شرح النووي لحديث أم زرع

النووي

عن عائشة أنها قالت جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا

  • التصنيفات: الحديث وعلومه -

صحيح مسلم:

باب ذكر حديث أم زرع

2448 حدثنا علي بن حجر السعدي وأحمد بن جناب كلاهما عن عيسى واللفظ لابن حجر حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة أنها قالت  «جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا قالت الأولى زوجي لحم جملغث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل قالت الثانية زوجي لا أبث خبره إني أخاف أن لا أذره إن أذكره أذكر عجره وبجره قالت الثالثة زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق قالت الرابعة زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة قالت الخامسة زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد ولا يسأل عما عهد قالت السادسة زوجي إن أكل لف وإن شرب اشتف وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث قالت السابعة زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له داء شجك أو فلك أو جمع كلا لك قالت الثامنة زوجي الريح ريح زرنب والمس مس أرنب قالت التاسعة زوجي رفيع العماد طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من النادي قالت العاشرة زوجي مالك وما مالك مالك خير من ذلك له إبل كثيرات المبارك قليلات المسارح إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك قالت الحادية عشرة زوجي أبو زرع فما أبو زرع أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلي نفسي وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح أم أبي زرع فما أم أبي زرع عكومها رداح وبيتها فساح ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا قالت خرج أبو زرع والأوطاب تمخض فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا وأعطاني من كل رائحة زوجا قال كلي أم زرع وميري أهلك فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع قالت عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع وحدثنيه الحسن بن علي الحلواني حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا سعيد بن سلمة عن هشام بن عروة بهذا الإسناد غير أنه قال عياياء طباقاء ولم يشك وقال قليلات المسارح وقال وصفر ردائها وخير نسائها وعقر جارتها وقال ولا تنقث ميرتنا تنقيثا وقال وأعطاني من كل ذابحة زوجا» .

شرح النووي:

 قوله : ( أحمد بن جناب ) بالجيم والنون ، قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه المبهمات : لا أعلم أحدا سمى النسوة المذكورات في حديث أم زرع إلا من الطريق الذي أذكره ، وهو غريب جدا فذكره ، وفيه أن الثانية اسمها عمرة بنت عمرو ، واسم الثالثة حنى بنت نعب ، والرابعة مهدد بنت أبي مرزمة ، والخامسة كبشة ، والسادسة هند ، والسابعة حنى بنت علقمة ، والثامنة بنت أوس بن عبد ، والعاشرة كبشة بنت الأرقم ، والحادية عشرة أم زرع بنت أكهل بن ساعد .

قولها : ( جلس إحدى عشرة امرأة ) هكذا هو في معظم النسخ ، وفي بعضها ( جلسن ) بزيادة نون ، وهي لغة قليلة سبق بيانها في مواضع منها حديث : يتعاقبون فيكم ملائكة . وإحدى عشرة وتسع عشرة وما بينهما يجوز فيه إسكان الشين وكسرها وفتحها ، والإسكان أفصح وأشهر .

قولها : ( زوجي لحم جمل غث ، على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل ) قال أبو عبيد وسائر أهل الغريب والشراح : المراد بالغث المهزول . وقولها : ( على رأس جبل وعر ) أي صعب الوصول إليه . فالمعنى أنه قليل الخير من أوجه : منها كونه كلحم لا كلحم الضأن ، ومنها أنه مع ذلك غث مهزول رديء ، ومنها أنه صعب التناول لا يوصل إليه إلا بمشقة شديدة .

هكذا فسره الجمهور . وقال الخطابي : قولها : ( على رأس جبل ) أي يترفع ، ويتكبر ، ويسمو بنفسه فوق موضعها كثيرا أي أنه يجمع إلى قلة خيره تكبره وسوء الخلق . قالوا : وقولها : ( ولا سمين فينتقل ) أي تنقله الناس إلى بيوتهم ليأكلوه ، بل يتركوه رغبة عنه لرداءته .

قال الخطابي : ليس فيه مصلحة يحتمل سوء عشرته بسببها . يقال : أنقلت الشيء بمعنى نقلته . وروي في غير هذه الرواية : ( ولا سمين فينتقى ) أي يستخرج نقيه ، والنقي بكسر النون وإسكان القاف هو المخ ، يقال : نقوت العظم ، ونقيته ، وانتقيته ، إذا استخرجت نقيه .

قولها : ( قالت الثانية : زوجي لا أبث خبره إني أخاف ألا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره ) فقولها : ( لا أبث خبره ) أي لا أنشره وأشيعه ( إني أخاف أن لا أذره ) فيه تأويلان أحدهما لابن السكيت وغيره أن الهاء عائدة على خبره ، فالمعنى أن خبره طويل إن شرعت في تفصيله لا أقدر على إتمامه لكثرته . والثانية أن الهاء عائدة على الزوج ، وتكون ( لا ) زائدة كما في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد ومعناه إني أخاف أن يطلقني فأذره . وأما ( عجره وبجره ) فالمراد بهما عيوبه ، وقال الخطابي وغيره : أرادت بهما عيوبه الباطنة ، وأسراره الكامنة

قالوا : وأصل العجر أن يعتقد العصب أو العروق حتى تراها ناتئة من الجسد ، والبجر نحوها إلا أنها في البطن خاصة ، واحدتها بجرة ، ومنه قيل : رجل أبجر إذا كان ناتئ السرة عظيمها ، ويقال أيضا : رجل أبجر إذا كان عظيم البطن ، وامرأة بجراء والجمع بجر . وقال الهروي : قال ابن الأعرابي العجرة نفخة في الظهر ، فإن كانت في السرة فهي بجرة .

قولها : ( قالت الثالثة : زوجي العشنق إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق ) فالعشنق بعين مهملة مفتوحة ثم شين معجمة مفتوحة ثم نون مشددة ثم قاف ، وهو الطويل ، ومعناه ليس فيه أكثر من طول بلا نفع ، فإن ذكرت عيوبه طلقني ، وإن سكت عنها علقني ، فتركني لا عزباء ولا مزوجة .

( قالت الرابعة : زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ، ولا مخافة ولا سآمة ) هذا مدح بليغ ، ومعناه ليس فيه أذى ، بل هو راحة ولذاذة عيش ، كليل تهامة لذيذ معتدل ، ليس فيه حر ، ولا برد مفرط ، ولا أخاف له غائلة لكرم أخلاقه ، ولا يسأمني ويمل صحبتي .

( قالت الخامسة : زوجي إن دخل فهد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد ) هذا أيضا مدح بليغ ،فقولها : فهد بفتح الفاء وكسر الهاء تصفه إذا دخل البيت بكثرة النوم والغفلة في منزله عن تعهد ما ذهب من متاعه وما بقي ، وشبهته بالفهد لكثرة نومه ، يقال : أنوم من فهد ، وهو معنى قولها ( : ولا يسأل عما عهد ) أي لا يسأل عما كان عهده في البيت من ماله ومتاعه ، وإذا خرج أسد بفتح الهمزة وكسر السين ، وهو وصف له بالشجاعة ، ومعناه إذا صار بين الناس أو خالط الحرب كان كالأسد ، يقال : أسد واستأسد . قال القاضي : وقال ابن أبي أويس : معنى فهد إذا دخل البيت وثب علي وثوب الفهد فكأنها تريد ضربها ، والمبادرة بجماعها ، والصحيح المشهور التفسير الأول .

( قالت السادسة : زوجي إن أكل لف ، وإن شرب اشتف ، وإن اضطجع التف ، ولا يولج الكف ليعلم البث ) .

قال العلماء : ( اللف ) في الطعام الإكثار منه مع التخليط من صنوفه حتى لا يبقى منها شيء . والاشتفاف في الشرب أن يستوعب جميع ما في الإناء ، مأخوذ من الشفافة بضم الشين ، وهي ما بقي في الإناء من الشراب ، فإذا شربها قيل : اشتفها ، وتشافها .

وقولها : ( ولا يولج الكف ليعلم البث ) قال أبو عبيد : أحسبه كان بجسدها عيب أو داء كنت به ، لأن البث الحزن ، فكان لا يدخل يده في ثوبها ليمس ذلك فيشق عليها ، فوصفته بالمروءة وكرم الخلق . وقال الهروي : قال ابن الأعرابي : هذا ذم له ، أرادت : وإن اضطجع ورقد التف في ثيابه في ناحية ، ولم يضاجعني ليعلم ما عندي من محبته . قال : ولا بث هناك إلا محبتها الدنو من زوجها . وقال آخرون : أرادت أنه لا يفتقد أموري ومصالحي . قال ابن الأنباري : رد ابن قتيبة على أبي عبيد تأويله لهذا الحرف ، وقال : كيف تمدحه بهذا ، وقد ذمته في صدر الكلام ؟ قال ابن الأنباري : ولا رد على أبي عبيد ، لأن النسوة تعاقدن ألا يكتمن شيئا من أخبار أزواجهن ، فمنهن من كانت أوصاف زوجها كلها حسنة فوصفتها ، ومنهن من كانت أوصاف زوجها قبيحة فذكرتها ، ومنهن من كانت أوصافه فيها حسن وقبيح فذكرتهما . وإلى قول ابن الأعرابي وابن قتيبة ذهب الخطابي وغيره واختاره القاضي عياض .

( قالت السابعة : زوجي غياياء أو عياياء طباقاء كل داء له شجك أو فلك أو جمع كلا لك ) هكذا وقع في هذه الرواية ( غياياء ) بالغين المعجمة ، أو ( عياياء ) بالمهملة ، وفي أكثر الروايات بالمعجمة ، وأنكر أبو عبيد وغيره المعجمة ، وقالوا : الصواب المهملة ، وهو الذي لا يلقح ، وقيل : هو العنين الذي تعييه مباضعة النساء ، ويعجز عنها . وقال القاضي وغيره : غياياء بالمعجمة صحيح ، وهو مأخوذ من الغياية ، وهي الظلمة ، وكل ما أظل الشخص ، ومعناه لا يهتدي إلى سلك ، أو أنها وصفته بثقل الروح ، وأنه كالظل المتكاثف المظلم الذي لا إشراق فيه ، أو أنها أرادت أنه غطيت عليه أموره ، أو يكون غياياء من [ ص: 583 ] الغي ، وهو الانهماك في الشر ، أو من الغي الذي هو الخيبة . قال الله تعالى : فسوف يلقون غيا وأما ( طباقاء ) فمعناه المطبقة عليه أموره حمقا ، وقيل : الذي يعجز عن الكلام ، فتنطبق شفتاه ، وقيل : هو العي الأحمق الفدم .

وقولها : ( شجك ) أي جرحك في الرأس ، فالشجاج جراحات الرأس ، والجراح فيه وفي الجسد . وقولها ( فلك ) الفل الكسر والضرب . ومعناه أنها معه بين شج رأس ، وضرب وكسر عضو ، أو جمع بينهما . وقيل : المراد بالفل هنا الخصومة وقولها : ( كل داء له داء ) أي جميع أدواء الناس مجتمعة فيه .

( قالت الثامنة : زوجي الريح ريح زرنب ، والمس مس أرنب ) الزرنب نوع من الطيب معروف . قيل : أرادت طيب ريح جسده ، وقيل : طيب ثيابه في الناس وقيل : لين خلقه وحسن عشرته . والمس مس أرنب صريح في لين الجانب ، وكرم الخلق .

( قالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد ) هكذا هو في النسخ ( النادي ) بالياء ، وهو الفصيح في العربية ، لكن المشهور في الرواية حذفها ليتم السجع .

قال العلماء : معنى رفيع العماد وصفه بالشرف ، وسناء الذكر . وأصل العماد عماد البيت ، وجمعه عمد ، وهي العيدان التي تعمد بها البيوت ، أي بيته في الحسب رفيع في قومه . وقيل : إن بيته الذي يسكنه رفيع العماد ليراه الضيفان وأصحاب الحوائج فيقصدوه ، وهكذا بيوت الأجواد .

وقولها : طويل النجاد بكسر النون تصفه بطول القامة ، والنجاد حمائل السيف ، فالطويل يحتاج إلى طول حمائل سيفه ، والعرب تمدح بذلك .

قولها : ( عظيم الرماد ) تصفه بالجود وكثرة الضيافة من اللحوم والخبز ، فيكثر وقوده ، فيكثر رماده . وقيل : لأن ناره لا تطفأ بالليل لتهتدي بها الضيفان ، والأجواد يعظمون النيران في ظلام الليل ، ويوقدونها على التلال ومشارف الأرض ، ويرفعون الأقباس على الأيدي لتهتدي بها الضيفان .

وقولها : ( قريب البيت من النادي ) قال أهل اللغة : النادي والناد والندى والمنتدى مجلس القوم ، وصفته بالكرم والسؤدد ، لأنه لا يقرب البيت من النادي إلا من هذه صفته ؛ لأن الضيفان يقصدون النادي ، ولأن أصحاب النادي يأخذون ما يحتاجون إليه في مجلسهم من بيت قريب النادي ، واللئام يتباعدون من النادي .

( قالت العاشرة : زوجي مالك ، فما مالك مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك ، قليلات  المسارح ، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك ) معناه أن له إبلا كثيرا فهي باركة بفنائه ، لا يوجهها تسرح إلا قليلا قدر الضرورة ، ومعظم أوقاتها تكون باركة بفنائه ، فإذا نزل به الضيفان كانت الإبل حاضرة ؛ فيقريهم من ألبانها ولحومها .

والمزهر بكسر الميم العود الذي يضرب ، أرادت أن زوجها عود إبله إذا نزل به الضيفان نحر لهم منها ، وأتاهم بالعيدان والمعازف والشراب ، فإذا سمعت الإبل صوت المزهر علمن أنه قد جاءه الضيفان ، وأنهن منحورات هوالك . هذا تفسير أبي عبيد والجمهور .

وقيل : مباركها كثيرة لكثرة ما ينحر منها للأضياف ، قال هؤلاء : ولو كانت كما قال الأولون لماتت هزالا ، وهذا ليس بلازم ؛ فإنها تسرح وقتا تأخذ فيه حاجتها ، ثم تبرك بالفناء : وقيل : كثيرات المبارك أي مباركها في الحقوق والعطايا والحمالات والضيفان كثيرة ، مراعيها قليلة ؛ لأنها تصرف في هذه الوجوه . قاله ابن السكيت . قال القاضي عياض : وقال أبو سعيد النيسابوري : إنما هو إذا سمعن صوت المزهر بضم الميم ، وهو موقد النار للأضياف . قال : ولم تكن العرب تعرف المزهر بكسر الميم الذي هو العود إلا من خالط الحضر . قال القاضي : وهذا خطأ منه ؛ لأنه لم يروه أحد بضم الميم ، ولأن المزهر بكسر الميم مشهور في أشعار العرب ، ولأنه لا يسلم له أن هؤلاء النسوة من غير الحاضرة ، فقد جاء في رواية أنهن من قرية من قرى اليمن .

( قالت الحادية عشرة ) وفي بعض النسخ الحادي عشرة وفي بعضها الحادية عشر ، والصحيح الأول .

قولها ( أناس من حلي أذني ) هو هو بتشديد الياء من ( أذني ) على التثنية ، والحلي بضم الحاء وكسرها لغتان مشهورتان . والنوس بالنون والسين المهملة الحركة من كل شيء متدل ، يقال منه : ناس ينوس نوسا ، وأناسه غيره أناسة ، ومعناه حلاني قرطة وشنوفا فهي تنوس أي تتحرك لكثرتها

قولها : ( وملأ من شحم عضدي ) وقال العلماء : معناه أسمنني ، وملأ بدني شحما ، ولم ترد اختصاص العضدين ، لكن إذا سمنتا سمن غيرهما .

قولها : ( وبجحني فبجحت إلي نفسي ) هو بتشديد جيم ( بجحني ) فبجحت بكسر الجيم وفتحها لغتان مشهورتان ، أفصحهما الكسر ، قال الجوهري : الفتح ضعيفة ، ومعناه فرحني ففرحت ، وقال ابن الأنباري : وعظمني فعظمت عند نفسي . يقال : فلان يتبجح بكذا أي يتعظم ويفتخر .

قولها : ( وجدني في أهل غنيمة بشق ، فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ) أما قولها : ( في غنيمة ) فبضم الغين تصغير الغنم ، أرادت أن أهلها كانوا أصحاب غنم لا أصحاب خيل وإبل ؛ لأن الصهيل أصوات الخيل ، والأطيط أصوات الإبل وحنينها ، والعرب لا تعتد بأصحاب الغنم ، وإنما يعتدون بأهل الخيل والإبل .

وأما قولها : ( بشق ) ، فهو بكسر الشين وفتحها ، والمعروف في روايات الحديث والمشهور لأهل الحديث كسرها ، والمعروف عند أهل اللغة فتحها . قال أبو عبيد : هو بالفتح . قال : والمحدثون [ ص: 585 ] يكسرونه . قال : وهو موضع ، وقال الهروي الصواب الفتح . قال ابن الأنباري : هو بالكسر والفتح ، وهو موضع . وقال ابن أبي أويس وابن حبيب : يعني بشق جبل لقلتهم وقلة غنمهم ، وشق الجبل ناحيته . وقال القبتيني ويقطونه : بشق ، بالكسر ، أي بشظف من العيش وجهد . قال القاضي عياض : هذا عندي أرجح ، واختاره أيضا غيره ، فحصل فيه ثلاثة أقوال .

وقولها : ( ودائس ) هو الذي يدوس الزرع في بيدره . قال الهروي وغيره : يقال : داس الطعام درسه ، وقيل : الدائس الأبدك .

قولها : ( ومنق ) هو بضم الميم وفتح النون وتشديد القاف ، ومنهم من يكسر النون ، والصحيح المشهور فتحها . قال أبو عبيد : هو بفتحها قال : والمحدثون يكسرونها ، ولا أدري ما معناه . قال القاضي : روايتنا فيه بالفتح ، ثم ذكر قول أبي عبيد . قال : ابن أبي أويس بالكسر ، وهو من النقيق ، وهو أصوات المواشي . تصفه بكثرة أمواله ، ويكون منق من أنق إذا صار ذا نقيق ، أو دخل في النقيق . والصحيح عند الجمهور فتحها ، والمراد به الذي ينقي الطعام أي يخرجه من بيته وقشوره ، وهذا أجود من قول الهروي : هو الذي ينقيه بالغربال ، والمقصود أنه صاحب زرع ، ويدوسه وينقيه .

قولها ( فعنده أقول فلا أقبح ، وأرقد فأتصبح ، وأشرب فأتقنح ) معناه لا يقبح قولي فيرد ، بل يقبل مني .

ومعنى ( أتصبح ) أنام الصبحة ، وهي بعد الصباح ، أي أنها مكفية بمن يخدمها فتنام .

وقولها : ( فأتقنح ) وبالنون بعد القاف ، هكذا هو في جميع النسخ بالنون . قال القاضي : لم نروه في صحيح البخاري ومسلم إلا بالنون . وقال البخاري : قال بعضهم : فأتقمح بالميم . قال : وهو أصح . وقال أبو عبيد : هو بالميم . وبعض الناس يرويه بالنون ، ولا أدري ما هذا ؟ وقال آخرون : النون والميم صحيحتان . فأيهما معناه أروى حتى أدع الشراب من شدة الري ، ومنه قمح البعير يقمح إذا رفع رأسه من الماء بعد الري قال أبو عبيد : ولا أراها قالت هذه إلا لعزة الماء عندهم . ومن قاله بالنون فمعناه أقطع المشرب ، وأتمهل فيه . وقيل : هو الشرب بعد الري . قال أهل اللغة : قنحت الإبل إذا تكارهت ، وتقنحته أيضا .

قولها : ( عكومها رداح ) قال أبو عبيد وغيره : العكوم الأعدال والأوعية التي فيها الطعام والأمتعة ، واحدها عكم بكسر العين . ورداح أي عظام كبيرة ، ومنه قيل للمرأة : رداح إذا كانت عظيمة الأكفال . فإن قيل : رداح مفردة ، فكيف وصف بها العكوم ، والجمع لا يجوز وصفه بالمفرد : قال القاضي : جوابه أنه أراد كل عكم منها رداح ، أو يكون رداح هنا مصدرا كالذهاب .

قولها : ( وبيتها فساح ) بفتح الفاء وتخفيف السين المهملة أي واسع ، والفسيح مثله ، هكذا فسره الجمهور . قال القاضي : ويحتمل أنها أرادت كثرة الخير والنعمة .

[ ص: 586 ] قولها : ( مضجعه كمسل شطبة ) المسل بفتح الميم والسين المهملة وتشديد اللام ، وشطبة بشين معجمة ثم طاء مهملة ساكنة ثم موحدة ثم هاء ، وهي ما شطب من جريد النخل ، أي شق ، وهي السعفة لأن الجريدة تشقق منها قضبان رقاق مرادها أنه مهفهف خفيف اللحم كالشطبة ، وهو مما يمدح به الرجل ، والمسل هنا مصدر بمعنى المسلول أي ما سل من قشره ، وقال ابن الأعرابي وغيره : أرادت بقولها : ( كمسل شطبة ) أنه كالسيف سل من غمده .

قولها : ( وتشبعه ذراع الجفرة ) الذراع مؤنثة ، وقد تذكر والجفرة بفتح الجيم وهي الأنثى من أولاد المعز ، وقيل : من الضأن ، وهي ما بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها ، والذكر جفر ؛ لأنه جفر جنباه أي عظما . قال القاضي : قال أبو عبيد وغيره : الجفرة من أولاد المعز ، وقال ابن الأنباري وابن دريد : من أولاد الضأن ، والمراد أنه قليل الأكل ، والعرب تمدح به .

قولها : ( طوع أبيها وطوع أمها ) أي مطيعة لهما منقادة لأمرهما .

قولها : ( وملء كسائها ) أي ممتلئة الجسم سمينة . وقالت في الرواية الأخرى : ( صفر ردائها ) بكسر الصاد ، والصفر الخالي ، قال الهروي : أي ضامرة البطن ، والرداء ينتهي إلى البطن . وقال غيره : معناه أنها خفيفة أعلى البدن ، وهو موضع الرداء ، ممتلئة أسفله ، وهو موضع الكساء ، ويؤيد هذا أنه جاء في رواية : ( وملء إزارها ) . قال القاضي : والأولى أن المراد امتلاء منكبيها ، وقيام نهديها بحيث يرفعان الرداء عن أعلى جسدها ، فلا يمسه فيصير خاليا بخلاف أسفلها .

قولها : ( وغيظ جارتها ) قالوا : المراد بجارتها ضرتها ، يغيظها ما ترى من حسنها وجمالها وعفتها وأدبها . وفي الرواية الأخرى : ( وعقر جارتها ) هكذا هو في النسخ ( عقر ) بفتح العين وسكون القاف . قال القاضي : كذا ضبطناه عن جميع شيوخنا . قال : وضبطه الجياني ( عبر ) بضم العين وإسكان الباء الموحدة ، وكذا ذكره ابن الأعرابي ، وكأن الجياني أصلحه من كتاب الأنباري ، وفسره الأنباري بوجهين : أحدهما أنه من الاعتبار أي ترى من حسنها وعفتها وعقلها ما تعتبر به ، والثاني من العبرة وهي البكاء أي ترى من ذلك ما يبكيها لغيظها وحسدها ، ومن رواه بالقاف فمعناه تغيظها ، فتصير كمعقور . وقيل : تدهشها من قولها عقر إذا دهش .

قولها : ( لا تبث حديثنا تبثيثا ) هو بالباء الموحدة بين المثناة والمثلثة أي لا تشيعه وتظهره ، بل تكتم سرنا وحديثنا كله ، وروي في غير مسلم ( تنث ) ، وهو بالنون ، وهو قريب من الأول ، أي لا تظهره .

قولها : ( ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ) الميرة الطعام المجلوب ، ومعناه لا تفسده ، ولا تفرقه ، ولا تذهب به ، ومعناه وصفها بالأمانة .

[ ص: 587 ] قولها : ( ولا تملأ بيتنا تعشيشا ) هو بالعين بالمهملة ، أي لا تترك الكناسة والقمامة فيه مفرقة كعش الطائر ، بل هي مصلحة للبيت ، معتنية بتنظيفه . وقيل : معناه لا تخوننا في طعامنا في زوايا البيت كأعشاش الطير وروي في غير مسلم ( تغشيشا ) بالغين المعجمة من الغش ، قيل في الطعام ، وقيل : من النميمة أي لا تتحدث بنميمة .

قولها : ( والأوطاب تمخض ) هو جمع وطب بفتح الواو وإسكان الطاء ، وهو جمع قليل النظير . وفي رواية في غير مسلم : ( والوطاب ) ، وهو الجمع الأصلي ، وهي سقية اللبن التي يمخض فيها . وقال أبو عبيد : هو جمع وطبة .

قولها : ( يلعبان من تحت خصرها برمانتين ) قال أبو عبيد : معناه أنها ذات كفل عظيم ، فإذا استلقت على قفاها نتأ الكفل بها من الأرض حتى تصير تحتها فجوة يجري فيها الرمان . قال القاضي : قال بعضهم : المراد بالرمانتين هنا ثدياها ، ومعناه أن لها نهدين حسنين صغيرين كالرمانتين . قال القاضي : هذا أرجح لا سيما وقد روي : من تحت صدرها ، ومن تحت درعها ، ولأن العادة لم تجر برمي الصبيان الرمان تحت ظهور أمهاتهم ، ولا جرت العادة أيضا باستلقاء النساء كذلك حتى يشاهده منهن الرجال .

قولها : ( فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا ) أما الأول فبالسين المهملة على المشهور ، وحكى القاضي عن ابن السكيت أنه حكى فيه المهملة والمعجمة .

وأما الثاني فبالشين المعجمة بلا خلاف ، فالأول معناه سيدا شريفا ، وقيل : سخيا ، والثاني هو الفرس الذي يستشري في سيره أي يلح ويمضي بلا فتور ، ولا انكسار . وقال ابن السكيت : هو الفرس الفائق الخيار .

قولها : ( وأخذ خطيا ) هو بفتح الخاء وكسرها ، والفتح أشهر ، ولم يذكر الأكثر غيره ، وممن حكى الكسر أبو الفتح الهمداني في كتاب الاشتقاق . قالوا : والخطي الرمح منسوب إلى الخط قرية من سيف البحر ؛ أي ساحله عند عمان والبحرين . قال أبو الفتح : قيل لها : الخط لأنها على ساحل البحر ، والساحل يقال الخط ؛ لأنه فاصل بين الماء والتراب ، وسميت الرماح خطية لأنها تحمل إلى هذا الموضع ، وتثقف فيه . قال القاضي : ولا يصح قول من قال : إن الخط منبت الرماح .

قولها : ( وأراح علي نعما ثريا ) أي أتى بها إلى مراحها بضم الميم هو موضع مبيتها . والنعم الإبل والبقر والغنم ، ويحتمل أن المراد هنا بعضها وهي الإبل ، وادعى القاضي عياض أن أكثر أهل اللغة على [ ص: 588 ] أن النعم مختصة بالإبل ، والثري بالمثلثة وتشديد الياء الكثير من المال وغيره ، ومنه الثروة في المال وهي كثرته .

قولها : ( وأعطاني من كل رائحة زوجا ) فقولها ( من كل رائحة ) أي مما يروح من الإبل والبقر والغنم والعبيد . وقولها ( زوجا ) أي اثنين ، ويحتمل أنها أرادت صنفا ، والزوج يقع على الصنف ، ومنه قوله تعالى وكنتم أزواجا ثلاثة قولها في الرواية الثانية : ( وأعطاني من كل ذابحة زوجا ) . هكذا هو في جميع النسخ ( ذابحة ) بالذال المعجمة وبالباء الموحدة أي من كل ما يجوز ذبحه من الإبل والبقر والغنم وغيرها ، وهي فاعلة بمعنى مفعولة .

قوله : ( ميري أهلك ) بكسر الميم من الميرة ، أي أعطيهم وافضلي عليهم وصليهم . قولها في الرواية الثانية : ( ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ) فقولها ( تنقث ) بفتح التاء وإسكان النون وضم القاف ، وجاء قولها ( تنقيثا ) على غير المصدر ، وهو جائز كقوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا ومراده أن هذه الرواية وقعت بالتخفيف كما ضبطناه ، وفي الرواية السابقة ( تنقث ) بضم التاء وفتح النون وكسر القاف المشددة ، وكلاهما صحيح .

قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : ( كنت لك كأبي زرع لأم زرع ) قال العلماء : هو تطييب لنفسها ، وإيضاح لحسن عشرته إياها ، ومعناه أنا لك كأبي زرع ، ( وكان ) زائدة ، أو للدوام كقوله تعالى وكان الله غفورا رحيما أي كان فيما مضى ، وهو باق كذلك . والله أعلم .

قال العلماء : في حديث أم زرع هذا فوائد . منها استحباب حسن المعاشرة للأهل ، وجواز الإخبار عن الأمم الخالية ، وأن المشبه بالشيء لا يلزم كونه مثله في كل شيء ، ومنها أن كنايات الطلاق لا يقع بها طلاق إلا بالنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : كنت لك كأبي زرع لأم زرع ومن جملة أفعال أبي زرع أنه طلق امرأته أم زرع كما سبق ، ولم يقع على النبي صلى الله عليه وسلم طلاق بتشبيهه لكونه لم ينو الطلاق .

قال المازري : قال بعضهم : وفيه أن هؤلاء النسوة ذكر بعضهن أزواجهن بما يكره ، ولم يكن ذلك غيبة لكونهم لا يعرفون بأعيانهم أو أسمائهم ، وإنما الغيبة المحرمة أن يذكر إنسانا بعينه ، أو جماعة بأعيانهم .

قال المازري : وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمع امرأة تغتاب زوجها ، وهو مجهول ، فأقر على ذلك . وأما هذه القضية فإنما حكتها عائشة عن نسوة مجهولات غائبات ، لكن لو وصفت اليوم  امرأة زوجها بما يكرهه ، وهو معروف عند السامعين كان غيبة محرمة فإن كان مجهولا لا يعرف بعد البحث فهذا لا حرج فيه عند بعضهم كما قدمنا ، ويجعله كمن قال : في العالم من يشرب أو يسرق . قال المازري : وفيما قاله هذا القائل احتمال . قال القاضي عياض : صدق القائل المذكور ، فإنه إذا كان مجهولا عند السامع ومن يبلغه الحديث عنه لم يكن غيبة ، لأنه لا يتأذى إلا بتعيينه .

قال : وقد قال إبراهيم : لا يكون غيبة ما لم يسم صاحبها باسمه ، أو ينبه عليه بما يفهم به عنه ، وهؤلاء النسوة مجهولات الأعيان والأزواج ، لم يثبت لهن إسلام فيحكم فيهن بالغيبة لو تعين ، فكيف مع الجهالة . والله أعلم .