العشر من ذي الحجة وطريق النجاة
فإن العمل الصالح عنوان السعادة، وطريق الخَيرِيَّة، وسبيل الفلاح، يشمل كل عبادة لله تعالى في الأقوال والأعمال، بل حتى النية الخالصة في القلب تبتغي بها وجه الله؛ فإنها من العمل الصالح الذي يُثْمِرُ في حياة الأفراد والشعوب...
- التصنيفات: العشر من ذي الحجة -
فإن العمل الصالح عنوان السعادة، وطريق الخَيرِيَّة، وسبيل الفلاح، يشمل كل عبادة لله تعالى في الأقوال والأعمال، بل حتى النية الخالصة في القلب تبتغي بها وجه الله؛ فإنها من العمل الصالح الذي يُثْمِرُ في حياة الأفراد والشعوب، والمجتمعات والدول، الراحةَ والسَّكينة، والأمن والسعادة، والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 75، 76].
جاء رجلٌ كبير السن قد انحنى ظهره، ورقَّ عَظْمُه، فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس بين أصحابه يومًا، يجُرُّ خُطاه، وقد سقط حاجباه على عينيه، وهو يدعم على عصًا، جاء يمشي، حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بصوتٍ تصارعه الآلام: ((يا رسول الله، أرأيت رجلًا عمِل الذنوب كلها، فلم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجَّة، ولا داجَّةً - أي صغيرة ولا كبيرة - إلا أتاها، لو قُسمت خطيئته بين أهل الأرض لأَوبَقَتْهم، فهل لذلك من توبة؟))، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه، فإذا شيخ قد انحنى ظهره، واضطرب أمره، قد هدَّه مرُّ السنين والأعوام، وأهلكته الشهوات والآلام، فقال له صلى الله عليه وسلم: «فهل أسلمت» ؟ قال: أما أنا، فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن» ، فقال الشيخ: وغَدَراتي وفَجَراتي، فقال: «نعم» ، فصاح الشيخ: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فما زال يكبِّر حتى توارى عنهم))؛ (رواه الطبراني والبزار، وقال المنذري: إسناده جيد قوي، وقال ابن حجر: هو على شرط الصحيح)، فالتوبة عمل صالح تحتاج إلى صدق وإخلاص، وهكذا في سائر الأعمال، والله سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خالصًا لوجهه الكريم، ولا يُرفَع إليه إلا العمل الصالح؛ قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]، وقال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه يركِّز على إذكاء روح التنافس في الأعمال الصالحة، التي يعود نفعها على المرء والأمة والمجتمع بالخير والنماء، وكان صلى الله عليه وسلم يحذِّر من انحراف النفوس عن هذا الطريق، فتتحول المنافسة على الدنيا وشهواتها، وأموالها ومتاعها، فتضعُف القِيَمُ، ويندثر الدين، وتسوء الأخلاق، وتزيد الهموم، وهذا ما يعيشه كثير من الناس اليوم؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا شدادُ بنَ أوسٍ، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فاكْنِزْ هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك موجباتِ رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، وأسألك شكر نعمتك، وحُسْنَ عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لِما تعلم، إنك أنت علَّام الغيوب»؛ (صححه الألباني في الصحيحة، وقال: "إسناده صحيح" (3228)).
عباد الله:
ها هي أيام عشر ذي الحِجَّة التي تحل بنا هذه الأيام، وفيها يتضاعف أجر وثواب وبركة العمل الصالح مهما كان، إلى أضعاف كثيرة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر، [قالوا: ولا الجهاد؟ قال:] ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»؛ (رواه البخاري)، ومن أراد أن يستشعر فضلَ هذه الأيام، ويتصور ذلك، فليتدبَّرْ ما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد وفضله؛ فعن أبي هريرة قال: ((جاء رجل إلى رسول الله فقال: دُلَّني على عمل يَعْدِل الجهاد؟ قال: «لا أجِدُهُ» ، قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتُر، وتصوم ولا تُفْطِر» ؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟))؛ (رواه البخاري ومسلم).
ومع ما للجهاد من هذه المكانة يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الطاعة في العشر أفضل منه، أما الجهاد فيها فلا شيء يَعْدِله، فعلى المسلم أن يغتنم هذه الأيام المباركة، بالتقرب إلى الله بعد الفرائض بالنوافل؛ كالصلاة والصيام، وقراءة القرآن والصدقة؛ لِما فيها من التقرب إلى الله تعالى، وابتغاء الأجر والثواب منه سبحانه، عن طريق البذل والعطاء، والإحسان للآخرين؛ قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]، ومن ذلك بِرُّ الوالدين، وصلة الأرحام، وإصلاح ذات البين، والعفو والتسامح، وتقديم النفع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها من الأعمال الصالحات، بالإضافة إلى قيام المسلم بالاستكثار من الدعاء، وذكر الله وتحميده، وتهليله وتمجيده، خلال هذه الأيام في بيته وشارعه؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيامٍ أعظمُ عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكْثِرُوا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد»؛ (رواه أحمد (7/224).
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يُكبِّران، ويُكبِّر الناس بتكبيرهما"؛ (صحيح البخاري (1/329)، وصححه الألباني في الإرواء (651))، اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا، ولسانًا ذاكرًا، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
فإن حركة الحياة لا تتوقف، وإن الأيام لَتمر وتذهب معها سنوات العمر، والإنسان منا في رحلة إلى الدار الآخرة، فبأيِّ عملٍ سنلقى الله؟ وماذا أنجزنا في هذه الحياة؟ وإن أُمَّتَنا في كثير من أوطانها وبُلدانها ومجتمعاتها لَتَمُرُّ بمرحلة عصيبة، تتخللها الفتن والحروب، والصراعات والتنافس على الدنيا، والتنكر للدين، وذهاب المعروف، وجرأة المسلم على أخيه المسلم، كل هذه الفتن والابتلاءات لَتدفعُ بكل فرد من أفراد هذه الأمة؛ حُكَّامًا ومحكومين، علماء وأكاديميين، سياسيين وقادةَ أحزاب ومشايخَ، تجارًا وصحفيين وإعلاميين - لأن يكون أحدهم عظيمًا بقيامه بعمل صالح يكون سببًا في عودة الناس إلى دينهم، وإصلاح ذات بينهم، وتآلف القلوب، وتراحم الناس فيما بينهم؛ فتُحْفَظ الدماء والأموال والأعراض، وتتنزل رحمة الله وعنايته ولطفه على الأمة والمجتمع والأفراد، فكونوا - رحمكم الله – مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآفات، ليتنازل الجميع عن حظوظ نفسه، ويقدِّم رضا الله ومصلحة الأمة، ليتنازل الجميع عن مصالحهم الشخصية الضيقة، ويُغلِّبوا مصلحة الشعوب والأوطان، ليساهم الجميع في وقف شلال الدماء والخراب، والدمار والنزاعات والخصومات بين أبناء هذه الأمة؛ فتلك – والله - من أهم الأعمال الصالحة التي يتعدَّى نفعها للإنسان والحيوان، والحجر والشجر، والأرض والجبال، لنضمد الجراح ونُصلِح ما فسد من حياتنا، وليعفُ بعضنا عن بعض، ويسامح بعضنا بعضًا، لنَعُدْ إلى ديننا وقِيَمِنا وأخلاقنا العظيمة، هذا هو طريق النجاة للأمة، فكونوا مفاتيحَ خيرٍ، تُذكَروا عند الله وعند الأجيال بذكر حسن ووصف جميل؛ قال عليه الصلاة والسلام: «إن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»؛ (حسن، السلسلة الصحيحة للألباني، 1332).
فلنكثر من العبادات والطاعات في هذه الأيام، ولنتزود من الأعمال الصالحة، ولْنَتُبْ إلى الله توبة نصوحًا؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يرفع مَقْتَه وغضبه عنا، ويثبتنا على الحق حتى نلقاه، وثِقُوا بالله؛ فإن بعد العسر يسرًا، وبعد الشدة فرجًا ومخرجًا، اللهم ارحمنا رحمة تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها أحوالنا، وتسدد بها أعمالنا، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ما فسد من أحوالنا، ورُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
______________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري