التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية في البلاد التي تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية
عبد الله نبيل سابق
- التصنيفات: الفقه وأصوله -
الحمد لله الذي أنزل شريعته رحمةً بالعباد، ومحققةً لمصالحهم في المعاش والمعاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ أفضل رسولٍ وأكرم هاد، وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم التناد.
وبعد:
أيها الإخوة والأخوات، الأفاضل والفضليات،
أرجو منكم أن تعقدوا بخيالكم الرائق، مقارنةً سريعةً بين المجتمع المكي الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والمجتمع المصري الذي نعيش فيه إبان تطبيق الشريعة الإسلامية.
وستجدون أن ذلك المجتمع المكي يتسم بالعصبية، والقسوة، والتفكك الاجتماعي، والحريات المطلقة، والاستبداد بالرأي.
أما المجتمع المصري اليوم فيتسم بالحيادية والرحمة والتآلف والحرية المقيدة بالضوابط الأخلاقية والاحترام لآراء الغير.
فتعالوا بنا نرى أثر تطبيق الشريعة على المجتمع المكي الذي هذه صفاته، وتلك سماته، نراه قد تغير بالكلية إلى النقيض، وظهر أثر ذلك في الحياة اليومية والأخلاق الإسلامية. فالزناة يعترفون على أنفسهم بالزنا وهم يعلمون أن مصيرهم الجلد أو الرجم، والسارقون تقطع أيديهم ولا يعترضون، وشاربو الخمر يسكبونها في الشوارع امتثالاً للأمر، والنساء يشققن ثيابهن بينهن ليسترن بها وجوههن، وكل ربىً موضوعٌ ولا اعتراض.
فإذا كان هذا أثر تطبيق الشريعة في المجتمع المكي الذي هذا حاله، فكيف بالمجتمع المصري الذي حاله اليوم أفضل بكثيرٍ من المجتمع المكي يومئذ؟
إن السبب في ذلك كله هو التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية على المجتمعات التي عاشت فترةً طويلةً من عمرها في ظلام الكفر أو ضباب العلمانية.
ونعني بالتدرج: التدرج في التنفيذ، وليس التدرج في التشريع، لأن التشريع قد تم واكتمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: من الآية 3].
فالشريعة قد اكتملت ولا شك، لكن التطبيق الشامل لها في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تهيئةٍ وإعدادٍ لتحويل المجتمع إلى الالتزام الشرعي الصحيح بعد عصر الاغتراب والتغريب.
ومما يدل على ضرورة التدرج في تطبيق الشريعة في مثل هذه المجتمعات، وأنه أمرٌ تقتضيه السنن الكونية، والأصول والمقاصد الشرعية: أن شرائع الإسلام لم تنزل على الرعيل الأول جملةً واحدة، وإنما نزلت شيئاً فشيئاً، وحكماً بعد حكم، وسلك الله بعباده مسلك التدريج، مما سهل عليهم الالتزام بدينه والاستجابة لأمره، والانقياد لشريعته وأحكامه، ولو نزل عليهم أول الأمر تحريم الخمر، والزنا، والربا، ونحوها، وتغليظ العقوبة على من يفعل ذلك، لأدى ذلك إلى النفور والإعراض، ولربما كان لبعضهم فتنة، وسبباً للكفر والردة.
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32-33].
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت عن القرآن الكريم : "إنما نزل أول ما نزل منه سورةً من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيءٍ لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً..."
ولعل من الشواهد التي يسترشد بها في مثل هذا المقام، ما ذكره المؤرخون عن عمر بن عبد العزيز، وقد ولي الخلافة بعد أناسٍ انحرفوا عن منهج الراشدين، وارتكبوا مظالم، ضيعوا بها حقوق الناس، وتعدوا حدود الله.
فقد دخل عليه ابنه التقي الصالح عبد الملك، وقال له في حماسٍ متوقدٍ: يا أبت ما لك تبطئ في إنفاذ الأمور؟! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال الأب الحكيم الموفق: "لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذلك فتنة".
وفي موقفٍ مشابهٍ، قال له: "يا بني، إن قومك -يعني بني أمية- قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدة، وعروةً عروة، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا علي فتقاً، تكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق بسببي محجمةٌ من دم، أو ما ترضى ألا يأتي على أبيك يومٌ من أيام الدنيا، إلا وهو يميت فيه بدعةً ويحيي فيه سنةً، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الحاكمين؟!".
وفي موطنٍ آخر قال له: "إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيةٌ فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن باغت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خيرٍ لا يجيء إلا بالسيف".
وليس المقصود بالتدرج في التنفيذ أن نتدرج في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات، كما كان الحال عليه قبل استقرار الشريعة وتمام النعمة، فنبيح الخمر مثلاً ونبين أن إثمها أكبر من نفعها، ثم نحرم شربها أوقات الصلوات المفروضة، ثم بعد حينٍ نحرمها تحريماً قاطعاً، فهذا أمرٌ لا يمكن أن يقول به من كان له أدنى معرفةٍ بنصوص الشريعة، وفهمٍ لمقاصدها.
ومما يدل على الحاجة إلى الأخذ بسنة التدرج في تطبيق الشريعة، أن كثيراً من الجرائم التي تعاقب عليها الشريعة الإسلامية، مباحةٌ في القوانين الوضعية، وذلك كجريمة الربا، والردة، ومنع الزكاة الواجبة، واتخاذ الأخدان والخليلات، وخروج النساء كاسياتٍ عاريات، واختلاطهن بالرجال الأجانب في المدارس والجامعات.. وغير ذلك.
بل إن بعض جرائم الحدود التي رتبت عليها الشريعة عقوباتٍ مقدرةً رادعة، هي مباحةٌ في هذه القوانين، وذلك كالزنا وشرب الخمر. وما اعتبرته منها جريمةً مخلةً بالقانون، فإن العقوبة المرتبة عليه، لا تمت إلى العقوبة الشرعية بصلة.
فلابد إذاً من تجفيف منابع الفتن، وإزالة أسباب الجرائم، وقطع ذرائع الفساد، وتحذير الناس من المنكرات والمعاصي، وبيان شؤمها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة، ولابد من السعي الجاد لتحقيق مصالح الناس، وكفاية حاجاتهم الأصلية، وإشباع الدوافع المادية والمعنوية قدر الإمكان، ثم من أصر بعد ذلك على المعصية، فلا عذر له، وهو دليلٌ على انحرافه واستهتاره، وهنا يستحق أن تطبق في حقه العقوبة الشرعية الرادعة، من أجل زجره عن التكرار والمعاودة، وإعانته على الاستقامة وسلوك الجادة.
وفي الختام أحب أن أنبه على ثلاثة أمورٍ مهمة:
الأول:
أن الشريعة الإسلامية ليست منهجاً عقابياً فحسب، لكنها منهج حياةٍ متكاملٍ يشمل جميع مناحي الحياة العقدية والعملية والسلوكية، وهو منهجٌ يعنى بالجوانب التربوية والوقائية، ويهتم بها أكثر من اهتمامه بالجوانب العقابية والزجرية.
وهذا مما يميز المنهج الإسلامي عن سائر المناهج الجاهلية التي يضعها البشر لأنفسهم بعيداً عن منهج الله، فإنها تركز على التدابير الزجرية أكثر من تركيزها على التدابير التربوية والوقائية، وتعنى بمعالجة الجرائم بعد أن تقع، أكثر من عنايتها بدرئها ومنع حدوثها.
فالشريعة الإسلامية إذاً تعتمد في إصلاح المجتمع ومكافحة الجريمة على الوسائل التربوية والوقائية أولاً، ثم يأتي بعدها دور الوسائل العقابية، التي تمثل خط الدفاع الثالث والأخير ضد الاعتداء والإجرام.
