شرح حديث ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا
قال صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: «ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر» ؟ ثلاثًا: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور - أو قول الزور»
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -
إنَّ الحمد لله تعالى، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهْد الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فسأقوم في هذا المقال بجَمْع شرحٍ لحديث: «ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر ثلاثًا» في إيجاز غير مُخلٍّ، مُستعرضًا قولَ كبار شُرَّاح الحديث.
الحديث:
عن عبدالرحمن بن أبي بَكرة، عن أبيه، قال: "كنَّا عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: «ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر» ؟ ثلاثًا: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور - أو قول الزور»، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُتَّكِئًا، فجلَس، فما زال يُكرِّرها؛ حتى قلنا: ليتَه سَكَتَ"؛ رواه مسلم، باب بيان الكبائر.
يُخبرنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن أكبرَ الكبائر ثلاثة: الشِّرك، والعقوق، وقول الزور، ونلاحظ أنه قد كرَّر - من خلال قول الراوي: "فما زال يُكرِّرها؛ حتى قُلنا: ليتَه سكَت" - قولَ الزور؛ لأن في التَّكرار تثبيتَ المعلومة وترسيخَها، وإبرازَ أهميَّتها، والتدليل على قُبح وشَناعة هذا الفعل.
يقول ابن حجر: "قوله: باب مَن أعاد الحديث ثلاثًا ليُفهَم، هو بضمِّ الياء وفَتْح الهاء، وفي روايتنا أيضًا بكسْر الهاء، لكن في رواية الأصيلي وكريمة: ليُفهم عنه وهو بفتح الهاء لا غير.
قوله: فقال: ((ألا وقول الزور))؛ كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو طرَفٌ معلَّق من حديث أبي بَكرة المذكور في الشهادات وفي الدِّيَات، الذي أوَّله: ((ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر ثلاثًا))، فذكَر الحديث، ففيه معنى الترجمة؛ لكونه قال لهم ذلك ثلاثًا.
قوله: فما زال يُكرِّرها؛ أي: في مجلسه ذلك، والضمير يعود على الكلمة الأخيرة، وهي قول الزور".
عن أنس عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه: "كان إذا تكلَّم بكلمة أعادَها ثلاثًا؛ حتى تُفهَم عنه، وإذا أتى على قومٍ، فسلَّم عليهم، سلَّم عليهم ثلاثًا".
قال النووي في شرحه على مسلم: "وأمَّا الزور، فقال الثعلبي المُفسِّر وأبو إسحاق وغيره: أصله تحسينُ الشيء، ووصْفُه بخلاف صفته؛ حتى يُخيَّل إلى مَن سَمِعه أو رآه، أنه بخلاف ما هو به، فهو تَموِيهُ الباطل بما يُوهِم أنه حقٌّ".
قال ابن حجر في الفتح: " قوله: فما زال يُكرِّرها؛ حتى قلنا: ليتَه سكَت؛ أي: شَفقةً عليه، وكراهية لِما يُزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الأدب معه - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمحبَّة له، والشَّفقة عليه".
يقول الدكتور وجيه الشيمي:
"ولكنَّ السرَّ في أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - شدَّد في تحريم قول الزور: أنَّ الزور هو الكذب، ومَن يَكذب يُغيِّر الحقائق، ومِن تلك الحقائق التي غيَّرها البشر توحيد الله، فعبَدوا معه غيرَه، وقالوا عليه بغير علمٍ؛ لذا قرَن الله - عزَّ وجلَّ - الزور بالرجس من الأوثان في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج: 30]".
قال الشوكاني:
"فاجْتَنبوا الرجس من الأوثان، الرجس: القذر، والوَثَن: التمثال، وأصلُه من وثَن الشيء؛ أي: أقامَ في مقامه، وسُمِّي الصليب وثَنًا؛ لأنه يُنصَب ويُركَز في مقامه، فلا يَبرح عنه، والمراد: اجتناب عبادة الأوثان، وسمَّاها رِجسًا؛ لأنها سببُ الرِّجس، وهو العذاب، وقيل: جعَلها - سبحانه - رجسًا حُكمًا، والرِّجس: النَّجَس، وليست النجاسة وصفًا ذاتيًّا لها، ولكنَّها وصْفٌ شرعي، فلا تَزول إلاَّ بالإيمان، كما أنها لا تَزول النجاسة الحسيَّة إلاَّ بالماء.
قال الزجاج: "مِن" هنا لتخليص جنسٍ من أجناس؛ أي: فاجْتَنبوا الرِّجس الذي هو وثَنٌ، واجتنبوا قولَ الزور الذي هو الباطل، وسُمِّي زُورًا؛ لأنه مائلٌ عن الحق، ومنه قوله تعالى: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17]، وقولهم: مدينة زَوراء؛ أي: مائلة، والمراد هنا: قول الزور على العموم، وأعْظمه الشِّرك بالله بأيِّ لفظٍ كان.
وقال الزجاج: المراد بقول الزور ها هنا: تحليلهم بعضَ الأنعام، وتحريمهم بعضها، وقولهم: هذا حلال، وهذا حرامٌ، وقيل: المراد به شهادة الزور".
وقال أيضًا: "وأخرَج أحمد والترمذي، وابن جرير وابن المنذر، وابن مردويه عن أيمن بن خُرَيم قال: قام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطيبًا، فقال: «يا أيها الناس، عَدَلت شهادة الزور شِركًا بالله» ثلاثًا، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30]".
