القلب الطيب: خديجة بنت خويلد رضى الله عنها

إنها السيدة الفاضلة، أمي قبل أمي، أم المؤمنين، خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

مِفْتاح شخصيتها:

الدارس لحياة السيدة خديجة – رضي الله عنها- يستطيع في سهولة ويسر الوقوف على مفتاح شخصيتها، فهي قلب طيب يسير على الأرض، وهذا يختصر مسيرتها اختصارًا، ويجعلك- عزيزي القارئ- تتفهم تصرفاتها في جميع المواقف التي واجهتها، بل وتتوقعها قبل أن تقرأها.

 

وهذا القلب الطيب صاغ من الحسن معانيه، فخرج قلب واحد متعدد المعاني، فتراه تارةً بمعنى الحكمة، فهو قلب متصف بالحكمة، كأن الحكمة لم تُخلَق إلا له، وتراه تارةً بمعنى الأخلاق العالية في كبريائها وتساميها، وتراه تارةً بمعنى الاتزان والوقار والعقل الحازم، وتراه تارةً بمعنى الجود والكرم، فقد تعددت معانيه وصاغت من الحسن معنى، فكأننا مع جسد إنسان يحيا بقلب ملك كريم، فهلمُّوا إلى التعرف على سيرة هذا القلب الطيب.

 

خديجة هدية السماء:

لا شك عندي أن السيدة خديجة كانت هدية السماء لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقد شبَّ كما نعلم على مكارم الأخلاق، وفي ذلك يقول ابن هشام: "فَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ ويحفظُه وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ، حتى بلغ أن كان رجلًا أفضلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وأحسنَهم خُلُقًا، وأكرمَهم حَسَبًا، وأحسنَهم جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وأصدقَهم حَدِيثًا، وأعظمَهم أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِن الفُحش وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تدنِّس الرِّجَالَ تنزُّهًا وَتَكَرُّمًا، حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلَّا الْأَمِينُ؛ لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِن الأمورِ الصالحة.[1]"

 

هذا الأمين، محمد بن عبدالله، المستقيم على مكارم الأخلاق، الجامع لخصال الخير، كان خليقًا بهدية أعدتها يد القدر من أجل أن تكون له الأم، والأخت، والحبيبة، والسند، والونيس، والراعي، إنها السيدة خديجة رضي الله عنها، فمن خديجة؟

 

بطاقة حياة:

إنها السيدة الفاضلة، أمي قبل أمي، أم المؤمنين، خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية[2].

 

ولدت - رضي الله عنها - قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة على ما رجح الرواة الأُوَل للسيرة النبوية[3]؛ أي: حوالي عام 68 قبل الهجرة، الموافق لعام 556 م.

 

كانت تدعى قبل البعثة "الطاهرة"[4].

هي أول زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يجمع قط معها غيرها[5].

 

مميزاتها النفسية والأخلاقية:

كانت خديجة - رضي الله عنها - من أسرة طيبة الأصل، وعُرِفت كما ألمحنا بالطاهرة؛ لشرفها ومكانتها بين أهلها. ويبدو أن هذا اللقب كان مستمدًّا من شخصية السيدة خديجة أكثر من أي شيء آخر، فهي متفردة بين أهلها، بأخلاقها العالية، واتصافها بالحكمة، ويبدو أنها لم تكن تسلك مسلك غيرها من بنات سنها في شبابها الأول، فقد كانت وقورة متزنة عاقلة، يفهم هذا من لقبها "الطاهرة" الذي أضفى عليها كل هذا البهاء والثناء، ويفهم أيضًا من بعض النصوص التي تحدثت عن وقارها وسكينتها[6]، ويفهم بأوضح من هذا من أنها رشحت من أجل أن تكون زوجة لابن عمها ورقة بن نوفل ذلك العابد المذكور، وهذا قبل أن تتزوج بأي أحد، لكن لم يقض بينهما نكاح[7].

 

حياتها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم:

تتضارب الروايات وتختلف فيما بينها بما يخص زواج السيدة خديجة قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لكن المجمع عليه أنها تزوَّجت مرتين، والكثيرون على أن الأولى من أبي هالة هند بن زرارة التميمي، وأنجبت منه، والثانية من عتيق بن عائذ (وفي روايات عابد) بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمها، وأنجبت منه أيضًا[8]. والروايات بعد هذا تختلف أشد الاختلاف في ولدها من هذا وذاك ما بين ذكور وإناث، وتختلف في أسمائهم اختلافًا بينًا، فيذكر- مثلًا - ابن اسحاق أنها ولدت لأبي هالة: هند بن أبي هالة، وزينب بنت أبي هالة، وولدت لعتيق بن عائذ: عبدالله وجارية[9]، بينما يذكر ابن سعد – وروايته عندي أوضح وأقوى- أنها أنجبت لأبي هالة رجلًا يقال له هند وهالة رجل أيضًا، وأنها أنجبت لعتيق جارية يقال لها هند، وأن خديجة كانت تُدعى أم هند[10].

 

ولعل هذا الخلاف يعود لتعدد واختلاف المصادر التي اعتمد عليها الرواة، وعدم وجود معلومات وافية عن السيدة خديجة فترة ما قبل ارتباطها برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أي حال فإن هذا الخلاف لا يعنينا كثيرًا، لكن ما يعنينا أن السيدة خديجة استفادت من هذه الظروف التي مرت بها فجعلتها صاحبة تجربة وخبرة بالحياة ومعاركتها، وكأن يد القدر كانت تُهيِّئها من أجل أن تكون زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان بحاجة إلى زوجة جلدة تتحمل معه ظروف الدعوة الأولى، وتصبر على البلاءات المتعددة.

 

كيف تعرفت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وبهذه الظروف وهذه الوضعية التقت خديجة الثرية الجميلة ذات الشرف برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ تروي كتب السيرة أن سيرة رسول الله وما اتصف به من صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، كل هذا وصل لمسامع السيدة خديجة، وقد كانت امرأة تاجرة تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، فلما بلغها ما بلغها عن رسول الله، عرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تأجرًا وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبل رسول الله منها، وخرج في مالها ذلك حتى قدم الشام، وباع واشترى وعاد بالخير الوفير[11].

 

السبب الحقيقي لإعجاب خديجة برسول الله:

والروايات التاريخية بعد ذلك تتحدث عن إعجاب "ميسرة" غلام السيدة خديجة بشخصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلال رحلته تلك، وتذكر أنه نقل ذلك للسيدة خديجة، ونقل لها خبر الشجرة التي نزل في ظلها رسول الله، والتي يقول فيها أحد رهبان الشام: إنه ما نزل تحتها إلا نبي، ونقل لها ما رآه حينما اشتد الحر إذ كان "يرى مَلكين يظلان رسول الله من الشمس"[12]، وسواء أصحت هذه الروايات التي بدا فيها التكلف والصنعة أم لا؟ فالغالب أن ذلك لم يكن السبب الرئيس لإعجاب السيدة خديجة برسول الله، ويبدو أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن سيرته كانا من وراء إعجابها برسول الله، فقد ذكر ابن إسحاق أن السيدة خديجة لما خطبها رسول الله قالت: "إني قد رغبتُ فيكَ لحسن خلقك، وصدق حديثك"[13].

 

كيفية الوصول لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذن، أعجبت السيدة خديجة برسول الله- صلى الله عليه وسلم- لكن كيف السبيل إليه؟ هل تتحدث إليه مباشرة وتعرض عليه فكرة الزواج منها؟ أم تعرض الأمر عليه عن طريق إحدى صديقاتها أو قريباتها؟

 

والحقيقة أن الإجابة عن هذه التساؤلات من الصعوبة بمكان؛ نظرًا لاختلاف الروايات التاريخية في هذا الصدد، فرواية ابن إسحاق وتلميذه ابن هشام لا تشير من قريب ولا من بعيد إلى الافتراض الثاني بل وتصرح بوضوح أن السيدة خديجة هي مَنْ عرضت نفسها زوجةً على رسول الله[14]، بينما تذكر مصادر أخرى أنها كلفت إحدى صديقاتها بعرض المسألة على رسول الله صلى الله عليه وسلم[15]، وأنه تردد نظرًا لضيق ذات اليد، فقالت له: "فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة!"[16]، فوافق رسول الله، وعرض الأمر على أعمامه الذين رحَّبوا بخديجة، وتزوجها رسول الله، زوجها إياه عمها "عمرو بن أسد"؛ لأن أباها كان قد مات يوم الفجار[17].

 

وظاهر الأمر أن رواية ابن إسحاق القائلة بأن خديجة هي من عرضت نفسها على رسول الله هي الأقرب للصواب، فهي بعيدة عن التكلف وإعمال العقل؛ لأنك لو أعملت عقلك لقلت: إن الخيار الثاني هو الأنسب للسيدة خديجة؛ وهو أن تعرض المسألة عن طريق إحدى صديقاتها، لكن يفوتك أن السيدة خديجة كانت قد حنكتها الحياة، فهي صاحبة تجربة بل تجربتين قبل معرفتها برسول الله، وهي امرأة في الأربعين من عمرها، صاحبة عقل وفطنه، كل هذه الأمور تدفعها لفهم شخصية رسول الله الذي لربما بدا منه إعجاب بها -الأمر الذي لا يغيب عن خديجة- ففاتحته، وهي السيدة الطاهرة الكريمة في أمر زواجه منها، ثم هي قبل هذا وبعد هذا لا تعرض عليه أمرًا منكرًا؛ وإنما تعرض عليه الزواج، فما العجب في هذا؟! فإنما هي إنسان -بما تعنيه كلمة إنسان- يبحث عن إنسان، وقد وجده.

 

ورغم أن هذه قناعتي لكن لا مانع من قبول الروايتين معًا؛ بمعنى أن السيدة خديجة أرسلت من مهدت لها الطريق، ثم فاتحت رسول الله في الأمر على نحو ما تقدم؛ وذلك لأن رواية الواقدي والقائلة بإرسال صديقة من قبل خديجة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسندة عن موسى بن شيبة عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك عن أم سعد بنت سعد بن الربيع عن نفيسة بنت أمية صاحبة خديجة، والتي أُرسلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم[18].

 

عمر السيدة خديجة حين تزوجها رسول الله:

مسألة عمر السيدة خديجة حين تزوجها رسول الله من المسائل المثارة قديمًا وحديثًا، فما هو القول الراجح في هذه المسألة؟

 

الذي عليه أهل العلم أن السيدة خديجة ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وأنها كانت يوم تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنت أربعين سنة[19]، لكن نظرًا لأنها أنجبت من رسول الله ولدين، وفي رواية أربعة، فضلًا عن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فإن البعض يجد شيئًا من التحرُّج في التسليم بأن السيدة خديجة كانت في الأربعين من عمرها حين تزوجت من رسول الله، وأنها أنجبت جميع ولدها من رسول الله وهي فوق الأربعين، ومن ثم يلتمس البعض روايات أخرى، وأخبارًا جديدة في هذا الشأن، فهل هناك روايات تتحدث عن سن أخرى للسيدة خديجة؟

 

نعم، هناك رواية أوردها ابن سعد عن غير شيخه وأستاذه محمد بن عمر الواقدي، جاء فيها:" أخبرنا هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كانت خديجة يوم تزوجها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ابنة ثمانٍ وعشرين سنة"[20]، وهي رواية ضعيفة جدًّا بسبب ضعف رواتها[21]، ومن ثم لا يمكن القبول بها ومجافاة المشهور المعروف عند أهل العلم.

 

فالراجح أن السيدة خديجة كانت في الأربعين من عمرها حين تزوجت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما عن مسألة إنجابها في هذه السن فالطب الحديث يؤكد على قدرة بعض النساء على الإنجاب في سن الأربعين وما بعد الأربعين، ولو طبقنا التجربة الطبية على السيدة خديجة نجد أنها تعضد إنجابها في سن كبيرة، فالمرأة يمكنها الحمل في سن الأربعين بنسبة 20٪، وتقل النسبة إلى 5٪ في سن الخامسة والأربعين، وتزيد نسبة تعرض الجنين لمشاكل صحية قد تؤدي بعد ذلك إلى الوفاة في سن صغيرة، ولو سحبنا هذا على السيدة خديجة نجد أنها لم يعش لها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سوى البنات الأربع، بينما مات القاسم، وعبدالله -وهو الطيب والطاهر- في سنٍّ صغيرة، كذلك فالإنجاب في سن كبيرة يعوق المرأة عن إرضاع صغارها رضاعة طبيعية، والروايات التاريخية تؤكد أن السيدة خديجة كانت تسترضع لأبنائها، وتُعد ذلك قبل الولادة[22].

 

الحكمة في فارق السن بين السيدة خديجة والنبي عليه السلام:

وتزوجها عليه الصلاة والسلام وقد تم له من العمر خمسة وعشرون عامًا[23]، ولها من العمر أربعون، وهذا يطرح سؤالًا: ألم تصنع حياة النبي صلى الله عليه وسلم على عين الله (عز وجل)؟ فلماذا يزوِّجه الله تعالى بامرأة كبيرة عنه في السن بفارق خمسة عشر عامًا؟!

 

كان ذلك لحكمة بالغة الرقي؛ وهى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن بحاجة إلى زوجة فقط؛ وإنما كان بحاجة إلى أم وأخت وحبيبة وسند يُعاونه في شئون الدعوة حين يبعث ويواجه أمواج الشرك والكفر وحده، وقد كان لدى أمنا خديجة (رضي الله عنها) من خبرة الحياة والعقل الراجح والسن الذي ذكته الأيام حنكة وتجربة تمكنها من أن تكون أمًّا وأختًا وحبيبةً وسندًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحلته الشاقة في الدعوة.

 

دلالة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة:

دل زواج النبي- صلى الله عليه وسلم- بالسيدة خديجة وهي في هذه السن على ما اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عفة وطهر، فهو لم يفعل السوء في شبابه أبدًا- على نحو ما أسلفنا- ولما تزوج لم يكن موضوع اللذة والشهوة له كبير وزن عنده، فقد تزوجها [أي خديجة] لشرفها ونبلها بين جماعتها وقومها، حتى إنها كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة، ولو كان له- صلى الله عليه وسلم- رغبة في مجرد المتعة لتزوَّج ببكر أو بمن هي أصغر سنًّا من خديجة- رضي الله عنها- كذلك فقد ظل هذا الزواج قائمًا حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عامًا، وقد ناهز النبي -صلى الله عليه وسلم- الخمسين من العمر دون أن يفكر في الزواج بأي امرأة أو فتاة أخرى، وإبَّان زواجه بالسيدة خديجة لم يتخذ زوجةً أخرى أو أمة، ولو شاء لوجد الزوجة والكثير من الإماء. ولعل هذا يكون فيه الرد القاطع على من تقوَّل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دون علم أو بينة.

 

ثمرة الزواج المبارك:

تزوجها إذن رسول الله في ظروف استثنائية من عمر الزمن، فهو يبحث عن السكينة والرحمة والمودة والسند، وهي كذلك، فأحبها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ حباها الله عز وجل بنعمة المال والجمال فوق ما تقدم، وأنجب منها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولده كله، عدا إبراهيم فهو من السيدة مارية، فقد ولدت السيدة خديجة له: القاسم وبه كان يُكنى، وعبدالله وهو الطيب وهو الطاهر؛ سمي بذلك لأنها ولدته في الإسلام، وبناته الأربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهم أجمعين-[24]، وهذا ما أجمع عليه أهل النسب، أما ما جاء في بعض الروايات من أن الطاهر ولد مستقل، وكذلك الطيب فهذا تخليط[25]، وقد مات القاسم وعبدالله صغارًا في مكة[26]، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وآمن به، وهاجرن معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[27].

 

حب السيدة خديجة لرسول الله وإسلامها:

وبعد ما تقدم لا أجد من الكلمات وسحر البيان ما أُعبِّر به عن هناء النبي صلى الله عليه وسلم بزوجته خديجة، وما وفرته له من بيئة حانية، وحب يفوق الوصف، ولكن دعونا نستعين بالله ونقول: لقد أحبت السيدة خديجة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حبًّا جمًّا، ومعي على ذلك شاهد ودليل، فهي لما رأت حب رسول الله وتقديره لمولاها زيد بن حارثة وهبته إياه، فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام، حتى قيل: إنه أول من أسلم مطلقًا[28]، ولما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يرد الجميل لعمه أبي طالب ويخفف عنه، فكفل علي بن أبي طالب[29]، لا تذكر كُتب السيرة أن خديجة اعترضت على ذلك؛ بل رعت عليًّا، وكانت له أمًّا عطوفًا، كذلك فقد كانت تخرج إلى رسول الله تلتمسه بأعلى مكة، ومعها غذاؤه[30]، في صورة تفوق الروعة بمراحل، وتشي بحب وعاطفة تفوق الوصف، وهي قبل هذا وبعد هذا تحترم النبي- صلى الله عليه وسلم- وتحترم رغباته، فحينما كان يخرج إلى الخلوة، وينقطع لأيام في غار حراء كانت تشجعه وتساعده وتمده بما يحتاج من شراب وطعام في غير ضجر أو ضيق بل بنفسٍ راضية مقتنعة بما يفعل خليلها[31]. ولما جاءه الوحي، وعاد إلى بيته وقد أخذه الروع، وقال لها: «قد خشيت على نفسي»، قالت له بقلبٍ مطمئن: "كَلَّا، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ"[32]، فقد طمأنته حين قلق، وأراحته حين جهد، وذكرته بما فيه من فضائل، مؤكدة له أن الأبرار أمثاله لا يخذلون أبدًا، وأن الله إذ طبع رجلًا على المكارم الجزلة والمناقب السمحة، فلكيما يجعله أهل إعزازه وإحسانه، وكانت رضي الله عنها أول من آمن به وصدقه[33]، وكان لا يسمع شيئًا يكرهه من الرد عليه، فيرجع إليها إلا تثبته وتهون عليه أمر الناس[34]، وصبرت رضي الله عنها -كما هو معروف- في الحصار الظالم الذي فرضته قريش على رسول الله لمدة ثلاث سنوات، وكانت فوق هذا تكرم وتبر من يحبهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتراها تصل السيدة ثويبة (أول مرضعة لرسول الله) وتكرمها لمجرد أنها أرضعت النبي لمرات قليلات[35]، وتُكرم كذلك السيدة حليمة، التي جاءتها ذات مرة تشتكي الفاقة، فعادت من عندها ومعها بعير يحمل الخيرات، وأربعون رأسًا من الغنم[36]. فهل تريد -عزيزي القارئ- دليلًا أدل وشاهدًا أشهد على حب السيدة خديجة لرسول الله بعدما تقدم؟!

 

وفاة السيدة خديجة (أم العيال وربة البيت):

مرت السنون الطيبة سريعًا، وفي العام العاشر من البعثة توفيت السيدة خديجة لعشر خلون من رمضان، وهي بنت خمس وستين سنة، ودفنها رسول الله بالْحَجُونِ، ونزل في حفرتها[37]، ولم تكن وفاة السيدة خديجة بالأمر الهين على رسول الله، فقد دخلته خلة لوفاتها، فلما سُئل في هذا قال: «أجل، كانت أم العيال وربة البيت»[38]، وإنها ورب الكعبة كلمات تكتب بماء العيون، ويا ليت كل امرأة في بيتها تدرك هذا المعنى الذي ألح عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تدرك أنها أم العيال، وربة البيت، فتحافظ على بيتها، وعلى ولدها، وعلى زوجها.

 

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لذكرى خديجة:

ماتت السيدة خديجة وظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محبًّا لها وفيًّا لذكراها، وكتب الحديث والسيرة مليئة بالأدلة على ذلك؛ لكن أجمل وأرق ما جاء في هذا ما رواه البخاري، من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبى-صلى الله عليه وسلم- كان إذا ذبح الشاة، يقول: أرسلوا إلى صديقات خديجة، فلما لفت هذا نظر السيدة عائشة، قالت: "كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة"، فقال لها رسول الله: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولدٌ»[39]، وفي رواية مسلم: "فقال رسول الله: «إني قد رزقتُ حُبَّها»[40]، وفي رواية أخرى: «إني لأحب حبيبها»[41]، وكأنه صلى الله عليه وسلم يرتقي بالعلاقة بين الرجل وزوجته إلى درجة لا تدرك، فهو يحبها، ويحب من أحبت في صورة نادرة من الوفاء والحب مثلها في أجمل معانيها محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معلم الدنيا معنى الحب والرحمة.

 

كذلك فقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على خديجة ما لم يثن على غيرها، تقول عائشة فيما أسنده ابن عبدالبر: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ حَتَّى يَذْكُرَ خَدِيجَةَ فَيُحْسِنُ الثَّنَاءَ عليها، فذكرها يومًا مِنَ الأَيَّامِ فَأَدْرَكَتْنِي الْغَيْرَةُ، فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ إِلا عَجُوزًا، فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَغَضِبَ حَتَّى اهْتَزَّ مُقَدَّمُ شَعْرِهِ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ قَالَ: «لا وَاللَّهِ، مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، آمَنَتْ [بِي] إِذْ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي فِي مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا أَوْلادًا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لا أَذْكُرُهَا بِسَيِّئَةٍ أَبَدًا"[42].

 

فضل السيدة خديجة:

لن أطيل هنا القول، ففضل السيدة خديجة مشهور معروف؛ لذلك فسوف أكتفي بما رواه البخاري ومسلم أن عليًّا- رضي الله عنه- سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد»[43] بمعنى أن السيدة مريم خير نساء الأرض في عصرها، وأن السيدة خديجة خير نساء الأرض في عصرها، كما أوضح النووي رحمه الله[44].

 

بشارة السيدة خديجة بالجنة:

وبعد رحلة كفاح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءت البشرى من السماء لأول مؤمنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها من أهل الجنة، فقد أتى جبريل- عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أقرئ خديجة من الله ومني السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»[45]، فرضي الله عن أمي أم المؤمنين خديجة، وجمعنا معها في الجنة إن شاء الله.

 

كلمة قبل الختام:

بعد ما تقدم من سيرة عطرة لسيدة عظيمة، تُرى هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى ذلك القلب الطيب؟ والإجابة القطعية: نعم كان بحاجة إليه، وكلنا فخورون بانتسابنا لهذا القلب الطيب، أول قلب مؤمن مع رسول الله، أول قلب يحمل هم الدعوة مع الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فهنيئًا لنا بأم المؤمنين خديجة.


[1] السيرة النبوية، جـ 1، ص 199، دار الفكر، القاهرة، 1980 م.

[2] راجع اسم السيدة خديجة كاملًا في: ابن اسحاق: السيرة النبوية، جـ 1، ص 129، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009 م.

[3] انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى، جـ 8، ص 17، المكتبة القيمة، القاهرة، د.ت.

[4] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، جـ 4، ص 371، مكتبة مصر، القاهرة، د. ت.

[5] ابن عبدالبر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، جـ 1، ص 44، دار الجيل، بيروت، 1992 م.

[6] انظر: ابن سعد: الطبقات، جـ 8، ص 15.

[7] نفسه، ص14 "وكانت خديجة بنت خويلد قبل أن يتزوجها أحد قد ذُكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي فلم يقض بينهما نكاح".

[8] نفسه؛ ابن عبدالبر: الاستيعاب، جـ 4، ص 1817.

[9] السيرة النبوية، جـ 2، ص 702.

[10] الطبقات الكبرى، جـ 8، ص 14.

[11] انظر: ابن إسحاق: السيرة النبوية، جـ 1، ص 128: 129؛ ابن هشام، جـ 1، ص 204: 205.

[12] انظر: ابن إسحاق: السيرة النبوية، جـ 1، ص 128: 129.

[13] ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص 374 ، وهو ينقل عن ابن إسحاق ويقول: إن هذا القول تم بعد خطبته صلى الله عليه وسلم لها، بينما الجزء الموجود بين أيدينا من سيرة ابن إسحاق (جــ 1، ص 129) يذكر فيه هذا المعنى على لسان خديجة لكن عندما فاتحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الزواج منه، فلعل ما ينقله ابن حجر من كلام ابن إسحاق من الأجزاء التي لم تصل إلينا وحفظتها كتب التراجم اللاحقة.

[14] السيرة النبوية لابن إسحاق، جـ 1، ص 129؛ سيرة ابن هشام، جـ 1، ص 205: 206.

[15] ابن سعد، جـ 8، ص 15: 16: (وصديقة خديجة هذه هي: نفيسة بنت أمية، أخت يعلى بن أمية) وفي رواية ابن حجر: (نفيسة بنت مُنية أخت يعلى).

[16] ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص373 (وهو ينقل عن الواقدي).

[17] ابن سعد، جـ 8، ص 16: (قال محمد بن عمر"الواقدي": وهذا المجمع عليه عند أصحابنا ليس بينهم فيه خلاف"؛ أي: إن الذي زوجها إنما هو عمها عمرو بن أسد؛ لأن أباها مات يوم الفجار، وقد ذكر هذا مسندًا ابن سعد؛ لأن هناك أقوالًا لابن إسحاق تقول: إنَّ الذي زوجها إنما هو أبوها خويلد، أو أخوها عمرو (السيرة النبوية، جـ 2، ص 702).

[18] انظر: ابن سعد: الطبقات، جـ 8، ص 15: 16.

[19] انظر: نفسه، ص 17؛ ابن عبدالبر: الاستيعاب، جـ 4، ص 1818.

[20] الطبقات، جـ 8، ص 16: 17.

[21] انظر: نبيل بن منصور بن يعقوب البصارة: أنيس الساري في تخريج وتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، ص 1244، بيروت، 2005م، وقد ذكر ما نصه: ".. وهشام بن محمد قال ابن معين: غير ثقة، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عساكر: ليس بثقة.

وأبوه قال النسائي وغيره: متروك الحديث، وكذبه الجوزجاني وغيره، وقال الحاكم: أحاديثه عن أبي صالح موضوعة".

[22] انظر: ابن سعد: الطبقات، جـ 8، ص 16؛ ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص 373.

[23] ابن سعد، جـ 8، ص 17؛ ابن عبد البر: الاستيعاب، جـ 4، ص 1818.

[24] ابن سعد: الطبقات، جـ 8، ص 16

[25] انظر: ابن عبدالبر: الاستيعاب، جـ 4، ص 1819.

[26] نفسه، ص 1818.

[27] ابن إسحاق: السيرة النبوية، جـ 1، ص 130.

[28] ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص 374.

[29] ابن هشام: السيرة النبوية، جـ 1، ص 263.

[30] ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص 374.

[31] انظر: ابن سعد: الطبقات، جـ 1، ص 272.

[32] البخاري: الجامع الصحيح، جـ 1، ص 3 (كتاب بدء الوحي)، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2011 م؛ وانظر نفس المعنى في ابن هشام: السيرة النبوية، جـ 1، ص 254؛ وابن سعد: الطبقات، جـ 1، ص 272.

[33] ابن هشام: السيرة النبوية، جـ 1، ص 258.

[34] نفسه، وانظر: ابن عبد البر: الاستيعاب، جـ 4، ص1820.

[35] ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص 341.

[36] ابن سعد: الطبقات، جـ 1، ص 161.

[37] نفسه، جـ 8، ص 18، 19 [والحَجُون: جبلٌ بِمَكَّة].

[38] ابن حجر: الإصابة؛ جـ 4، ص 373 (وقد أسند الحديث برواية ابن سعد، وقال: وسنده قوي مع إرساله).

[39] صحيح البخاري، جـ 2، ص 210 (باب تزويج النبي خديجة وفضلها) حديث رقم 3818.

[40] صحيح مسلم بشرح النووي، جـ 15، ص 2899 (باب فضائل خديجة أم المؤمنين)، دار التقوى، القاهرة، 2004 م.

[41] ابن حجر: الإصابة، جـ 4، ص 375.

[42] الاستيعاب، جـ 4، ص 1823: 1824.

[43] انظر: البخاري، جـ 2، ص 210 (باب تزويج النبي خديجة وفضلها)، حديث رقم 3815؛ صحيح مسلم بشرح النووي، جـ 15، ص 2898 (باب فضائل خديجة أم المؤمنين) حديث رقم 2430.

[44] نفسه، ص 2900.

[45] انظر: البخاري، جـ 2، ص 210 (باب تزويج النبي خديجة وفضلها) حديث رقم 3820؛ صحيح مسلم بشرح النووي، جـ 15، ص 2898 (باب فضائل خديجة أم المؤمنين) حديث رقم 2432.

_______________________________________________________
الكاتب: د. محمد علي محمد عبدالرحمن