{وأمر أهلك بالصلاة}

محمد بن عبد الله السحيم

للصلاةِ عند اللهِ شأنٌ عظيمٌ؛ إذ اجتباها بخصائصَ انفردتْ بها عن سائرِ العباداتِ؛ لما لها من أثرٍ بالغِ الحُسنِ على الفردِ والمجتمعِ والدولِ إنْ تمَّ رَعْيُها وِفْقَ أمرِ اللهِ

  • التصنيفات: فقه الصلاة -

للصلاةِ عند اللهِ شأنٌ عظيمٌ؛ إذ اجتباها بخصائصَ انفردتْ بها عن سائرِ العباداتِ؛ لما لها من أثرٍ بالغِ الحُسنِ على الفردِ والمجتمعِ والدولِ إنْ تمَّ رَعْيُها وِفْقَ أمرِ اللهِ؛ ممّا يكونُ به حفظُ الدينِ وقوةُ التمكينِ وحصولُ الفلاحِ في الدنيا والآخرةِ.

هذا وإنَّ من الأوامرِ الإلهيةِ التي انفردتِ الصلاةُ بالتنصيصِ عليها في كتابِ اللهِ أمرَ اللهِ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأمرِ أهلِه بالصلاةِ، والمؤمنون نحوَ أهلِهم الذي يَعُمُّهم سكنٌ واحدٌ من زوجٍ وذريةٍ ووالدٍ وحفيدٍ وإخوةٍ مشمولونَ بذلك الأمرِ، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132]. فما فِقْهُ هذا الأمرِ الربانيِّ؟ وما أبعادُ آثارِه على أهلِ البيتِ وعلى المجتمعِ؟ وكيف رعاه أهلُ العلمِ بربِّهم؟

عبادَ اللهِ!

إنَّ دلالةَ الوجوبِ الظاهرةَ من هذا الأمرِ الربانيِّ المُلْزِمِ بأمرِ المرءِ أهلَه بالصلاةِ يَشِي بعظيمِ أهميّتِه ونفعِه؛ إذ صلاحُ الدينِ والدنيا معقودٌ بناصيةِ الصلاةِ؛ ولذا حثَّ الشرعُ وليَّ الأسرةِ بمراعاتِه فيهم منذُ سنٍّ مبكرةٍ من سنيِّ الصِّبْيَةِ وإنْ كانوا غيرَ مُكلَّفين؛ وذلك من حينِ بلوغِهم سنَّ التمييزِ الذي يكونُ به الصغيرُ ذا فهمٍ وإدراكٍ للخطابِ ودلالةِ الأمرِ، وذلك بإتمامِه سنَّ السابعةِ؛ لتكونَ الصلاةُ هي العبادةَ الوحيدةَ التي يكونُ فيها أمرُ الصبيِّ مقتبلَ عمرِه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:  ‌ «مُرُوا ‌الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ» (رواه أبو داودَ وصحّحَه ابنُ المُلَقِّنِ)، وذلك شاملٌ للذكرِ والأنثى من الأولادِ، كما جاء في روايةٍ: «مُروا أولادَكم».

وما يزالُ أمرُهم بالصلاةِ قائماً بصورةٍ يوميةٍ تتكررُ على مسامعِهم كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ طيلةَ ثلاثةِ أعوامٍ بمجموعٍ بلغَ نحواً من خمسةِ آلافٍ وأربعمائةِ أمرٍ؛ تُرى ما تأثيرُها في غرسِ أهميةِ الصلاةِ في قلبِ الصغيرِ الذي هو أيسرُ ما يكونُ في تقبُّلِ الأمرِ خاصةً من والديه الذي يَملكُ حبُّهما قلبَه الغَضَّ.

أوامرُ وإرشاداتٌ تَنْحِتُ في القلبِ استشعارَ أهميةِ الصلاةِ كما يَنَحْتُ الماءُ إنْ تقطَّرَ على وجهِ الصخرِ وتكررَ وَقْعُه زَمَناً. فإذا ما أتمَّ هذه الأعوامَ الثلاثَ وجازَ السنَّ العاشرةَ فإنَّ الأمرَ بالصلاةِ ما زال قائماً، غيرَ أنَّه إنْ بَدَرَ من الولدِ تقصيرٌ فيها شُرِعَ لوليِّه أنْ يضربَه ضرباً خفيَّاً رفيقاً غيرَ مُبَرِّحٍ؛ لا يكونُ في الوجهِ، ولا يزيدُ عن عشرِ ضرباتٍ -كما قرّرَ العلماءُ-؛ إذِ القصدُ تأديبُه لا تعذيبُه.

يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ‌ «مُرُوا ‌الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا». ولهذا الضربِ المشروعِ أثرٌ يُعْمِلُ في قلبِ الولدِ استشعارَ العنايةِ بشأنِ الصلاةِ، ويَلفِتُ نظرَه إلى قدْرِها الذي جعلَ أحنى الناسِ عليه يَمَسُّه ضرْباً يَنْقِلُ عبْرَ مَسِّهِ الجِلْدَ رسالةَ عَتَبِ المحبةِ اللطيفِ على تهاونِه في هذا الفرضِ العظيمِ؛ لِيَقْدِرَ الأمرَ قدْرَه! ولا عجبَ؛ فذاك شرعُ مَن خلقَ الخلقَ، وهو العالِمُ بمصالحِهم، وأرحمُ الراحمين بهم!

 

أيها المؤمنون!

والأمرُ القرآنيُّ بأمرِ الأهلِ بالصلاةِ مطْلقٌ؛ يعمُّ الأهلَ بمختلفِ عمرِهم من بلوغِ السابعةِ حتى الوفاةِ ما دامَ قلمُ التكليفِ عليهم جارياً، ويشملُ أنواعاً لا تُحصرُ من أساليبِ الأمرِ المباشرِ وغيرِ المباشرِ؛ من أسلوبِ القصةِ، والمنافسةِ، والثناءِ، والتكريمِ، والترغيبِ والترهيبِ، وغيرِها مما يناسبُ حالَ الآمرِ والمأمورِ.

ومن أبلغِ وسائلِ تربيةِ الأهلِ على الصلاةِ التي تَحملُ في طيَّاتِها معنى الأمرِ وتُقوِّي تقبُّلَهم له أنْ يكونَ الآمرُ ذا عنايةٍ بالصلاةِ؛ حرصاً عليها، وإقامةً لها، وأنها تشكِّلُ معيارَ اختياراتِه في شؤونِ حياتِه كاختيارِ مكانِ السكنِ، وضبطِ مواعيدِ الأعمالِ والمناسباتِ حتى لا تتعارضَ معها، وأنها المَفزَعُ له عند الشدائدِ، وسبيلُ الاهتداءِ للخيرةِ عند الالتباسِ؛ تُرى عليه علائمُ الحزنِ إنْ فاتتْه، وعلائمُ الفرحِ إنْ وُفِّقَ لأدائِها أو ظَفِرَ بما يعينه عليها؛ ليتطابقَ فعلُه مع قولِه، وليكونَ أثرُ رؤيتِهم لصلاتِه أبلغَ من أثرِ سماعِهم الأمرَ المجرَّدَ. ولعلّ هذا المعنى من أسرارِ اقترانِ أمرِ اللهِ عبدَه بالاصطبارِ عليها مع أمرِه أهلَه بها، كما قال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

وكذلك، فإنها من مقاصدِ مشروعيةِ صلاةِ النافلةِ في البيتِ فيما تُشرعُ فيه، وبركتِها، بل وتفضيلِها على صلاةِ المسجدِ وإنْ كان المسجدَ الحرامَ أو مسجدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ ‌إِلَّا ‌الْمَكْتُوبَةَ» (رواه البخاريُّ ومسلمٌ)،

وقال: «إذا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بيتِه من ‌صلاتِه ‌خيراً» (رواه مسلمٌ). وقد كان السلفُ الصالحُ يرجونَ حفظَ اللهِ لأهلِهم وصلاحَهم بمراعاتِهم شعيرةَ الصلاةِ. قال سعيدُ بنُ جبيرٍ: إنِّي ‌لأزيدُ ‌في ‌صلاتي من أجلِ ابني هذا. والجُؤارُ إلى اللهِ بالدعاءِ للنفسِ والأهلِ بإقامةِ الصلاةِ من أبلغِ ما يجعلُهم من أهلِها المقيمين لها، وهو العُدَّةُ التي لا تَخِيبُ في إنجاعِ مساعي الأمرِ بالصلاةِ؛ فقد كان ذاك دعاءَ الخليلِ -عليه السلامُ- لنفسِه وذريتِه، كما قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

 

إنَّ لأمرِ الأهلِ بالصلاةِ أثراً بالغاً في تعليقِهم بها، وتعويديهم عليها، وتحبيبِهم فيها، وتواصيهم بها، قال ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه-: «حَافِظُوا ‌عَلَى ‌أَوْلَادِكُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلِّمُوهُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنَّمَا الْخَيْرُ عَادَةٌ». سيَّما إنْ أُحسنَ ربْطُهم بآثارِها إنْ هم أقاموها، وأُجيدَ ربْطُ أحداثِ حياتِهم بها؛ من كونِها أجلى صورِ الاستسلامِ للهِ، وأشرفَ مقاماتِ مناجاتِه وأقربَها، وتميُّزِها بخصيصةِ الوقتِ الشريفِ الذي حَسُنُ استغلالُه في بثِّ الهمومِ إليه، واستنجاحِ الحوائجِ منه، وطلبِ تفريجِ الكروبِ، والاستنصارِ على كلِّ ظالمٍ.

إضافةً إلى كونِها سبباً عظيماً لاستدرارِ الرزقِ المباركِ وحصولِ عواقبِ الخيرِ في الأمورِ كلِّها؛ وذاك ما يَشي به تذييلُ الأمرِ الربانيِّ بأمرِ الأهلِ بالصلاةِ، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. روى الطبرانيُّ بإسنادٍ رجالُه ثقاتٌ -كما قال الهيثميُّ- عن عبدِاللهِ بنِ سلامٍ -رضيَ اللهُ عنه- قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذا ‌نزلَ ‌بأَهْلِه ‌الضّيقُ أَمرَهم بِالصَّلَاةِ، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. قال أحدُ السلفِ: ما من قومٍ فيهم مَن ‌يتهاونُ ‌بالصلاةِ ولا يَأخذونَ على يديه إلا كان أولُ عقوبتِهم أنْ يُنقَصَ مِن أرزاقِهم.

 

عبادَ اللهِ!

لما وعى العارفون باللهِ قدرَ هذا الأمرِ وعظيمَ أثرِه؛ بادروا بالامتثالِ والتسليمِ؛ وكان قادةَ موكبِ أولئكَ الأخيارِ أنبياءُ اللهِ -عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُه-، وكان مِن وَشْيِ أنبائِهم الزاكيةِ ما حكاه اللهُ عن خليلِه -عليه السلامُ- في رجاءِ تعلُّقِ ذريتِه بالصلاةِ من مقاصدِ إسكانِهم عند البيتِ المحرَّمِ وحصولِ الرزقِ لهم، كما قال: ﴿ {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ‌عِنْدَ ‌بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} ﴾؛ فاستجاب اللهُ دعوتَه، وحَباه بابنِه إسماعيلَ -عليه السلامُ-، فجعلَه مَحَلَّاً للثناءِ والاقتداءِ بكونِه من أهلِ الصلاةِ المقيمين لها والآمرين أهلَهم بها، فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54، 55].

وما زالتْ سُلالةُ رُعاةِ الأمرِ باقيةً في عَقِبِه؛ فكان قائدُها وابنُ بَجْدَتِها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مضربَ المثلِ فيها، حيا بها، وعاشَ من أجلِها، وماتَ عليها؛ فكان هذا الأمرُ ختامَ وصاياه لأهلِه وأُمَّتِه؟! قالت أُمُّ سَلَمَةَ -رضيَ اللهُ عنها-: كَانَ مِنْ آخِرِ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ‌ «الصَّلَاةَ ‌الصَّلَاةَ، ‌وَمَا ‌مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيصُ بِهَا لِسَانُهُ (رواه أحمدُ وصحَّحَه الألبانيُّ).

وقد ورثَ تلك العنايةَ النبويةَ أصحابُه -رضوانُ اللهِ عليهم-؛ فكانت الصلاةُ محلَّ اهتمامِهم في رعايةِ أهلِهم ومَنِ استرعاهمُ اللهُ من الرعايا المنتشرين في بلادِ الإسلامِ، فقد كتبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضيَ اللهُ عنه- إِلَى عُمَّالِهِ: إِنَّ ‌أَهَمَّ ‌أَمْرِكُمْ ‌عِنْدِي الصَّلَاةُ، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا؛ حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا؛ فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ (رواه مالكٌ). ومازال الصالحون يتوارثون تلك العنايةَ؛ استجابةً للأمرِ الربانيِّ، وقياماً بالمسؤوليةِ، ووقايةً لأنفسِهم وأهليهم من النارِ. وما أروحَ الحياةَ في ظلِ بيتٍ أهلُه كلُّهم يتوجَّهون إلى اللهِ بالصلاةِ!

 

وأَجملْ بالصلاةِ إذا أُقيمتْ... ونادى بأمرِها داعي الفلاحِ