بصبرهم اقتده

إن الله أورد قصص السابقين لنبيه؛ ليستأنس قلبه، ويطمئنَّ لوعد ربه له بالنصر، وليثبُتَ ويصبر على مشاقِّ الدعوة، وعناد الكافرين، ويقتدي بما فعله الأنبياء مع أقوامهم؛ وقد استعمل النبي ﷺ المنهجَ نفسه مع الصحابة لما شكَوا إليه ما يلاقونه من شدة من المشركين،

  • التصنيفات: نصائح ومواعظ -

أمر الله نبيَّه محمدًا عليه الصلاة والسلام بالاقتداء والتأسِّي بالأنبياء في صبرهم على الابتلاء بأقوامهم المعاندين؛ قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]؛ لذلك أورَدَ الله له في القرآن من قصص الأنبياء قبله ما يثبِّت به فؤاده؛ قال تعالى في سورة هود بعدما ذكر الله عددًا من قصص الأنبياء مع قومهم المكذبين المعاندين: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

 

أي: إن الله أورد هذه القصص لنبيه؛ ليستأنس قلبه، ويطمئنَّ لوعد ربه له بالنصر، وليثبُتَ ويصبر على مشاقِّ الدعوة، وعناد الكافرين، ويقتدي بما فعله الأنبياء مع أقوامهم؛ كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]، فأعلمه الله أن الأمم السابقة كانت تكذِّب أنبياءها كذلك وتؤذيهم، ولكنهم يقابِلون ذلك بالصبر حتى يأتيَ وعد الله بالنصر، فلستَ - أيها النبي الكريم - بِبِدْعٍ من الرسل، فتمسَّك برسالتك، واصبر كصبرهم، فلا مبدِّلَ لكلمات الله.

 

وها هو النبي يستجيب لذلك الأمر، ويذكِّر نفسه بصبر سيدنا موسى على قومه؛ فقال صلى الله عليه وسلم لما اتَّهمه الأعرابي بالظلم في قسمة الغنائم؛ قال: «رحِمَ الله موسى؛ أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فصبر»؛ (صحيح البخاري).

 

فذكَّر نفسه بما لقِيَ سيدنا موسى من أذى بني إسرائيل وعنادهم، وغلظتهم وتكبُّرهم، فكان هذا التذكُّر مدعاة له للصبر على خُلُقِ هذا الرجل الذي اتهمه بالظلم.

 

وفي موقف آخر يحكيه لنا ابن مسعود قائلًا: ((كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه فأدْمَوه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))؛ (صحيح البخاري).

 

فكان هذا امتثالًا منه صلى الله عليه وسلم لهَدْيِ الأنبياء في التعامل مع الابتلاءات والصِّعاب التي تقابله في طريق الدعوة.

 

وقد استعمل النبي عليه الصلاة والسلام المنهجَ نفسه مع الصحابة لما شكَوا إليه ما يلاقونه من شدة من المشركين، فما كان منه إلا أن ذكَرَ لهم أن بعض الأنبياء من قبلهم كانوا يُعذَّبون أضعاف ذلك، فكان أحدهم يُنشَر بالمناشير من رأسه إلى قدميه، وكان أحدهم يُمشط بأمشاط الحديد، فلا يصده ذلك عن دينه.

 

فعن أبي عبدالله خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: ((شكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألَا تستنصر لنا؟ ألَا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخَذ الرجل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يُؤتَى بالْمِنشار، فيُوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»؛ (رواه البخاري).

 

وإذا كان هذا فِعْلَ النبي، فنحن أولى بذلك، فلا بد أن نقتدي بهم في تعاملهم مع الابتلاءات التي مرت بهم؛ لأنهم أشد الناس بلاءً، فعندما ننظر إلى ابتلاءات الأنبياء تهون علينا ما نحن فيه؛ لأنه مهما حدث لنا، فلن يصل إلى ما حدث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

 

هل ابتُليت بالفقر وضيق العيش؟ ها هو نبيك كان يمر عليه الهلال تلو الهلال لا يُوقَد في بيته نارٌ لطهي الطعام.

 

هل ابتُليت بتأخر الإنجاب؟ لك في سيدنا إبراهيم وزكريا القدوةُ؛ فقد ابتُلوا كذلك بما كتبه الله عليك فصبروا، حتى أنعم الله عليهم بالولد.

 

هل ابتُليت بالمرض العضال الذي يُقعدك عن الحركة؟ لك في سيدنا أيوب الأسوة؛ فقد ابتُلِيَ ثمانية عشر عامًا فصبر، حتى رفع الله عنه البلاء.

 

هل ابتُليت بزوجة غير صالحة مرهقة متعبة؟ لك في سيدنا نوح ولوط الأسوة؛ فقد ابتلاهم الله بزوجات مفسدات خائنات لهن في الدين.

 

وهل ابتليتِ أيتها الزوجة بزوج فاسد قاسٍ متعجرف؟ ها هي السيدة آسية زوجة فرعون ابتُليت بمن يقول: أنا ربكم الأعلى، فصبرت، فعوَّضها الله ببيت في الجنة.

 

هل ابتُليتَ بفتنة النساء؟ ها هو سيدنا يوسف ابتُليَ بها أشد ما يكون، فاعتصم بالله، فنجا منها.

 

هل ابتُليت بابنٍ عاقٍّ أو غير صالح يرهقك ويتعبك؟ ها هو سيدنا نوح يُبتلى بابن كافرٍ، ليس عاصيًا فقط، وسيدنا آدم يُبتلى بابنٍ قاتل يقتل أخاه.

 

هل ابتُليت بأبٍ شديد غليظ في معاملته؟ ها هو سيدنا إبراهيم يُهدِّده أبوه بالرجم، رغم أنه يُلين له القول، ويقول له: يا أبتِ، وسيدنا موسى تربَّى في بيت فرعون بجبروته وعُتُوِّه.

 

هل ابتُليت بالتعذيب البدني أو السجن؟ انظر إلى سيدنا إبراهيم كاد أن يُلقى في النار، لولا أن نجَّاه الله منها، وسيدنا يوسف أُلقيَ في السجن بضع سنين.

 

هل ابتُليت بسبٍّ أو قذف أو اتهام في عِرضِك؟ ها هي السيدة عائشة الطاهرة المطهَّرة، ابتُليت بذلك حتى برأها الله من فوق سبع سماوات، وسيدنا يوسف كذلك اتُّهم في عِفَّتِهِ من قِبل امرأة العزيز، فبرَّأه الله أمام الملأ.

 

هل ابتُليت بفقد الولد؟ نبيك عليه الصلاة والسلام مات جميع أولاده في حياته، ما عدا السيدة فاطمة، وسيدنا يعقوب فَقَدَ يوسف ولم يدرِ أماتَ أم ما زال حيًّا، فصبر صبرًا جميلًا، وجعل شكواه وبثَّه لله من دون الناس، وسيدنا نوح فَقَدَ ابنه في الطوفان أمام عينيه.

 

هل ابتُليت بفقد زوجتك؟ لك سلوى في نبيك الذي ماتت زوجته خديجة حتى سُمِّي عام موتها بعام الحزن.

 

هل ابتُليت بذهاب بصرك أو سمعك؟ سيدنا يعقوب ابتُلِيَ بفقد بصره.

 

هل ابتُليت بالإخراج من بلدك أو دارك؟ سيدنا محمد ترك أحب البلاد إليه، وهاجر إلى المدينة، وكذلك سيدنا إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.

 

لو سألتك: هل قدَّر الله هذه البلاءات على الأنبياء ليُعذبهم بها في الدنيا، أو لهوانهم عليه؟

 

بالتأكيد، لا، فهؤلاء الأنبياء رغم كرامتهم ومكانتهم عند الله، فإنه سبحانه قدَّر عليهم هذه البلاءات، لا ليعذبهم، ولكن ليصطفيهم، ويرفع درجتهم في الآخرة؛ لأنها هي الحياة الحقيقية التي اختارها الله لهم، أما الدنيا فلأنها لا تساوي شيئًا عند الله، فقد قدَّر عليهم الابتلاءات فيها امتحانًا واصطفاء لهم، فاستبشر بما اختاره الله لك، وإن ظننت أنه شرٌّ، وتأسَّ وتسلَّ بما حدث للأنبياء صلوات الله عليهم، وبهداهم اقتدِهْ.

__________________________________________________
الكاتب: سمر سمير