هدي الأنبياء والرسل عليهم السلام في الدعا
فالدعاء استنجاد بمن يملك القوة والنصر، وإقرار بتوحيد الله، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا رادَّ لأمره، ولا مُعقِّب لحكمه، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه، فبالدعاء تستجلب الرحمة، وتستدفع النقمة
- التصنيفات: الذكر والدعاء -
عباد الله، التقدُّم في الأمور والتطور مطلب الناجحين، وسبيل المتقين، وأعظم النجاح والفلاح يكون يوم الدين، حين يفترق الناس إلى فريقين، فمن رام النجاح والتوفيق فليسلك سبيل الناجحين، فيقتفي أثرهم، ويلزم غرزهم، فيصبر ويصابر، ويسأل الله العون والتوفيق وأعظم البَشَر نجاحًا من اختارهم الله جل جلاله لهداية العالمين من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فحقُّهم علينا الحب والاعتراف بسابق الفضل، والاقتداء بهم لأمر الله جل جلاله في القرآن، فبعد أن ذكر جملة من الأنبياء عليهم السلام قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}[الأنعام: 90].
واليوم نتأمَّل في هدي الأنبياء والمرسلين في الدعاء وصدق الالتجاء إلى الله جل وعلا، فحاجة الناس إلى التعلق بربهم كبيرة لا سيَّما والناس ينتقلون في حياتهم ما بين قوةٍ وضعفٍ، وصحةٍ وسقمٍ، وغِنًى وفقرٍ، وأمنٍ وخوفٍ، وعزةٍ بالمال والولد وفقدٍ، والإنسان ضعيف يحتاج إلى من يسنده ويعول عليه ليتقوَّى على مشكلات ومصاعب الحياة؛ ولذا كان الدعاء عبادةً من أعظم العبادات.
فالدعاء استنجاد بمن يملك القوة والنصر، وإقرار بتوحيد الله، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا رادَّ لأمره، ولا مُعقِّب لحكمه، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه، فبالدعاء تستجلب الرحمة، وتستدفع النقمة، به يظهر الافتقار والذلة، والتبرُّؤ من الحول والقوة إلا بالله سبحانه، روى الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء».
عباد الله، الدعاء من أيسر العبادات وأسهلها، ففي كل وقت ومكان تؤديه، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فداه نفسي وأهلي ومالي- يحرص على شيء حرصه على تعليم صحابته للدعاء، وتلقينه لهم كما يلقنهم السورة من القرآن، وتزداد حاجة الناس للدعاء في أوقات ضيقهم وكربهم، وعند التحام الشدائد، فهم في أمسِّ الحاجة إلى ربهم.
وربُّهم عند كربهم يسرع في إجابتهم، يربط على قلوبهم ويطمئنهم.
أما سمعت أثر هذه العبادة على المكروب المضطر {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل: 62].
عباد الله، الدعاء أكرم شيء على الله: هو طريق للصبر في سبيل الله، وصدق الالتجاء إليه، وتفويض الأمر إليه سبحانه، وتوكُّل عليه، وبُعْدٌ عن العجز والكسل، واستعانة بمن يملك العون وحده.
في الدعاء يظهر ذل العبودية، وتستبين القيومية لله وحده، فالحمد لله الذي جعل اعتماد المسلمين عليه وتفويضهم الأمر إليه.
عباد الله، لقد كان أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام صادقِي اللجوء إلى الله، فما هو هديهم حتى نقتفي أثرهم؟
من تأمل في هدي الأنبياء والرسل عليهم السلام في الدعاء وقبله وبعده يجد ملازمتهم للعبادة في كل أحوالهم، وتأمَّل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة» ، فمن أراد نصر الله وتأييده فها نحن في رخاءٍ ورغد من العيش، فأدِمْ ذكر الله وشكره، وعَوِّد نفسك مناجاة ربك.
فكيف تزهد وساعات إجابة الدعاء في اليوم والليلة كثيرة كما بين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من الجمعة، والثلث الأخير من الليل، أو لأن الله أرغد علينا في العيش، فأمن وأمان واطمئنان فلنتنبه من أسباب نجاة يونس بن مَتَّى عليه السلام أنه كان من المُسبِّحين، قال جل جلاله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات: 143، 144].
الطاعة قبل الدعاء وبعده فزكريا عليه السلام جاءته البُشْرى وهو قائم يصلي في المحراب، قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}[آل عمران: 39].
وملازمة تعظيم الله حتى في حال اشتداد البلاء والثقة بالله، فأيوب عليه الصلاة والسلام ومع اشتداد البلاء عليه إلا أن قلبه ولسانه دائم الذكر لله، فكم منا من سليم الجسد مريض القلب، سلم الله له الأطراف، وأرغد له في العيش والمال والولد، ولكن لسانه وقلبه غافل عن ذكر الله.
عبد الله، فلا يترك الدعاء لتأخُّر الإجابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يُعجِّل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي» ؛ (متفق عليه).
ومن هدي الأنبياء والمرسلين في الدعاء: بدء أدعيتهم برب أو ربنا.
قال الله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: 127].
سئل الإمام مالك رحمه الله عن الداعي يقول: يا سيدي، فقال: يعجبني (دعاء الأنبياء ربنا ربنا).
فالدعاء بالربوبية اعتراف بتفضل الله السابق وطمع في فضله اللاحق وكل أسماء الله جل جلاله يُدعى بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف: 180].
ومن هدي الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في الدعاء إظهار الضعف والحاجة والمسكنة بين يدي الله والتبرؤ من الحول والقوة وهي حالة يحب الله أن يرى عبده معه عليها، أو ما رأيت حال المضطر إذا دعى، أو المظلوم إذا ظلم، أو المسافر متبذل الحال، أو الساجد الذليل بين يدي الله، كل هذه الأحوال قريبة من إجابة الدعاء.
فزكريا ينادي ربه نداءً خفيًّا، يصف فيه ضعفه وشدة حاجته، معتمدًا على ربه كريم العطايا، يقول تعالى: {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم: 1 - 6].
وقُلْ مثل ذلك في الخليل عليه السلام حين ترك ابنه وفِلْذة كبده مع أمه عند بيت الله الحرام {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم: 37].
وموسى الكليم عليه السلام لما سقى للبنتين قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ أي: أنا فقير لكل خير تعطيني يا رب.
___________________________________________________
الكاتب: لشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني