من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه

قال رسول الله ﷺ: «إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه».

  • التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - التقوى وحب الله -

عن أبي قتادة وأبي الدهماء قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قال نعم سمعته يقول «إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» (رواه أحمد و رواته ثقات).

 

فمن ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه في الدنيا أو الآخرة أو فيهما. والقاعدة المطردة في الشريعة الجزاء من جنس العمل فعلا وتركا قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في القواعد والأصول الجامعة ص : 57 من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه وذلك أن العبد مملوك تحت أحكام ربه ليس له من الأمر شيء قال الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فإذا تعجل الأمور التي يترتب عليه حكم شرعي قبل وجود أسبابها لم يفده شيئا وعوقب بنقيض قصده... ومما يدخل في هذا أن من تعجل شهواته المحرمة في الدنيا عوقب بحرمانها في الآخرة إن لم يتب من ذلك منها قال تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} (20) سورة الأحقاف ويقابل هذا الأصل أصل آخر وهو أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ولم يجد فقده انتهى.

 

فمن رد عليه المبيع لعيب فيه وجب عليه الصلح مع المشتري برد بعض الثمن أو رد الثمن وأخذ المبيع فمن فعل ذلك لله عوضه الله خيرا منه فمن ذلك الربح في السلعة المردودة فعن سالم بن عبد الله: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَر -رضي الله عنهما- بَاعَ غُلامًا لَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما- : بِالْغُلامِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ  -رضي الله عنه- فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ  -رضي الله عنه- : بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ  -رضي الله عنه- عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ-رضي الله عنهما- أَنْ يَحْلِفَ لَهُ لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ  -رضي الله عنه- أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ رواه الإمام مالك (2/613) وغيره بإسناد صحيح فهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- لم يحلف كاذبا وقبل المبيع فعوضه الله خيرا منه فطاب الرقيق وباعه بألف وخمس مائة بدل ثمان مائة.

والحذر من الأيمان الكاذبة في البيع فربما صدق المشتري وبيعت السلعة لكن العاقبة خسارة في الدنيا والآخرة فخسارة الدنيا محق البركة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة ممحقة للبركة» (رواه البخاري (2987) و مسلم (1606).

أما الآخرة فالوعيد الشديد فعن ابن مسعود  -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:  {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]  (رواه البخاري (2357) ومسلم (138).

 

بعض المباحات قد تترك لله عز وجل. فبعض المباحات يكون الأولى تركها لأنها من المتشابه عند الشخص فتترك لله فعن الحسن بن علي رضي الله عنه وعن آله أن رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- قال «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» (رواه الترمذي (2518) وقال حديث حسن صحيح فسلوك الورع ممدوح إذا كان المتروك من المتشابه حقاً عند التارك بخلاف إذا كان الحامل على ذلك الوسوسة التي من الشيطان وحينما نترك الشيء ورعا لا ننكر على الناس ولا نلزمهم بذلك ففرق بين سلوك الورع وبين تخطئة من لم يسلكه فحينما ذكر البراء بن عازب  -رضي الله عنه- حديث أربعة لا يجزين في الأضاحي قال له عبيد بن فيروز إني أكره أن يكون نقص في القرن والأذن قال له البراء  -رضي الله عنه- :فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد . رواه أحمد و غيره بإسناد صحيح.

 

بعض المباحات إذا كانت تمنع من العبادة أو من كمالها فتترك لله وإن كانت في الأصل مباحة فمثلا البصل من الأمور المباحة لكن من أكله يمنع من حضور الجماعات حتى تزول الرائحة فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبي  -صلى الله عليه وسلم- قال «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا -أو قال- فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته» (رواه البخاري (855) و مسلم (564) فمن تركه لأجل عدم الامتناع من الجماعة عوضه الله خيرا منه ومن ذلك ثواب أجر الجماعة التي يجد ذخرها عند ربه.

 

ومن تزوج امرأة ثم كانت الفرقة بسببها جاز له أخذ المهر فإذا تركه لله عوضه الله خيرا منه عوضه الله ربحاً يعوض به ما ذهب من ماله.عوضه الله بامرأة خير ممن فارقها عوضه الله بذكر حسن عند الناس.

 

من ترك المحرمات عوضه الله خيرا منها في الآخرة فعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة» (رواه البخاري (5575) و مسلم (2003) و اللفظ له). من ترك الخمر لله عوضه الله خيرا منها في الجنة.

 

{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [(15) سورة محمد ] فيتلذذ بشرب خمر الجنة بخلاف خمر الدنيا فهو كريه الطعم.

 

خمر الآخرة لاصداع بعده ولا قيء بخلاف خمر الدنيا {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 17 - 19].

 

من ابتلي بالمسكرات و المخدرات ألا يتركُ لذة عاجلة آخرُها هم وتأنيب ضمير وحياء مما يصدر منه حال سكره بلذة باقية في الآخرة فاعقد العزم و توكل على ربك و تذكر أجدادك أصحاب النبي  -صلى الله عليه وسلم- أدمنوها سنين في الجاهلية و في الإسلام قبل تحريمها فلما نزل التحريم قالوا انتهينا انتهينا.

 

إذا تركت المسكرات والمخدرات لله عوضك الله خيرا منها في الدنيا براحة البال وبعدم الشعور بالدنو حينما تخالط الناس عوضك الله خيرا منها في الدنيا بمصاحبة من كنت تحبهم وتتمنى مصاحبتهم لكن يحول بينك وبينهم ما تتعاطاه من المحرمات عوضك الله خيرا من ذلك بالدنيا بسعادة تضفي عليك وعلى أهل بيتك تنقشع بها غيوم النزاع والشقاق والخوف منك حينما تكون ثملا إن كان الكلام موجه لمن يتعاطى المسكرات والمخدرات فهو عام لكل من يتناول ما حرمه الله لذاته أو لكسبه فشارب الدخان مخاطب بذلك فهلا تركته لله لاسيما أننا على أبواب شهر رمضان فتجد فيه من الإعانة على ترك المحرمات ما لا تجده في غيره من الشهور من ترك النظر المحرم من النظر للنساء الأجنبيات و المحر من مقاطع الفديو والأفلام والصور المحرمة عوضه الله خيرا منها عوضه راحة في الدنيا عوضه الله رغبة في العبادة والمسارعة إليها روي عن حذيفة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانا يجد حلاوته في قلبه» (رواه الحاكم (4/314) وقال صحيح الإسناد واستدرك عليه الذهبي تصحيحه).

 

إخوتي: لا نستقل أي عمل نتركه لله فقد يكون سبباً لسعادتنا فكم من عمل يسير يعمله الواحد منا أو يتركه لله يستصغره ولا يعده شيئا يكون سببا في سعادته الأخروية. ألم تدخل الجنةُ بسبب سقيا كلب عطشان ألم تدخل الجنةُ بتأخير غصن شوك عن طريق الناس.

 

هل ترون إخوتي أن أحداً يترك محبوبا له لطلب مرضاة محبوبه الأعظم والأجل ثم ربه لا يكرمه على هذا الفعل ولا يرفع به درجاته أو يحط خطاياه لا والله فمن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه فكان معه في الشدائد وأزال عنه الكروب ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- «خَرَجَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ فَأَصَابَهُمُ المَطَرُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ،...وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: لاَ تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ: فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ...» (رواه البخاري (2215) ومسلم (2743).

 

من ترك شيئا لله عوضه خيرا منه فأدخله الجنة التي هي نهاية المطلب وغاية المقصد {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].

 

لنجاهد أنفسنا في ترك ما يتقرب به لربنا عز وجل ليعوضنا خيرا منه في الآخرة ولنستشعر التعبد أثناء ذلك فلا يكون الترك عبادة إلا بالنية.

____________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان