيها، وتزكِّي أرواحهم وأموالَهم، وتبارِك نوازِعَ الخيرِ فيهم، ولما كان الخيرُ يَستَدْعِي الخيرَ، والعبادةُ تتكامَل مع سائِر العباداتِ، فإن سيادةَ تشريعِ الزكاة وحسنَ تنفيذِه، يقوِّي إيمانَ الناس بالله الذي يُنَفِّذون شِرْعَته ومِنهَاجه، وإيتاءُ الزكاة يُزِيل من نفوسِ المؤمنين الشُّحَّ، ويُدَرِّبها على مزيدٍ من الخير والبر.

 

ب - الناحية الاجتماعية:

تُرسخ الزكاةُ في المجتمع مبادئَ الأُخُوَّة الإسلامية، والتضامن والتراحم، والتكافل الحقيقي، المعنَوي والمادِّي، وتنشئ مجتمعًا متماسكًا يَسُود فيه الإحساسُ بالأمن والاطمئنان، ويَقْوَى فيه ركنُ الانتماءِ للوطن والأمة.

 

كما تعمَل الزَّكاة على إحلالِ الغَنِي محلَّ الفقير، والعملِ محلَّ البطالة، حيث قال أحد الفقهاء: "يُعطَى ما يُخْرِجه من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصُل به الكفاية على الدوام"، وتكفل كذلك عدالةَ توزيعِ المال الذي استخلف الله الناسَ فيه.

 

ومردُّ اهتمامِ الإسلامِ بتحقيقِ عدالةِ التوزيع، أنه لا يُمْكِن أن تستقيم العقيدة، وتنهضُ الأخلاق، في مجتمعٍ مختلِّ البِنْيَة، ممزَّقِ الكِيَان، يتَقَاسَم صفوفه الحرمان والشبع، والقلق والاطمئنان.

 

وفي مجتمعِ الزَّكاة المتكافِل المتضامِن تَخِفُّ آثارُ الكوارثِ والنوازل؛ إذ تعمَل مؤسَّسة الزكاة على الوِقَاية منها - بقدر الإمكان - وتعمَل إذا نزلتْ على علاجِها والتخفيفِ من آثارها.

 

ج - الناحية الاقتصادية:

يعالِج الإسلامُ بالزكاةِ اختلالَ التوازن في توزيعِ الثروة، ويقرِّب بين الطبقات، ويَحُضُّ على استثمارِ الأموال بدلاً من اكتِنَازِها، وبذلك يحمِي المجتمعَ من الأضرارِ الجَسِيمة التي تنشأ من غلوِّ الرأسمالية، ومن الاكتنازِ والربا، ومن تكدُّس الثروات في أيدي قلَّة تتحكَّم في الحياة الاقتصادية، وقد تتحكَّم نتيجةً لذلك في الأوضاع الاجتماعية والسياسية كذلك.

 

وبذلك يعمَل نظامُ الزكاةِ على تحويل الفقراءِ القادرين على العمل إلى عامِلين مُنتِجين؛ وذلك بما تقدِّمه لهم مؤسَّسة الزكاة من مساعدات نقديَّة، أو عينيَّة، أو قَرْضٍ حسنٍ إنتاجي، أو تدريب مهني، أو حرفي، فتحوِّل بذلك المُحْتَاجين العاطِلين إلى طاقاتٍ عاملة مُنتجة.

 

ويَكفُل نظامُ الزكاةِ للمُحتَاجِين حدَّ الكفاية عن طريق معاشاتِ ومساعدات الضمان الاجتماعي الإسلامي، وذلك بالإضافة إلى الإعانات الإنتاجية، ويترتَّب على ذلك زيادةُ القدرةِ الشرائية لفئاتٍ كثيرةٍ في المجتمع، كانت من قبلِ تنظيمِ الزكاة تُعَانِي الحرمانَ والعجز الاقتصادي.

 

إن عمليةَ التنميةِ أو النمو في الدخل القومي التي تترتَّب على نظام الزكاة لا يَقتَصِر معدَّلُها على 2.5 %، بل يَزِيد الدخلُ بنسبةٍ أكبرَ؛ وذلك تطبيقًا لنظريةِ المكرَّر أو المضاعف التي تربِط بين الدخل الكلي ومعدَّل الاستثمار؛ فإنفاقُ الزكاة في المجتمع، ودفع الأموال العاطلة إلى المَيْدَان الاقتصادي والاستثمارات، من شأنه أن يُحْدِث أثرًا مكررًا في الدَّخْلِ القومي الكلي.

 

كما أن الزكاةَ وسيلةٌ للادِّخارِ الإجباري على نحوٍ يحبُّه الله - سبحانه وتعالى - ويحبُّه المؤمنون، فيقول الله - سبحانه وتعالى - في محكم آياته: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].

 

ويتكوَّن لَدَى مؤسَّسة الزكاة مالٌ احتياطيٌّ يرصَد لصالحِ الفقراء خاصَّة، ولصالح الأمة والدين عامَّة، وتَعودُ فائدةُ هذا المال المدَّخَر أو الاحتياطي الكبير على الإخوةِ في الدين والوطن والإنسانية، وعلى المدَّخِر نفسِه دافعِ الزكاة، إذا أصابتْه - هو أو مَن يَعُولُهم من أفراد أسرته - المخاطِرُ، أو الملِّمَّات في المستقبل.

____________________________________________________________
الكاتب: أحمد حسين الشيمي