فلو نظرنا إلى جريمة السرقة على سبيل المثال، لوجدنا أن الإسلام وضع لها عقوبةً رادعةً، تتناسب مع خطورتها وشدة ضررها على الفرد والمجتمع، وهي قطع اليد، لكن هذه العقوبة ليست هي أول الطريق، بل هي نهايته. ذلك أنه عمد في البداية إلى تربية الإنسان مسلماً يراقب الله ويخاف عقابه، وينفر من الجريمة ويستبشعها، كما أنه حثه على العمل والكسب، وأمره بطلب الرزق، وأن يغني نفسه بالمال الحلال، وجعل ذلك عبادةً تزيده قرباً ومكانةً عند الله.. ثم إنه وضع نظاماً اقتصاديا يكفل للإنسان تحصيل الرزق الحلال، من كسب يده، أو من كفالة قرابته، أو من كفالة المجتمع له، أو من كفالة بيت مال المسلمين، فلا يوجد عنده -بعد ذلك- دافعٌ أو مبررٌ معقولٌ إلى ارتكاب جريمة السرقة، فإذا ارتكبها في هذه الحال، فإنه غير معذور، وعندئذٍ تطبق عليه هذه العقوبة الرادعة، بعد أن تتوفر شروطها، وتنتفي موانعها. وكذلك الحال في جريمة الزنا وشرب الخمر وغيرها من الجرائم.
وبهذا نعلم أنه يخطئ في حق الإسلام كثيراً، ويسيء إليه إساءةً بالغةً أولئك الذين يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ويقصرون تطبيقها على مجرد العقوبات الشرعية، متجاهلين كل الأحكام والوسائل التربوية والوقائية التي شرعها الإسلام لإصلاح المجتمعات وتزكيتها، وحفظ مصالحها في معاشها ومعادها.
ويمعن الإنسان في الخطأ حين يتحدث عن الإسلام، فيجعل آخر وسائله هو أولها، بل كلها، حتى كأن الإسلام كله لخص في قطع يد السارق، وجلد الزاني والقاذف والسكير!! وإن هذا وإن كان من الإسلام، فليس هو كل الإسلام، ولا أهم ما في الإسلام، ولا أول ما يطلب في الإسلام.
الثاني:
تطبيق شرع الله تعالى والالتزام به واجبٌ على كل المسلمين، حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، رجالاً ونساء، فيجب أن تتضافر جهود الجميع للقيام بهذا الأمر الذي هو من أوجب الواجبات وأهم المهمات، وخيره ونفعه عائدٌ عليهم جميعاً، كما أن ضرر تركه وإهماله يشملهم جميعاً.
وأعظم الناس مسؤوليةً في ذلك هم ولاة الأمر من العلماء والأمراء، ثم يليهم أهل الوجاهة من ذوي النفوذ والتأثير كالدعاة والمثقفين، ورجال التعليم والإعلام، والقضاء والإدارة، ثم من بعدهم بقية طبقات الشعب، كلٌ في حدود اختصاصه، وبقدر طاقته وإمكاناته، وفي نطاق الأمانة الملقاة على عاتقه.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن مسؤولية تطبيقها ليست قاصرةً على شخصٍ دون شخص، ولا على جهازٍ دون جهاز، ولا على فريقٍ دون فريق، بل هي مسؤولية الأمة كلها، أفراداً ومؤسسات، لا يستثنى من هذه المسؤولية أحد، وكل مسلمٍ على ثغرةٍ من ثغور هذا الدين.
فلابد أن تكون تعاليم الإسلام هي الموجهة لكل نواحي الحياة، والقائدة لكل مؤسسات المجتمع. فلا يجوز أن تأخذ المحاكم ببعض القوانين التشريعية الإسلامية وتهمل البعض الآخر، كما لا يكفي أن تحكم المحاكم وحدها بالقوانين الإسلامية، على حين نجد أجهزة التربية والتعليم والإعلام وغيرها تسير على منهجٍ غير إسلامي، وتوجهها أفكارٌ غير إسلامية.
ولأجل هذا، كان الواجب على كل المؤسسات التربوية والتوجيهية، وعلى كل من تولى شيئاً من أمور المسلمين، بدءاً بالولاية العظمى، إلى ولاية الرجل في بيته وأهله، أن تعمل متضافرةً على تربية من تحت يديها تربيةً إسلاميةً أصيلة، وذلك بغرس الإيمان في قلوبهم، وتربيتهم على مراقبة الله تعالى والاستقامة على دينه، وأن تبذل وسعها في تزكية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم وسلوكهم، وحثهم على القيام بما يجب عليهم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده.
كما يجب عليهم أن يجتهدوا في العمل على إيجاد البيئة النظيفة الخالية من المثيرات المصطنعة، والمهيجات على الجريمة والفاحشة، وذلك بمحاربة الفساد، وإغلاق أوكاره، و تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة، مع إزالة العوائق التي تحول دون إشباع الحاجات الفطرية بالوسائل النظيفة المشروعة.
ثم بعد ذلك تطبق العقوبات الشرعية على الشاذين والمنحرفين، الذين لا يمكن أن يخلو منهم مجتمعٌ من المجتمعات مهما بلغ من الطهر والعفاف.
وهكذا فإن تطبيق العقوبات الشرعية وحدها، لا يبني المجتمعات، ولا يشبع حاجاتها، ولا يصلح فسادها، ولا يمنعها عن الظلم والإجرام.
الثالث:
أن ضرورة رعاية التدريج في ميدان التنفيذ العملي، لا تعني المنع من الدعوة إلى التطبيق الفوري والشامل في الميدان الفكري والنظري، وأن تعلن الدولة أن دينها هو الإسلام، وأن دستورها هو الشريعة الإسلامية بشمولها وكمالها، وأنها هي المصدر الوحيد لجميع التشريعات.
ولا ينبغي أن يكون التدرج في التنفيذ شعاراً فكرياً ينادى به، لأن المطالبة يجب أن تكون دائماً بالأكمل والأمثل.
وإذا تقرر هذا؛ فإن التدرج في تطبيق الشريعة، ليس معناه تعطيل الحكم بالشريعة، أو تعليقه إلى أجلٍ غير مسمى، بل معناه وضع خطةٍ محكمةٍ ذات مراحل، للانتقال بالمجتمع من العلمانية إلى الإسلام، على أن تعطى الأولوية للجوانب التربوية والأخلاقية والوقائية، التي تعمل متضامنةً من أجل بناء الإنسان، وإشباع حاجاته الفطرية بما أحل الله، وتهيئ المناخ اللازم لتطبيق بقية شرائع الإسلام بما فيها العقوبات الشرعية، التي شرعت لتحقيق الأمن والاستقرار، وتثبيت قواعد العدل والإنصاف، ومكافحة الجريمة وقطع دابر الفساد.
فالتدرج المطلوب، هو التدرج المجدول المبرمج، الذي ينطلق من خططٍ وبرامج جادة، ويرتبط بمراحل زمنيةٍ محددة، فلا يمر على أصحابه يومٌ، إلا وقد تقدموا خطوةً في سبيل التطبيق الشامل للشريعة. ولا يجوز أن يكون التدرج في التنفيذ شعاراً يرفع لمجرد إرضاء الجماهير المؤمنة ودغدغة أحلامها والمماطلة بها، وذريعةً للمراوغة والمناورة، والتنصل من تطبيق شريعة الله تعالى والحكم بها والتحاكم إليها.
أسأل الله بأسمائه وصفاته أن يوفق المسلمين لمرضاته، ويسعدهم بطاعته، ويملأ قلوبهم بمحبته ورجائه وخشيته، ويعينهم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، كما أسأله تعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعة الإسلام، والالتزام بالكتاب الكريم وسنة خير الأنام، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، ويأخذ بنواصيهم للبر والتقوى. إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه، ومن استن بسنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.