وعن ابن مسعود أنه قال: "شهادة الزور تَعدِل الشِّرك بالله"، ثم قرَأ الآية السابقة.
قال صاحب تُحفة الأحوذي عن تَكرار قول الزور ثلاثًا، وعدم تَكرار الشِّرك والعقوق:
"وسببُ الاهتمام بذلك كونُ قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس، والتهاون بها أكثر، فإنَّ الإشراك يَنبو عنه قلبُ المسلم، والعقوق يَصْرِف عنه الطَّبعُ، وأمَّا الزور فالحوامل عليه كثيرة؛ كالعداوة والحسد، وغيرهما، فاحْتِيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعِظَمهما بالنسبة إلى ما ذُكِر معها من الإشراك قَطعًا، بل لكون مَفسدة الزور مُتعدِّيةً إلى غير الشاهد، بخلاف الشِّرك، فإنَّ مَفسدته قاصرة غالبًا".
قال الصَّنعاني: "وإنما اهتمَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإخبارهم عن شهادة الزور، وجلَس وأتى بحرف التنبيه، وكرَّر الإخبار؛ لكون قول الزور وشهادة الزور أسهل على اللسان، والتهاون بها أكثر؛ ولأنَّ الحوامل عليه كثيرة؛ من العداوة والحسد وغيرهما، فاحْتِيج إلى الاهتمام بشأنه، بخلاف الإشراك، فإنه يَنبو عنه قلبُ المسلم، ولأنه لا تتعدَّى مَفسدته إلى غير المُشرك، بخلاف قول الزور، فإنه يتعدَّى إلى مَن قيلَ فيه، والعقوق يَصرِف عنه كرمُ الطَّبع والمُروءة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لرجلٍ: «ترَى الشمس» ؟، قال: نعم، قال: «على مثلها فاشْهَد أو دَعْ»؛ أخرجه ابن عَدي بإسنادٍ ضعيف، وصحَّحه الحاكم فأَخْطأَ؛ لأنَّ في إسناده محمد بن سليمان بن مشمول، ضعَّفه النسائي، وقال البيهقي: لَم يُرْوَ من وجهٍ يُعتمَد عليه، وفيه دليلٌ على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهدَ إلاَّ على ما يَعلمه عِلمًا يَقينًا، كما تُعْلَم الشمس بالمشاهدة، ولا تجوز الشهادة بالظنِّ، فإن كانت الشهادة على فعلٍ فلا بدَّ من رؤيته، وإن كانت على صوتٍ فلا بدَّ من سماع ذلك الصوت، ورُؤية المُصوِّت، أو التعريف بالمُصوِّت بعَدْلين أو عَدْلٍ عند مَن يَكتفي به، إلاَّ في مواضعَ، فإنها تَجوز الشهادة بالظنِّ".
قال ابن عبدالبر: "عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إيَّاكم والكذبَ، فإنَّ الكذب يَهدي إلى الفجور، وإن الفجور يَهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليَكذب ويتحرَّى الكذب؛ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا، وعليكم بالصدق؛ فإنَّ الصدق يَهدي إلى البر، وإنَّ البِر يَهدي إلى الجنة، وإنَّ الرجل ليَصدق ويتحرَّى الصِّدق؛ حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا»، قال أبو عمر: هذا يَشهد لقولي في أوَّل هذا الباب عند قوله: ((لا يكون المؤمن كذَّابًا))؛ أي: المؤمن لا يَغلب عليه قولُ الزور، فيَستحلي الكذب ويتحرَّاه ويَقصده؛ حتى تكون تلك عادتُه، فلا يكاد يكون كلامُه إلاَّ كَذبًا كلُّه، ليستْ هذه صفة المؤمن، وأمَّا قول الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105]، فذلك عندي - والله أعلمُ - الكذب على الله، أو على رسوله؛ فعن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه، قال: سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «ويلٌ للذي يُحَدِّث، فيَكذب؛ ليُضحِك به القوم، ويلٌ له، ثم ويلٌ له».
حدَّثنا خلف بن أحمد، قال: حدَّثنا أحمد بن مُطَرِّف، قال: حدَّثنا سعيد بن عثمان، حدَّثنا يونس بن عبدالأعلى، حدَّثنا ابن وهب، قال: أخبَرني محمد بن مسلم عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، عن عائشة قالت: "ما كان شيءٌ أبغضَ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الكذب، وكان إذا جرَّب من رجلٍ كذبةً، لَم تَخرج له من نفسه؛ حتى يُحدث توبةً".
وقد رُوِي أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ردَّ شهادة رجلٍ في كذبة كذَبها، قال شَرِيك: لا أدري أكذبَ على الله أو رسوله، أو في أحاديث الناس؟"؛ انظر التمهيد.
يقول الدكتور وجيه الشيمي:
"وهكذا يُعلِّمنا هذا الحديث بُغضَ قول الزور، وعِظَمَ تلك الجريمة؛ لأنَّ المفاسد المترتِّبة عليها كثيرة، فقد يترتَّب على قول الزور أكْلُ أموال الناس بالباطل، أو سَفكُ الدماء، أو الخَوْض في الأعراض، ولا شكَّ أنَّ هذه المعاصي من أكبر الكبائر".
والحمد لله ربِّ العالمين.
_____________________________________________________
الكاتب: محمود حسن عمر