بركة التقوى

محمد سيد حسين عبد الواحد

لن يأتينا خير في العاجل أو في الآجل إلا بتقوى الله عز وجل، ولن يأتينا خير في الظاهر أو في الباطن إلا بتقوى الله عز وجل..

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -

 

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : « وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودعٍ، فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ)»

أيها الإخوة الكرام : لن يأتينا خير في العاجل أو في الآجل إلا بتقوى الله عز وجل، ولن يأتينا خير في الظاهر أو في الباطن إلا بتقوى الله عز وجل..

ولن يُدفع عنا شر في العاجل أو في الآجل، ولن يُصرف عنا سوء في الظاهر أو في الباطن إلا بتقوى الله عز وجل..

الحياة الدنيا كلها بؤس، كلها تعب ونصب وأحزان وآلام ، جعلها الحكيم العليم كذلك حتى لا تتعلق بها قلوبنا، حتى لا نبكي عليها وحتى لا نحزن على فواتها..

الحياة الدنيا كلها ابتلاءات في النفس والمال والولد، طبعت الحياة الدنيا على كدر، طُبعت على كرب وهمٍّ وغمٍّ، ونحن نريدها صفواً من الأحزان والأكدار أقسم على ذلك الحكيم العليم سبحانه وتعالى فقال: { ﴿ لَآ أُقْسِمُ بِهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴾﴿ وَأَنتَ حِلٌّۢ بِهَٰذَا ٱلْبَلَدِ ﴾﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِى كَبَدٍ ﴾}

هذا الكبد، هذا التعب، هذه المشقة، الكرب والهم، والحزن، والغم الذي ملأ جنبات الحياة الدنيا جعل الله له ترياقاً ...

جعل الله تعالى لكل باب مغلق مفتاحاً، وجعل الله لكل همّ مخرجاً ، وجعل لكل ضيق فرجاً، وجعل لكل كربّ فكاً...

هذا الهم لكي يكون منه مخرج ، وهذا الضيق حتى يكون منه الفرج، هذا الكرب حتى ينفك له ترياقٌ له دواءٌ هذا الترياق والدواء يكمن حصراً وقصراً في أن يتق الإنسان ربه...

{{وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا ﴾﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ ﴾}

وقال { ﴿ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مِنْ أَمْرِهِۦ يُسْرًا ﴾} وقال {﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُعْظِمْ لَهُۥٓ أَجْرًا ﴾}

أصل السعادة في الدنيا والآخرة :

أن يكون لتقوى الله عز وجل محل في قلبك وفي قولك وفي عملك..

سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن حقيقة التقوى فقال: هى الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل..

وسئل بعض السلف عن التقوى فقال: تجعل بينك وبين عذاب الله وقايةً بامتثال أوامره واجتناب نواهيه..

وقيل إن التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله؛ ترجو بذلك ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله؛ تخاف من عقاب الله ..

أصل الخلاص من شقاء الدنيا وعناءها أن تتقي الله عز وجل..

قالها الله سبحانه وتعالى لأبينا آدم وأمنا حواء وهما في طريقهما إلى هذه الأرض التي نحيا عليها..

{﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِءَادَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ ﴾ ﴿ فَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰٓ ﴾﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ ﴾﴿ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا۟ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ﴾﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ ﴾﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ ﴾﴿ ثُمَّ ٱجْتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ﴾﴿ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًۢا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ﴾}

التقوى: أن يلزم الإنسان باب الطاعة ويهجر باب المعصية...

التقوى: أن يراك الله تعالى حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك ..

التقوى: أن يملأ الإنسان قلبه حياء وخشية لله رب العالمين هذا حال يتسبب في فتح الأبواب المغلقة..

فتقوى الله عز وجل تفتح باب القبول ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ﴾

تقوى الله عز وجل تفتح أبواب الرزق المطلقة قال الله تعالى في شأن التقية النقية مريم ابنت عمران {﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾}

تقوى الله عز وجل تفتح باب العلم الواسع {﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾}

تقوى الله عز وجل: تفتح باب السعادة في الدنيا والآخرة.. ورحم الله من قال: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد..

تقوى الله عز وجل تكفل سلامة الإنسان ونجاته في الدنيا والآخرة {﴿ وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾}

قبل أيام كنا نتحدث عن الرزق..

وأن من الرزق ما هو مبرم وذلك الذي كتب لنا ونحن في بطون أمهاتنا، ومن الرزق ما هو معلق، رزق إضافي يتحصل عليه الإنسان بحسن أخلاقه، وبعمله الصالح، ومن الرزق ما هو رزق مخفي لا نراه بأعيننا ولا نتحسسه بأيدينا، ولكننا نراه ونشعر به ونتلمسه بقلوبنا.. هذا الرزق الخفي هو البركة..

أسأل الله العظيم أن يبارك فينا وفي أموالنا وأولادنا وأزواجنا..

اليوم نقول إن من أبواب الرزق الإضافي ومن سبل الفوز بالرزق الخفي أن يلزم الإنسان تقوى الله عز وجل فمهما كانت الأبواب مغلقة ومهما كانت الأحوال متعثرة فإن الله تعالى ما زال ولم يزل مع المتقين، ويحب المتقين، ويتقبل من المتقين، ويرزق المتقين من غير حول منهم ولا قوة {﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيْمَٰنَ ۚ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ ۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ﴾}

﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِىِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلْجِيَادُ ﴾

{﴿ فَقَالَ إِنِّىٓ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ ﴾﴿ رُدُّوهَا عَلَىَّ ۖ فَطَفِقَ مَسْحًۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلْأَعْنَاقِ ﴾﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِۦ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾﴿ قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لَّا يَنۢبَغِى لِأَحَدٍ مِّنۢ بَعْدِىٓ ۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ ﴾ }

{﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِۦ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾﴿ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾﴿ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلْأَصْفَادِ ﴾﴿ هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ }

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا محبته وخشيته وأن يوسع أرزاقنا في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك ومولاه..

الخطبة الثانية

أيها الإخوة الكرام: بقى لنا في ختام الحديث عن التقوى أن نقول : لقد مرت بنا الأيام ودار بنا الزمان حتى رأينا من الناس العجب العجاب...

اليوم أصبح من الكلمات المستفزة لأصحاب النفوس الضعيفة ولأصحاب القلوب المريضة كلمة ( اتق الله)

رغم أنها قيلت لسيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله له ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾وقيلت كلمة اتق الله أيضاً لخير القرون أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلّم قال الله لهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ}

أما اليوم فيقال لأحدهم اتق الله فيتأفف، ويتكبر، ويحمر وجهه، ويشتاط غضباً، وتنتفخ عروقه، وتثور نفسه أن قيل له اتق الله..

{﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ﴾ ﴿ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ ﴾ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُۥ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ }

الإنسان المتكبر فقط ضعيف النفس مريض القلب هو الذي تفزعه وتزعجه كلمة اتق الله {﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلْإِثْمِ ۚ ﴾}

أما المؤمن فكلمة اتق الله تنبهه، توقظه، تقوّمه، تعدل مساره، فإن كان على خير مضى في طريقه، وإن كان على غير هدى رجع من قريب..

كلمة اتق الله يسمعها المؤمن فتهزه فيقف عندها ليراجع نفسه ويحاسب ذاته..

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ- حتى عد سبع مرات- لم أحدث به وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (كَانَ) الْكِفْلِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ أَأَكْرَهْتُكِ؟ قَالَتْ لَا وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ فَقَالَ تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ؟ اذْهَبِي فَهِيَ لَكِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْلِ) »

الشاهد: أن على المسلم أن يشكر من يٕذكّره، فالمؤمن مرآة لأخيه المؤمن، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: رحم الله أخاً أهدى إلي عيوبي..

فاتقوا الله عباد الله، واطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعملوا من الصالحات تؤجروا وتجبروا وترزقوا وتنصروا..

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوسع أرزاقنا وأن يبارك لنا في أرزاقنا إنه ولي ذلك ومولاه..