غزة بين حقد عدو وتخاذل صديق

إن الذي يجري في غزة ليس حصارًا؛ إنما هو حرب إبادة لشعب اختار العيش بكرامة، إنه عقاب جماعي لشعب أراد أن يعيش حرًّا كريمًا..."

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

في مثل هذه الأيام الحارة، تخيَّل نفسك مع أمك وأبيك، وزوجتك وأولادك، في ليلة شديدة الحرارة، وأصوات الطلقات النارية ودوي الانفجارات يُسمَع في كل مكان، وأنتم جميعًا في منزل تهدَّمت أبوابه، وتكسَّرت نوافذه، وانقطع عنكم الماء والكهرباء، أطفالك يصرخون من الجوع والحر، وزوجتك المريضة يُقطِّعها الألم، ولا تستطيع شراء الدواء لها، ووالداك شيخان كبيران قد شحبت وجوههما، ورقَّ عظمُهما، وزاد مرضهما وعناؤهما، تخيَّل نفسك في هذه الحال، ولا مال لديك لشراء الغذاء والدواء، وإذا ضاقت بك الحيلة لطلب العلاج خرجت بوالديك وأطفالك مشيًا على الأقدام في هذا الصيف شديد الحرارة، مشيت إلى المستشفى فإذا به خواء، ليس فيه إلا الأنين والصراخ، فعشرات المرضى قد سبقوك بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم، وهم ينتظرون وقد قُتِل المسعف والطبيب والممرض، ولا دواء ولا أجهزة؛ لأن الكهرباء مقطوعة والدواء معدوم، هل لك أن تتخيَّل الأطفال في الحاضنات بالمستشفيات وقد انقطعت الكهرباء؟! هل تخيَّلت أحوال مرضى الكُلى والقلب؟! هل شاهدت الأم وهي تقوم بالتنفُّس الصناعي لابنها بيدها، ويتناوب أهل البيت على إجراء التنفس الصناعي له؟! هل تخيَّلت شعور الأب أو الأم وهو يقف عاجزًا عن إنقاذ فِلْذة كبده؟!

 

أيها المؤمنون، إن هذه المأساة التي أعرضها لكم ليست من نسج الخيال؛ إنما هي حقيقة يعانيها إخواننا المحاصرون في غزة. إن عرض هذه المأساة ليس تقريرًا إخباريًّا ولكنَّه تذكير بالواجب الذي تقتضيه الأخوة الإسلامية من النُّصرة، يقول الله عز وجل:  {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، ويقول جل شأنه:  {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالحمى والسهر» ، ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

 

والأخوة الإيمانية ضريبتها النُّصرة، والقائم بحق النصرة أو المتخاذل عنها، كل منهما يلقى ثمرة ذلك - في الدنيا قبل الآخرة - جزاءً وفاقًا؛ كما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلمًا عند موطن تُنتهَك فيه حُرمتُه، ويُنتَقَص فيه من عِرضه، إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نُصرته، وما من امرئٍ ينصر امرأً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته إلَّا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته»؛ (رواه أحمد وحسنه الألباني).

 

وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبع كان منها نصر المظلوم ونصه: أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبع، ونهانا عن سبع، فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وردّ السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار القسم؛ (رواه البخاري).

 

وفي ذل المؤمن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره - وهو قادر على أن ينصره - أذلَّه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة»؛ (رواه أحمد).

 

عباد الله، لقد كان خلق النصرة وصفة الشهامة والنجدة متأصلة في أخلاق رسولكم- صلى الله عليه وسلم- وكان خيره للناس كافة، فما بالكم بنجدة المسلم ونصرته، جاء أعرابيٌّ إلى مكة قد أخذ أبو جهل منه أمواله وتنكر له، فذهب هذا الأعرابي لسادة قريش يطلب منهم أمواله من أبي جهل فرفضوا، ثم قالوا له: اذهب إلى هذا الرجل (وأشاروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإنه صديق أبي جهل وسيأتي لك بمالك (وأشاروا إلى رسول الله استهزاء به)، فذهب الرجل إلى النبي وقال: لى أموال عند أبي جهل وقد أشار عليَّ القوم أن أذهب إليك وأنت تأتي لي بأموالي، فقال الرسول: «نعم أنا آتيك بها وذهب الرسول معه إلى أبي جهل وقال له: أللرجل عندك أموال» ؟

 

فقال أبو جهل: نعم، فقال له النبي: «أعطِ الرجل ماله» ، فذهب أبو جهل مسرعًا خائفًا وجاء بالمال وأعطاه الرجل والناس في ذهول مستغربون ومذهولون مما حدث.

 

ويوم أن أعتدى يهود بني قينقاع على المرأة المسلمة في سوق المدينة وقتلوا ذلك المسلم الذي دافع عنها عندما استغاثت به خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بجيشه وأجلاهم من المدينة.

 

إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خير من اتصف بهذه الصفة الكريمة، فها هو أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس.

 

وهذا نبي الله موسى عليه السلام مثالًا كريمًا للنجدة والشهامة؛ حيث خرج من بلده وتوجه إلى مدين في حالة كربٍ وتعب شديد، لكن ورد ماء مدين:  {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 23، 24].

 

ولعلنا نستذكر سبب فتح عمورية؟ إنه رباط الأخوة الإسلامية مع النجدة والشهامة التي ملأت نفوس المسلمين في ذلك الزمان حين استنجدت بهم امرأة مسلمة وقعت في أسر الروم في عمورية فأجابتها أرواح المسلمين وسيوفهم وفتحوا عمورية وجاءها الخليفة المعتصم قائلًا: لبيك كرامة وعزة.

 

ولما تولى أبو يوسف يعقوب بن يوسف خلافة الموحِّدين بعد استشهاد أبيه مجاهدًا ضد النصارى في الأندلس، وذلك في جمادى الأولى سنة 580هـ وصلته رسالة من المسلمين الذين هجم عليهم ألفونسو السادس ملك قشتالة ودمر بيوتهم وقتل الرجال وسبى النساء حتى كتب ألفونسو السادس خطابًا يدعوه فيه إلى القتال سخرية واستهانة بالمسلمين، فلما قرأ أبو يوسف الخطاب كتب على ظهر رقعة منه:  {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] الجواب ما ترى لا ما تسمع، وخرج بجيشه واتجه إلى بلاد الأندلس والتقى بجيش الفرنجة في موقعة الأرك في 9 شعبان 591هـ، وانتهى يوم الأرك بهزيمة النصارى على نحو مروع، وسقط منهم في القتال ثلاثون ألف قتيل، وأسروا عشرين ألفًا، وغنم المسلمون معسكر الإسبان بجميع ما فيه من المتاع والمال، واقتحموا عقب المعركة حصن الأرك وقلعة رباح المنيعتين وفتحوهما بإذن الله.

 

عباد الله، نصرة المسلم أخوانه المسلمين المستضعفين والمنكوبين والمحتاجين له، لها أشكال وصور عدة، فمن ذلك النصرة بالنفس والمال والطعام، قال صلى الله عليه وسلم: «من جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»؛ (متفق عليه) ، وقد يكون بالدعاء والتضرع إلى الله واللجوء إليه، وقد تكون النصرة بحمل قضيتهم ونشرها وتربية الأجيال وتعريفهم بعدالة قضيتهم وحقوقهم المشروعة وبيان حقد الأعداء وخبثهم على أمتنا، وقد تكون النصرة باتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الحاسمة، وقد تكون النصرة بالشعر وبالقصة وبالمقال الصحفي الذي يتحدث عن بطولاتهم وصمودهم حتى تتربى الأجيال على معاني الصمود والبذل من أجل انتزاع الحقوق والعيش بكرامة.

 

إن الذي يجري في غزة ليس حصارًا؛ إنما هو حرب إبادة لشعب اختار العيش بكرامة، إنه عقاب جماعي لشعب أراد أن يعيش حرًّا كريمًا فوقفوا في وجه المحتل وقالوا- في عزة وإباء -: سنقاتلكم - أيها اليهود - بكل نطفة في أصلاب الرجال، وبكل جنين في أرحام النساء، وبكل نسمة في الهواء، وبكل قطرة ماء وذرة هواء.

 

أيها المسلمون، فوق هذا الحصار ترمي عليهم الطائرات وتطلق المدافع والدبابات وراجمات الصواريخ بمئات الأطنان من القنابل التي تُسوى بها المنازل بالأرض، فما بالك بأجساد الأطفال والنساء والشيوخ!

 

أيها المسلمون، بالرغم من تلك القوة العسكرية وشدة عداوة اليهود للذين آمنوا وحصارهم الظالم وعدوانهم الغاشم وحربهم المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني، فإن المسلمين في فلسطين يقهرون هذا الكيان ويذلونه ويدمرون أحلامه ومخططاته، وكلما ظن القوم أن مؤامرتهم قد نجحت وبدأت تؤتي ثمارها الخبيثة سرعان ما يلوح في الأفق ما يدمرها ويجعلها  {هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، إنه خبر الصادق المصدوق، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لَأْواء حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس»؛ (رواه أحمد في مسنده).

 

وفي رواية الترمذي: «لا يضرهم من يخذلهم» (وفي رواية أخرى عند أحمد في مسنده).

 

إنهم بثباتهم وصمودهم أمام الحصار التاريخي الذي يجري اليوم لم ولن تهنأ يهود بالأمان يومًا ما في فلسطين، حياتهم رعب وقلق واستنفار في كل حين منذ أسس هذا الكيان، تحقيقًا لوعد الله:  {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].

 

عباد الله، لقد تحركت شعوب العالم وجامعات العالم وأحرار العالم من شرق الأرض إلى مغربها غيرة ودفاعًا عن أهلنا في فلسطين مما يدل على عدالة قضيتهم وجرم الكيان المحتل، بل وتحركت الشعوب المسلمة استجابة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه»؛ (صحيح).

 

وعبروا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عن رفضهم وغضبهم ومقاطعتهم لكل ما يقوم به الكيان المحتل، وكل ما يتصل به، وهذا لا يكفي بل لا بد من الاستمرار والمتابعة حتى يرفع هذا الظلم عن غزة وفلسطين، كل حسب موقعه وقدرته واستطاعته، فإن لم تكن من الناصرين ولم تستجب لأمر المولى عز وجل في قوله:  {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فلا تكن من الخاذلين، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم، اللهم انصرهم بجنودٍ لا يُهزمون، اللهم اشفِ مرضاهم وعافِ مبتلاهم وداوِ جرحاهم وفك أسرهم وحصارهم يا رب العالمين.

 

هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ:  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

_____________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري