الأرزاق والآجال مكتوبة فلم القلق والهم؟
فإذا كانت الأرزاق مقسومة مكتوبة، والآجال محسومة مؤقتة، فلمَ القلق على الرزق وتحميل النفس ما لا تطيق من الهم والخوف بسببه.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
من درر السنة النبوية وهداياتها ما رواه الإمامان البخاري ومسلم رحمها الله في صحيحيهما عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم تكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم تكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .
أيها المباركـون، تضمن هذا الحديث العظيم عددًا من الهدايات وبيانًا لشيء من الغيبيات، فقد أُخبِر فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الجَنينَ في بَطنِ أُمِّه يَمُرُّ في تَكوينِه بأربَعةِ أطوارٍ؛ فيَكونُ في الطَّوْرِ الأوَّلِ لِمُدَّةِ أربَعينَ يَومًا حَيَوانًا مَنَويًّا يَجتَمِعُ ببُوَيْضةِ الأُنثى، فيُلَقِّحُها، وتَحمِلُ المَرأةُ بإذْنِ اللهِ تَعالى، ثمَّ يَتَحوَّلُ في الطَّوْرِ الثَّاني إلى قِطعةِ دَمٍ جامِدةٍ تَعْلَقُ بالرَّحِمِ لِمُدَّةِ أربَعينَ يَومًا، ثمَّ يَتحَوَّلُ في الطَّوْرِ الثَّالِثِ إلى قِطعةِ لَحمٍ صَغيرةٍ بقَدْرِ ما يَمضُغُ الإنسانُ في الفَمِ، لِمُدَّةِ أربَعينَ يَومًا، ثمَّ في الطَّورِ الرَّابِعِ يَبدَأُ تَشكيلُه وتَصويرُه، ويَكونُ قد أكمَلَ أربَعةَ أشهُرٍ، فيُرسِلُ اللهُ تعالى إليه المَلَكَ المُوَكَّلَ بالأرحامِ؛ فيَكتُبُ أعمالَه التي يَفعَلُها طِيلَةَ حَياتِه خَيرًا أو شَرًّا، ورِزقَه وأجَلَه، ويَكتُبُ خاتِمَتَه ومَصيرَه الذي يَنتَهي إليه إنْ كانَ مِن أهلِ الشَّقاوةِ أو مِن أهلِ السَّعادةِ، وتَقَعُ الأعمالُ وَفْقَ ما كُتِبَ.
أيها المؤمنون، ومما تضمنه هذا الحديث أن الإيجاد والخلق إنما هو من الله تعالى وحده، والوالدان ليسا إلا سببًا لا يملكون ذلك بمحض قوتهم وإرادتهم واختيارهم، فما شاء سبحانه كان، وما لم يشأ لم يكن ولو اجتمعت الأسباب كُلُّها، فهو القائل سبحانه: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، وهو عز وجل القائل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58، 59]، وفي هذا همسة في أُذُن كل من يفخر ويتكبَّر على غيره بكثرة ولده ويُعجب بنفسه، وربما احتقر إخوانه المسلمين وازدراهم بسبب كثرة ولده وقلة ولدهم، أو كون أحدهم لم يُرزق بذرية، يُقال له: أيها المسكين، لا حول لك ولا قوة فيما رُزقت به من كثرة الولد، وإنما هو من الله تعالى وحده، فلا تفخر وتتكبَّر على عباد الله بأمر ليس لك فيه حيلة أو قوة، وما فعلك هذا الشائن القبيح إلا من فعل أهل الجاهلية.
كما أن من هدايات هذا الحديث المبارك أن يعلم كل إنسان أصل خلقته وضعفه فلا يتكبَّر، وفي هذا همسة لكل من يتكبَّر على عباد الله تعالى ويتعالى عليهم بما رُزق به وفُضل من مال أو جاه أو منصب أو حَسَب أو نَسَب، يُقال له: أيها المسكين، كيف تجرؤ على التكبُّر على عباد الله تعالى بما رزقك الله عز وجل وتفخر عليهم وتحتقرهم، وأنت تعلم أصل خِلقتك، وأنك مخلوق من طين ومن نطفة من ماء مهين، قال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7]، والقائل سبحانه: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 45، 46]، والقائل جل ذكره: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل: 4]، فإذا كان هذا أصل خلقك؛ فلمَ الكبر والعُجب بالنفس، ألم تعلم بأن الكبر من كبائر الذنوب، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار»؛ (رواه أبو داود)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»؛ (رواه مسلم)، فكيف من قد امتلأ قلبه كبرًا على عباد الله تعالى.
كما تضمن هذا الحديث أن الله عز وجل كَتَبَ أقدارَ الخَلائِقِ في اللَّوحِ المَحفوظِ، وهي واقِعةٌ وَفْقَ ما قَضَى سبحانه وقَدَّرَ.
فإذا كانت الأرزاق مقسومة مكتوبة، والآجال محسومة مؤقتة، فلمَ القلق على الرزق وتحميل النفس ما لا تطيق من الهم والخوف بسببه، فما على العبد إلا فعل السبب من غير أن يعتمد عليه أو يعتقد أنه كافٍ لحصول ما يطلب من الرزق؛ بل يجزم أنه سبب فحسب والمسبب والآذِن بالرزق هو الله تعالى الذي قدر الرزق لكل مخلوق وهو في بطن أمه، وليلتمس الرزق مما أباحه الله تعالى، وليحذر أن يطلبه مما حرمه جل وعلا، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنَّ نَفْسًا لنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها، فاتَّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، ولا يَحْمِلنَّ أحَدَكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فإنَّ الله تعالى لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلَّا بِطاعَتِهِ»؛ (رواه أبو نعيم وصححه الألباني).
ومما يجدر بالتنبيه عليه أن الرزق ليس بابًا واحدًا وهو المال؛ فإن فاتك التوسعة في الرزق بالمال، فانظر إلى ما منحك الله تعالى من أرزاق أخرى، فالصحة والعافية رزق قد يُرزَقها الفقير ويُحرَمها الغني، وكذلك الستر رزق، ومحبة الناس رزق، والزوجة الصالحة رزق، والأبناء البررة رزق، والجار الصالح رزق، والتوفيق من الله رزق، والمنزل الآمن رزق، والمركب المريح رزق، والعلم النافع والعقل الراجح رزق، وأعظم الأرزاق على الإطلاق هو رزقُ الإيمانِ والاستقامة والعمل الصالح، ولننظر إلى حال الراحلين عن الدنيا: هل تساوي كنوز الأرض طاعة لله تعالى واحدة والإتيان للآخرة بما يُرضي الله تعالى.
قيل لحاتم الأصم رحمه الله: على ما بنيت أمرك في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربعة: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه، ورحم الله الشافعي إذ قال:
توكلتُ فِي رزقي على الله خالقــي ** وأيقنتُ أن الله لا شك رازقــــي
وما يكُ من رزقي فليس يفوتنــــي ** ولو كان في قاع البحار العوامقِ
سيأتي به الله العظيم بفضلــــــــــه ** ولو لم يكن مني اللسانُ بناطـقِ
ففي أي شيء تذهب النفس حسرة ** وقد قسَّم الرحمن رزق الخلائـقِ
أيها الفضلاء، ومما تضمنه هذا الحديث: بيان أن الأجل مكتوب ومقدر والجنين في بطن أمه، فلمَ الخوف المذموم من الموت والتوجس منه وكثرة التفكير فيه حتى يُقعِد عن كثير من عمل الدنيا وواجباتها من طلب الرزق وغيره؟ وربما جلب كثيرًا من الأمراض النفسية والعضوية مع قلة العمل للآخرة وحُسن الاستعداد لها، أما الخوف المحمود من الموت فهو الداعي لحُسن الاستعداد له بالمجاهدة للنفس وأطرها على بذل الخير والالتزام بما أمر الله تعالى، والتزود للآخرة بالأعمال الصالحة، وقِصر الأمل الدافع للقناعة بما قسم الله تعالى وأعطى، وغير ذلك من المحاسن دون أن يُقصِّر العبد فيما له من الدنيا وعليه فيها، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين مع قلة العمل وحُسن الاستعداد له.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»، قال الإمام النووي رحمه الله مبينًا لذلك: إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندرة، ونهاية القلة، وهو نحو قوله تعالى: إنَّ رحمتي سبقت غضبي، ويدخل في هذا من انقلب عمل النار بكفر أو معصية؛ لكن يختلفان في التخليد وعدمه، فالكافر يخلد في النار، والعاصي الذي مات موحدًا لا يخلد فيها.
ومن أوجه ذلك ما ورد في حَديث سَهلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعِديِّ رَضيَ اللهُ عنه فيالصَّحيحينِ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ»؛ فالظَّاهرُ للنَّاسِ غيرُ الباطنِ الذي يَعلَمُه اللهُ سُبحانه.
ولا شك أن النفاق محبط للعمل، نسأل الله تعالى السلامة؛ ولهذا ينبغي لكل مسلم أن يُكثر من دعاء الله تعالى بالثبات حتى الممات، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ: «يا مقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبِي على دينِك»، فقلت: يا نبيَّ اللهِ، آمنَّا بك وبما جئتَ به، فهل تخافُ علينا؟ قال: «نعم إن القلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ» ؛ (رواه الترمذي). فلا ينبغي الاغترار بالعمل، وما عليه العبد من الإيمان، فالعبرة بالخاتمة.
وفي الحَديثِ: الإيمانُ بالقَدَرِ، سَواءٌ تَعلَّقَ بالأعمالِ أو بالأرزاقِ والآجال، والإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان الستة، فيُحقق المسلم الإيمان بمراتب القدر كلها؛ وهي:
الإيمانُ بعِلمِ الله تعالىِ الشَّامِلِ المحيطِ، والإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، والإيمان بمشيئة الله عز وجل النافذة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والإيمان بأن الله سبحانه خالق كل شيء وموجده.
وفي الحديث: «أنَّ الأعمالَ مِنَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ أمَاراتٌ لا مُوجِباتٌ، وأنَّ مَصيرَ الأمْرِ في العاقِبةِ إلى ما سَبَقَ به القَضاءُ وجَرَى به التَّقديرُ».
___________________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف