الغيرة المفضية للحسد

إن الغَيرة المفضية للحسد لَمن أحلك سواد النفس، وأشد أمراض القلب، فالحسد هو السبب في أول معصية في الوجود؛ حيث حقد إبليس اللعين على أبينا آدم مكانتَه عند ربِّه فهي لا تقتصر على تمني زوال النعم، بل تتعداها لأشدِّ النقم

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -

الغَيرة صِنفان؛ أولهما محبوب محمود، والآخر مذموم مردود، فالأول صنف الغَيرة المعتدلة الحافزة لكل تقدُّم، الدافعة لكل تفوُّق، كالغَيرة التي تعني التنافس الشريف، والتسابق النظيف في مجال الدراسة، والتعلُّم بين الطلاب فهي أمر محبوب، وبمجال العمل بين الزملاء المتميزين بإنجاز العمل بأسرع وقت، وأقل جهد، وأفضل خدمة، وأرقى تعامُل إذ هو مطلوب، وبمجال السعي في الخير، بتقديم العون، ومساعدة الغير، وتذليل الصِّعاب، وقضاء مصالح الناس من أهل، وذوي قربى، وأباعد، وأحباب لأمرٍ مطلوب، والغَيرة الدافعة للاقتداء بالنماذج المشرِّفة، والقيم الفاضلة، والأخلاق الحسنة، والمشاعر النبيلة بالنفس مرغوب، أو الغَيرة الصارفة لمكروه كالغَيرة بين الزوجين دون إفراط مُخِلٍّ، وإكثار مُضلٍّ لأمر جميل مندوب، وغَيرة الرجل على أمِّه، وبناته، وأخواته لَمن شِيَمِ الرجولة، والعزة، وأعمدة الشهامة، والنَّخوة، وصارف لكثير من الخُطُوب؛ إذ الغَيرة كالنار قليلها متاع، وكثيرها دمار، وهلاك، وبَوَار، فمَن منَّا لا يَغار على أهله الغَيرة المحمودة المطلوبة لاستتباب الشيء، واستقامة الأمر؟ فقد روى المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غَيرةِ سعدٍ، فوالله لَأَنا أغْيَرُ منه، والله أغيرُ مني؛ من أجل غَيرةِ الله حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ولا شخص أغْيَرُ من الله، ولا شخص أحبُّ إليه العُذْرُ من الله؛ من أجل ذلك بعث الله المرسلين، مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه الْمِدْحَةُ من الله؛ من أجل ذلك وعد الله الجنة، وفي رواية: وقال: غير مصفح ولم يقل عنه»[1].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغَيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم عليه»[2].

 

لكن الصنف الآخر من الغَيرة هو الذي يزيد عن حدِّه، فينقلب إلى ضده، وهو يعني الافتقار لسماتٍ معينة، وفضائلَ محددة، وقيمٍ راسخة، وكفايات مكتسبة، ومهارات متعلَّمة توجد لدى البعض، وبدلًا من غِبطتِهِ له عليها، والدعاء له بالبركة والنماء، وتمنِّي مثلها - يحقِد له، ويغِلُّ عليه بحسد بغيضٍ، وكرهٍ عريض يتمنى فيه زوال نِعَمِ الله عنه كلها، حتى ولو لم تأتِ له ويُرزَق مثلها.

 

إنها غَيرة ذميمة، وصفة أليمة، يرى المحاسن فيُغفلها بعمدٍ، ويسمع عن المآثر فيغُضُّ الطرف عنها بحقدٍ، وتبدو الأيادي سابغةً بالفضل، فيجحدها بقصد، إنها غَيرة القلب القميء، والفعل الرديء، والعقل المظلم، والشر المعتم؛ لأنها تُفضي للحسد الدافع لزوال النِّعم، ونزول النِّقم، وما بدت إلا لظلمة بالنفس، وخَوَرٍ باليقين، ونقص بالإيمان، وسواد بالجَنان.

 

إن محبةَ البعض لك هِبَةٌ، ومِنْحَةٌ من الله تعالى وحده، فهو الذي صرفها نحوك، كما أنه ليس شرطًا أن تكون على قدر من السوء، وأهلًا للبغض، حتى يغار منك البعض فيُبغضك، ثم يحسُدك، وليس حتمًا أن تكون يدك قد جَنَتْ منكرًا، أو قدَّمت سوءًا كاثرًا، أو شاركت فعلًا غادرًا، حتى يقلاك البعض، لكنها غَيرة النفس القاتلة، تلك الغَيرة التي تجعل الإنسان يخسر أقرب الناس إليه، وأعزهم لديه، وأشفقهم عليه؛ لغَيرتِهِ منه، ولحسده إياه، وتمني زوال أسباب سعادته، فلا عجب؛ إذ الحسد أحد أربعة تفرِّق الإخوة، وتُبعثر الأحِبَّة، وتقطع الوُدَّ، وتُنهي الوصال، وتقضي على محبة تُنال؛ الحسد، والمال، والنساء، والموت.

 

إن إجماعَ الناس بمحبتك محالٌ، ورضاهم عنك أمرٌ لا يُنال، ولو كنت ملاكًا من السماء نازلًا، أو نبيًّا من الله مرسلًا، فلم تُجمع الناس على محبة الله تعالى، وهو خالقهم، ورازقهم، ولا محبة الأنبياء والمرسلين، بالرغم من أنهم يهدونهم للصراط المستقيم، والخُلُق القويم.

 

إن الغَيرة المفضية للحسد لَمن أحلك سواد النفس، وأشد أمراض القلب، وهبوط الذات لدركات سحيقة، ودروب عميقة من الفحش، والكراهية، والبغض؛ فهي لا تقتصر على تمني زوال النعم، بل تتعداها لأشدِّ النقم، ولو أدَّت لموتٍ وعدمٍ، فينبغي للإنسان أن يُطهِّرَ نفسه من آفة الحقد، وقلبه من الغِلِّ، وإذا أعجبه شيء، ولو من ماله، فلا بد أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، حتى يفوِّض الأمر إلى الله عز وجل، لا إلى حَولِهِ وقوته، وقد جاء في الأثر أن من قال ذلك في شيء يُعجبه من ماله، فإنه لن يرى فيه مكروهًا.

 

فالحسد هو السبب في أول معصية في الوجود؛ حيث حقد إبليس اللعين على أبينا آدم مكانتَه عند ربِّه، وتفضيلَه له بتعليمه الأسماءَ كلها، وخَلْقِهِ بيده سبحانه وتعالى، وأمره بالسجود له، واختياره خليفةً له في أرضه؛ ليُقيم شرعه، ويسير على نهجه، ويعمُر بالطاعة أرضه، بالرغم من أن آدم لم يفعل لإبليس ذنبًا، ولم يرتكب بحقه جُرمًا، إلا ما كان من هذه الفضائل التي افتقرها إبليس اللعين؛ لذا غار من أبينا آدم عليه السلام، فحسده، وتمنَّى زوال نعمته؛ فأعمى حسدُهُ بصرَه عن الصدق، وبصيرته عن فِعْلِ الحق، وأذهب لُبَّ عقله، ومناطَ رشده؛ فعصى أمر ربه، فلم يسجد لآدم؛ بزعمٍ واهنٍ منه أنه خير منه، وأفضل بتزكية نفسه بما ليس له دخل فيه؛ بأنه خُلِقَ من نار، وآدم من طين، فقد أرداه حسده، وأغْوَتْهُ غَيرته، عن تذكُّر أنَّ مَن خَلَقَهُ من نار هو ذاته سبحانه مَن أمره بالسجود، فعصى أمره؛ فاستحق الطرد من رحمة الله تعالى، واللعن إلى يوم الدين، وعند هذا الحدث لم ينتهِ الأمر بعد، بل استمر إبليس في بغضه وكراهيته لآدم وذريته معه، حتى قيام الساعة، فالغَيرة المفضية للحسد المؤدية لعصيان أمر الله تعالى جعلته يعادي آدم وذريته، ويتوعَّدهم بالغواية والإضلال إلى يوم الدين، برغم أنهم لم يفعلوا له شيئًا، ولم يقدموا ذنبًا، ولم يقترفوا جُرمًا.

 

إن أول جريمة بالإنسانية هي قتل أخٍ لأخيه من أمِّه وأبيه؛ فقد قَتَلَ قابيلُ أخاه هابيلَ، وكانت بسبب الغَيرة والحسد؛ حيث قدَّم قابيل وهابيل قرابين إلى الله سبحانه، فتقبَّل الله تعالى قربانَ هابيلَ؛ لصدقه وإخلاصه، ولم يتقبل قربان قابيل؛ لسوء نيته، وعدم تقواه؛ فقال قابيل على سبيل الحسد لأخيه هابيل: ﴿  {لَأَقْتُلَنَّكَ}  ﴾ [المائدة: 27]، بسبب قَبول قُربانك، ورفض قبول قرباني، فكان ردُّ هابيل على أخيه: ﴿  {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}  ﴾ [المائدة: 27]، فقد تعدَّت الغَيرة نطاقَ الغرض العابر بتمني حيازة نِعَمِ الغير، وفضائل اتسم بها بلا ضير، والآخر مفتقر لها، إلى سمة المرض الغادر، فآلت الغَيرة إلى حسد مقيت، وبغض مميت، بتمني زوال تلك النعم عمن حازها حتى ولو زال صاحبها معها، وإن لم تذهب تلك النعم للحاسد أصلًا.

 

فليس أفضل على وجه الأرض، ولا أطهر، ولا أزكى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من ذلك، كان عمه أبو لهب أقربَ الناس نسبًا إليه يؤذيه ويُبغضه، ويمقته ويكرهه، ولم يكن لبغضه سببٌ بعلة قادحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاهه، حاشَ لله، لكنها الغَيرة من تفضيل الله تعالى له، واختياره دون سواه، وهو الشاب الفقير مالًا، اليتيم أبًا وأمًّا، كما أن رسالته ستُصيب عمَّه بفقر بين عينيه، على حد زعم أبي لهب الواهن؛ حيث سيستعدي النبي صلى الله عليه وسلم برسالته القبائل كلها، ما يؤثر سلبًا على تجارته، ويصير غناه بمهب الريح[3]؛ فقد كان أبو لهب رجلًا مُوسِرًا جمع مالًا طائلًا، وكان يُعَدُّ من الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش، وكانت له طبيعة غير طبيعة إخوته، فإخوته يطلبون السيادة، والشرف، والعزة بالخُلُق العربي الصميم، وهو يطلب المال والدنيا، وفيه أثَرَة، وحب للذات، ومن يكُنْ كذلك يمِلْ دائمًا إلى الابتعاد عما يثير القلاقل والمتاعب[4].

 

فما هي إلا غَيرة فاتكة، وكراهية مُهْلِكة لكل أواصر الوُدِّ، وحبال القرب، دفعته للسير خلفه شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع؛ ليمحو أثره، ويهدم فعله، ويشوِّه صورته، ويقبح محاسنه، ويحط من قدره، ويسفِّهَ رأيه، ويصِمَه بأشنع العبارات، وأسوأ الجمل، وأفظع الكلمات وقعًا بالنفس، وأثرًا بالذات، فقد كان أول من جهر برفضه الإسلامَ لما جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته؛ فعندما نزل قول الله تعالى: ﴿  {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}  ﴾ [الشعراء: 214]، صعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبل الصفا، وجعل ينادي: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبدالمطلب، فاجتمعوا عنده، فقال لهم: «أرأيتُكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مُصدقِيَّ» ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: «فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد» ، قال: فقال أبو لهب: تبًّا لك، أمَا جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فأُنزلت سورة المسد)).

 

وعن ابن عباس[5] قال: ((لما أنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿  {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}  ﴾ [الشعراء: 214]، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فصعِد عليه ثم نادى: «يا صباحاه» - وهي كلمة يقولها المستغيث أو المنذر لقومه - فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبدالمطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح الجبل تريد أن تُغير عليكم، أكنتم مُصدقيَّ» ؟ قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، أمَا دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: ﴿  {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}  ﴾ [المسد: 1]))[6]، ولم يكتفِ بالمعارضة الصريحة بالقول، بل عضَّدها بالكيد، والعمل، والفعل؛ فقد مارس شتى أنواع إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وصد الناس عنه؛ فقد كان يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في الأسواق، والمجامع، ومواسم الحج، ويكذبه ويلقي عليه الحجارة؛ فقد روى طارق بن عبدالله المحاربي: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرُّ في سوق ذي المجاز[7]، وعليه حُلَّةٌ حمراء، وهو يقول: أيها الناس، قولوا: «لا إله إلا الله، تُفلحوا» ، ورجل يتبعه، ويرميه بالحجارة، وقد أدمى كعبه، وعُرقوبه، وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوه؛ فإنه كذَّاب، فقلت: من هذا؟ فقالوا: إنه غلام بني عبدالمطلب، فقلت: من هذا الذي يتبعه، ويرميه بالحجارة؟ فقالوا: عبدالعُزَّى أبو لهب))[8].

 

وفي رواية عن ربيعة بن عباد قال: ((كنت مع أبي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجلٌ أحول وَضِيءُ الوجه، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم آمُرُكم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تصدقوني، وتمنعوني، حتى أنفِّذَ عن الله ما بعثني به» ، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تَسْلَخوا اللات، والعزى، وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة، والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه، فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب))[9].

 

لقد كان أبو لهب وزوجته يسكنان في بيت مجاورٍ للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ناصباه العداء، ولم يراعيا حقًّا للقرابة والجوار؛ حيث لم يكتفِ بتخاذله عن نصرة ابن أخيه وحمايته، بل عاداه وحاربه، واجتهد في صدِّ الناس عنه، فكانت زوجته تحمل الشوك في الليل، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليَعقِرَ قدميه[10].

 

لقد كانت زوجةُ عمِّه سليطةً تبسط فيه لسانها، وتُطيل عليه الافتراء والدسَّ، وتؤجِّج نار الفتنة؛ ومنه ما رواه البخاري ومسلم، عن جندب بن سليمان أنه قال: ((اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقُمْ ليلة، أو ليلتين، فأتت امرأة وهي أم جميل، فقالت: يا محمدُ، ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿  {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}  ﴾ [الضحى: 1 - 3]))[11].

 

وقد تعدى نطاق الغَيرة، وعمل القلب من الحقد، والكراهية، والبغض، إلى سوء الفعل بإيقاع الضرر ببنات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لإشغال النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في هموم شخصية، وانكفائه على ذاته بمصائب أسرية؛ فقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بنتين من بناته - وهما أم كلثوم ورُقيَّة – إلى ولدين من أولاد أبي لهب، وكان ذلك قبل البعثة النبوية، فكانت السيدة رقية عند عُتْبة، والسيدة أم كلثوم عند عُتَيْبَة، فلما جاءه الوحي، قال أبو لهب وزوجته: اشغلوا محمدًا بنفسه، وأمَرَا ولدهما بطلاق بنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونا قد دخلا بهما، وتم طلاقهما، وبسبب هذه العداوة أنزل الله تعالى في أبي لهب وزوجته سورة المسد، يخبره بعاقبة أبي لهب وزوجته في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿  {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}  ﴾ [المسد: 1 - 5].

 

بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شِعْبَ بني هاشم، لما حاصرتهم قريش فيه، ومن هنا كان أشد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة، إنه الوحيد الذي لم يوقِّع على ميثاق حماية بني هاشم للرسول صلى الله عليه وسلم، ووقف في صف الأعداء، واشترك في عهودهم، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، استأجر بدلًا منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم؛ لقتال ابن أخيه رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

 

لقد كان أبو لهب [12] يتتبع النبي كالظل، فكلما جاء وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عنه عمه أبا لهب اعتبارًا بكِبَرِهِ وقرابته وأهميته، كان يقول لهم: إنه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد، فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنا لم نَزَل نعالجه من الجنون، فتبًّا له وتَعسًا.

 

فقد أقرَّ القرآن لأبي لهب بكنيته؛ إما لاتقاد وجهه حمرة وجمالًا، لكنه جمال غير مكتمل، فقد كان أحولًا، أو لأنه كان من أبرز الذين أوقدوا نار الحرب والعداوة ضد النبي صلى الله عليه وسلم بلهبه المستعر، وشرر لهبه المتطاير بكل اتجاه.

 

وذَكَرَ القرآن تفرغًا كاملًا لأبي لهب في تأجيج نار الحقد والإيذاء ضد النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر اليدين كلتيهما، ولم يذكر له يدًا واحدة تشارك في هذا الأمر، ووصف امرأته بحمالة الحطب؛ لأنها كانت سليطة اللسان، وتمشي بالنميمة بين الناس، فتُوغل الحقد، وتشعل الفتن بينهم كالحطب الملقى في النار؛ لزيادة اشتعالها، وقوة اتقادها.

 

إن للقرابة وقعًا بالغًا بالنفس حبًّا وبغضًا، أكثر من وقع الآخرين؛ فالمحبة تكتنفها صلة للرحم، وترابط للعدد، وتراحم للأنفُس، وعزوة بالنسل، وشدٌّ للأزر، وقوة أمام المعتدي، وبأس لمن حام حول الحِمى، وهمَّ أن يعتدي، وعون عند الشدائد، وتفريج للكرب عند نزول المصائب، وإزالة للهم عند العسر والمتاعب، فالأصل أن تمتد يد القريب لقريبه قبل يد غيره، وأن تحنو عليه، وترفُق به، وتمسح دمعته، وتضمد جرحه، وتخفف ألمه، وتصون ماله، وترعى ذريته، وتحفظ شرفه، وتُعلي شأنه، وتحمي ظهره، أما البغض من القريب كخنجر مسموم غير متوقَّع بالظهر، والحقد من ذوي القربى قمة للغبن، وفجور بالقهر، فيا لوقع العداوة ممن كان مني، لكنه تولى خذلانًا لي فانصرف عني، يا لسهم انتظرت ذوده عني، فتوجَّه نحو صدري ليسكنني، يا ليد انتظرتها تُربِّت على كتفي، وتلتف بالحماية حولي، لكنها آثرت كفَّ العدو ليضربني بها، ويقضي عليَّ بسببها، يا لسوء لسان انتظرته مادحًا لمآثري، فإذا به قادحًا لي بما ليس بي، يا لموائد نُصبت لأكل لحمي، وتناثر بين الورى كذبًا بما خطَّه قدمي.

 

لقد مات أبو لهب بحسرته غمًّا وهمًّا بعد غزوة بدر بسبعة أيام، وقيل: مات بعد بدر بتسعة أيام، وقيل: مات في اليوم التالي من الغزوة بعد أن سمع ما كان فيه المشركين من الذل، والهوان، والهزيمة في الغزوة، بينما عاش النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله تعالى به الغمة، وتركنا على الْمَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فاخْتَرْ لنفسك بين قلب نقي، وعمل مخلص نَدِيٍّ، وخُلُقٍ سوِيٍّ، وتمنِّي الخير للغير، وبين قلب حقود لغيره، وحسود لمثله لا يحب الخير لنفسه فضلًا عن محبته لغيره، وإن فاضت خزائنه بالمال، وكثرت لديه الأنفال، لكن نفسه جائعة، وأخلاقه بالسوء ضائعة، وعينه من شدة الحقد فارغة؛ إذ ليس الغِنى عن كثرة العَرَضِ، وإنما الغِنى غِنى النفس.

 


[1] الراوي: المغيرة بن شعبة، المحدث: مسلم، المصدر: صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1499، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[2] الراوي: أبو هريرة، المحدث: مسلم، المصدر: صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 2761، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[3] ويكيبيديا، أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

[4] ويكيبيديا، أبو لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

[5] رواه الشيخان عن ابن عباس.

[6] تفسير الوسيط.

[7] سوق ذي المجاز، وهو: اسم سوق للعرب في الجاهلية كان إلى جانب عرفة، وقيل: في منًى.

[8] الراوي: طارق بن عبدالله المحاربي، المحدث: ابن الملقن، المصدر: البدر المنير، الصفحة أو الرقم: 1/ 680، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

[9] الدرر السنية، الموسوعة الحديثية.

[10] ويكيبيديا، أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، عداؤه للإسلام.

[11] ويكيبيديا، أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، عداؤه للإسلام.

[12] عبدالعُزَّى بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي، المعروف بكنية أبي لهب، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو عتبة، مات سنة 624م، وهو الأخ غير الشقيق لعبدالله بن عبدالمطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم، عُرِف عبدالعزى بكنية أبي عتبة؛ نسبة لابنه الأكبر عتبة بن عبدالعزى بن عبدالمطلب، ولكن الاسم المشهور له هو أبو لهب، لقبه إياه أبوه عبدالمطلب لوسامته وإشراق وجهه؛ [ابن كثير الدمشقي (2007)، تفسير القرآن العظيم، مراجعة: أحمد إبراهيم زهوة، بيروت، دار الكتاب العربي، ج: 4، ص: 465].

__________________________________________________________
الكاتب: حسام الدين أبو صالحة