كنت واثقا بأنك ستأتي
ومن الوفاء ما يكون بين المسلم وأخيه المسلم، ويشمل السلوكَ والمعاملاتِ، والحب والتعاون، ولا يقوم على أساس القرابة ولا العشيرة،ولا المصلحة والمنفعة، إنما أساسه الإيمان والتقوى والحبُّ في الله؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
- التصنيفات: محاسن الأخلاق -
فيُروى أن جنديًّا قال لقائده بعد معركة مع الأعداء: "أيها القائد، إن صديقي لم يعد من ساحة المعركة، وأطلب منك الإذن الذهاب للبحث عنه"، قال القائد: "الإذن مرفوض، فلا أريدك أن تخاطر بحياتك من أجل رجل من المحتمل أنه قد مات"، لكنه لم يُعْطِ أهمية لتوجيهات قائده، وذهب للبحث عن صديقه في أرض المعركة، وبعد ساعة عاد وهو مصاب بجرح مميت، حاملًا جثة صديقه على كتفه، كان القائد معتزًّا بنفسه فقال للجندي: "لقد قلت لك: إنه قد مات، فقل لي: أكان يستحق منك كل هذه المخاطرة للعثور على جثته؟"، أجاب الجندي وهو يعاني الآلام وهو في لحظة الاحتضار: "بكل تأكيد سيدي، عندما وجدته كان ما زال حيًّا، واستطاع أن يقول لي: كنت واثقًا بأنك ستأتي"، لقد شعر بالسعادة وراحة الضمير لمجرد سماعه كلمات بسيطة من صاحبه، وهو يودِّع الحياة.
إنه الوفاء في أعلى درجاته ذلك الخُلُق الذي يعتبر من محاسن الأخلاق وأعظمها في حياة الأفراد والشعوب والمجتمعات؛ ولذلك جاء الإسلام ليُبيِّنَ أهميته وفضله، وأثره ودوره في حياتنا، بل جَعَلَ خُلُقَ الوفاء قِوامًا لصلاح أمور الناس؛ فقال عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، وقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
والوفاء أن يلتزم الإنسان بما عليه من عهود ووعود وواجبات، وهو ضد الغدر والخيانة، والجحود ونكران الجميل، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد؛ فقال جل شأنه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
والله سبحانه وتعالى يحب الأوفياء من عباده، سواء كان ذلك الوفاء بالتزام دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكهم بالأخلاق والقيم الفاضلة، أو كان وفاؤهم بالمعاملات والحقوق والواجبات، والعهود والمواثيق فيما بينهم، وما أهْلَكَ القرى الظالمة إلا بعد أن قال في أهلها: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102].
والوفاء من صفات الأنبياء وأخلاقهم؛ قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 36 - 41]، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55].
وكان صلى الله عليه وسلم سيدَ الأوفياء في سلوكه ومعاملاته حتى مع غيره الكفار، فهذا البحتر بن هشام، إنه أحد الرجال القلائل من المشركين الذين سَعَوا في نقض صحيفة المقاطعة الظالمة، التي تمَّ بمقتضاها حصارُ المسلمين في مكة، فعرَف له الرسول جميلَه وحفِظَه له، فلما كان يوم بدر؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ومن لَقِيَ أبا البحتري بن هشام فلا يقتله»، فهل تتذكر من أحسنوا إليك في حياتك؟
أيها المؤمنون: إن أعظم الوفاء يكون مع الله تعالى، فبين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى عهدٌ عظيم مقدَّس؛ وهو أن يعبده وحده لا يشرك به شيئًا؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
وجعل الله الوفاء بالعهد أول صفات العقلاء؛ فقال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 19، 20]، وحذَّر سبحانه من التفريط بعهده؛ فقال: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [النحل: 95].
ومن الوفاء ما يكون بين المسلم وأخيه المسلم، ويشمل السلوكَ والمعاملاتِ، والحب والتعاون، ولا يقوم على أساس القرابة ولا العشيرة، ولا القبيلة ولا المناطقية، ولا الحزب ولا الطائفية والمذهبية، ولا المصلحة والمنفعة، إنما أساسه الإيمان والتقوى والحبُّ في الله؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وعن أبي مالك الأشعري قال: ((كنتُ عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، قال: فنحن نسأله إذ قال: «إن لله عبادًا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ، يغبِطهم النبيون والشهداء بقُربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة» ، قال: وفي ناحية القوم أعرابيٌّ فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، ثم قال: حدِّثنا يا رسول الله عنهم؛ من هم؟ قال: فرأيت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم البِشْرَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم عبادٌ من عباد الله من بُلدانٍ شتى، وقبائل شتى من شعوب القبائل، لم تكن بينهم أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابُّون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورًا، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قُدَّام الناس، ولا يفزَعون، ويخاف الناس ولا يخافون))؛ (رواه أحمد والحاكم، وصححه الذهبي).
فكان الوفاء لهذه الأُخوَّة بين المسلمين الأثرَ الواضح؛ فقد أيْنَعَت وآتَتْ أُكُلَها أضعافًا مضاعفة، وكان المسلمون بها أُمَّة واحدة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، فكانوا قوةً يومَ اعتصموا بحبل الله المتين.
أيها المؤمنون: إن وفاء المسلم لَيتجاوز أرضه ووطنه، وقبيلته وعشيرته، إلى قضايا الأمة ومقدساتها وحقوقها في كل مكان؛ تحقيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم، كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى كله بالسهر والحُمَّى»؛ (رواه مسلم)، اللهم رُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا، واعصمنا من الزَّلَلِ برحمتك يا أرحم الراحمين، قلت قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
فإن ابن عمر يمشي ذات يوم في سفر على دابته ومعه رفقة من أصحابه، فيقابله أعرابي فيتوقف ابن عمر وينزل من دابته، ويقف مع هذا الأعرابي، وقال له: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى، ثم ألبسه عمامة كانت عليه، وقال له: اشدد به رأسك، ثم أعطاه دابته، وقال: اركب هذا، فتعجب أصحاب ابن عمر، وقالوا له: إن هذا من الأعراب، وهم يرضَون بالقليل، فقال: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر؛ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أبَرِّ البِرِّ أن يصِلَ الرجل أهلَ ودِّ أبيه بعد أن يُولِّي»؛ (والقصة في صحيح مسلم).
وقال الشافعي رحمه الله: "الحر من راعى وداد لحظة"، وأنشد يقول:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفــــــــــــــا ** فدَعْهُ ولا تُكْثِرْ عليه التأسُّفـــــــــا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة ** وفي القلب صبرٌ للحبيب ولو جَفَا
فما كل من تهواه يهواك قلبـــــــــه ** ولا كل من صافيتَه لك قد صَفَـــــا
إذا لم يكن صفوُ الوداد طبيعــــــة ** فلا خيرَ في خلٍّ يجيء تكلفَــــــــا
ولا خير في خلٍّ يخون خليلــــــه ** ويلقاه من بعد المودة بالجفـــــــــا
وينكر عيشًا قد تقادم عهـــــــــده ** ويُظهِر سرًّا كان بالأمس قد خَفَــى
سلام على الدنيا إذا لم يكن بهــا ** صديق صدوقٌ صادق الوعد مُنصفا
أيها المسلمون: ومن الوفاء ما كان تجاه آبائنا وأمهاتنا، فبعد التعب والكدح والسهر، والجوع والعطش والحرمان من أجلنا، لا نقابلهم بالوفاء؛ والله عز وجل يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24].
فكم نسمع من عقوق وهجر وحرمان للوالدين من قِبَلِ الأبناء، بل تعدَّى ذلك إلى الضرب وربما القتل! وإن من آثار نكث عهد الله في حق الوالدين وعقوقهما اللعنةَ والطرد من رحمة الله؛ قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23].
فأدُّوا حقَّ الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما؛ من البر والرعاية، وحسن الصلة، والدعاء، والتقدير والاحترام، والسمع والطاعة – تُفْلِحوا، وتكونوا من الأوفياء؛ ليقابلكم وفاء أبنائكم بعد ذلك؛ قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 60، 61].
أيها المسلم: التَزِمْ أخلاقَ دينك في كل شيء، واقْتَدِ بنبيك صلى الله عليه وسلم، وتذكَّر الأجر والمثوبة من الله في جميع أفعالك، واحذَرْ أن فساد الأخلاق، وسوء المعاملة، ونكران الجميل، والتقصير في أداء الحقوق والواجبات، ولا بأس إن أحسنتَ الظن بمن لا يستحق، وليس عيبًا إن أهديتَ مشاعرَ لم تُصان، ولا تبتئس بنكران الجميل، ولا تحزن إن أسديتَ المعروف لمن لا يستحقه، ولا تسأم من فعل الخير وإن لم تلقَ شكرًا، فقط، احمَدِ الله دائمًا أنك ما زلت في الجهة النقية من هذه الحياة، وفي هذا العالم، وكفى.
فاللهم اجعلنا من الأوفياء، واحشرنا مع سيد الأوفياء، وأصلحنا وأصلح أحوالنا يا رب العالمين، وخُذْ بنواصينا إلى كل خير، هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمدِ بنِ عبدالله؛ فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
_____________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري