تجديد الإيمان بإصلاح القلوب

قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم».

  • التصنيفات: تزكية النفس -

الحمد والثناء...

أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ مدار التقوى على إصلاح القلب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهيَ القَلْبُ».

 

عباد الله، أخرج الطبراني في المعجم الكبير من حديثِ عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم»؛ (صحَّحه الألباني في صحيح الجامع: 1590).

 

هذا الدعاء فيه من عظيم المقصد، وأجلّ مطلب، في إصلاح أهم مضغة في الجسد، التي هي محلُّ نظر الرب تبارك وتعالى، التي إن صلحت صلح سائر الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله؛ فلهذا اهتمَّ الشارع الحكيم بسؤال اللَّه تبارك وتعالى في إصلاح هذه المضغة.

 

قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ».

 

أي: مِثْل الثَّوْبِ الجَديدِ الذي يَبْلى بطُولِ استخدامِهِ، فكذلكم الإيمانُ، فإنَّه يَبْلَى ويَضْعُفُ ويتلفُ ويتغيَّرُ في قَلْبِ المُسْلِمِ، ويدخُلُه النَّقْصُ مما يلقاهُ في هذه الحياة مِنْ مُلهياتٍ وصوارفَ متنوعةٍ تَصرِفُه عنِ الإيمان، وفتنٍ عِظام تُذهبُ قوَّتَه وتُضعِفُ جمالَه وحُسْنَه وبَهاءَه، فإنَّ الإيمانَ زينةٌ للقلوب؛ كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].

 

وإنَّ علامةَ ضَعفه - يا عباد الله - كثرةُ المعاصي والآثام، وانغماسُ النفس في الشهواتِ، وقلَّةُ الصالحات والطاعات، والبُعْدُ عنْ ذِكْر ربِّ الأرض والسماوات، وعدمُ تجديدِ التوبة بَعْدَ الذنوب والسيئات.

 

أخرج الترمذيُّ وغيره من حديثِ أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتةٌ سوداءُ في قلبِه، فإن تاب ونزع واستغفر صقَل منها، وإن زاد زادت حتَّى يُغلَّفَ بها قلبُه، فذلك الرَّانُ الَّذي ذكر اللهُ في كتابِه»: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14].

 

قال ابن كثيرٍ رحمه الله: وإنَّما حَجَبَ قلوبَهُم عنِ الإيمان بِهِ ما عليها مِنَ الرين الذي قد لَبس قلوبَهم مِنْ كثرةِ الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]؛ ا هـ.

 

وقال الحسنُ البصري: هو الذَّنبُ على الذَّنبِ حتى يَعمى القلب فيمُوت؛ ا هـ.

 

كلُّ ذلك - معاشر المؤمنين -ممَّا يُضعِفُ الإيمانَ في القلب، وإذا وقعَ ذلك، فإنَّ المرءَ يُصيبُه ما يُصيبُه مِنَ الغمِّ والهَمِّ والملَلِ والكآبة حتى وَلَوْ مَلَكَ الدنيا وما فيها، وأعظمُ مِنْ ذلك، الشعور بقسوةِ القلبِ وخشونَتِه، كما قال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].

 

قال البغويُّ: وإنَّمَا لم يُشبِّهْها بالحديد مع أنَّهُ أصلَبُ مِنَ الحجارة؛ لأنَّ الحديدَ قابلٌ لِلِّين؛ فإنه يلينُ بالنار، وقد لانَ لداود عليه السلام، والحجارةُ لا تلينُ قط، ثم فضَّلَ الحجارة على القلبِ القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] وقلوبكم لا تلين ولا تخشع.

 

وقال جل وعلا: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

 

• ومما يُصيبُ المسلمَ أيضًا عندَ ضعفِ إيمانه: عدمُ إتقانِ العبادات: ومنْ ذلك شرودُ الذِّهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها.

 

• ومنها: التكاسُلُ عنِ الطاعاتِ والعبادات، قال الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142].

 

• ومنها: الشُّحُّ والبُخْل، فقد بيَّنَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إيَّاكم والشحَّ؛ فإنَّ الشحَّ أهلك مَنْ كان قبلَكم، أمرَهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرَهم بالبُخْلِ فبخِلوا، وأمرَهم بالفُجورِ ففجَروا»؛ (رواه النسائي وهو في صحيح الجامع 2678).

 

• ومنها: التعلُّق بالدنيا، والشَّغفُ بها، والوهن الذي ذمَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال لمَّا سُئلَ عنه: «حُبُّ الدُّنيا، وكراهيةُ المَوتِ»؛ ولذا أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة تجديدِ الإيمانِ في القلوب بالتوجُّه الصَّادِقِ إلى الله جلَّ وعلا، فأوَّلُ وسائل تجديدِ الإيمان، هو الدعاء - يا عباد الله - لا تستهينوا بالدعاء؛ فإنَّ الإلحاحَ والتضرُّعَ إلى الله تعالى عبادَةُ الأبرارِ، الموقنينَ بوعدِ الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وهو ما أرشدَ إليه النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث قائلًا: «فاسألوا اللهَ أنْ يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبكم».

 

والله جلَّ جلالهُ يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].

 

• ومنها: النظرُ في آيات القرآن الكريم، والتفكُّر في وعدِ الله عز وجل ووَعيدِه، وأمرِهِ ونهيِهِ، بعينٍ دامعة، وقلبٍ خاشع، ونفسٍ وجلة، قال جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

 

• ومنها: كَثرةُ الذِّكرِ والاستغفارِ والمداومة على التوبةِ عندَ كلِّ ذنبٍ، فإنَّ للقلب قسوةً لا يذيبُها إلَّا ذكر الله تعالى، وقد شكا رجلٌ للحسن قسوةَ قلبه، فقال له: أَذِبْه بالذكر، وقال ابن القيم في مدارج السالكين (4/17): ففي القلبِ شعَثٌ لا يلمُّه إلَّا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يُزيلها إلَّا الأُنْس به في خَلوته، وفيه حزنٌ لا يُذهِبه إلَّا السُّرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلَّا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسراتٍ لا يطفئها إلَّا الرِّضا بأمره ونهيه وقضائه؛ ا هـ.

 

• ومنْ أعظمِ وسائلِ تجديدِ الإيمانِ - معاشر المسلمين - استماع الموعظةِ، وتقبُّلُها هوَ بدايةُ العلاج، والنقطةُ البيضاءُ التي ستنطبِعُ على القلبِ الغافِلِ الناسي.

 

• ومنها عباد الله - وقد أهملها غالب الناس -لُزوم مَجالِسِ الذِّكرِ والعِلمِ والتفَقُّه في الدين، قال جلَّ وعلا: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54].

 

وكيفَ لا يزدادُ الإيمانُ بطلبِ العلم ومجالسِ العلم؟ هي مجالسُ ذكرٍ تُتْلى فيها آياتُ الله، ويُتَعَلَّمُ فيها كيفَ يُعَظَّمُ الرَّبُّ ويُمَجَّد، وكيف يُعبَدُ ويُوحَّد، قال جلَّ وعلا مُبيِّنًا سبيلَ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم وأتباعِه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

 

عباد الله، إنَّ واقعَنا اليومَ مع ربِّنا عز وجل مهين ومشين، فلا القلوبُ تخشَع، ولا العيونُ تدمع، ولا الجوارحُ تنقادُ بِيُسْرٍ وسهولةٍ للطاعاتِ والقربات، نشكو قسوةً في القلوب، وتحَجُّرًا في العيون، وفُتورًا في أداءِ الطاعاتِ والعبادات، وكسلًا في القيام بالواجبات، وتثاقلًا عظيمًا عن أداءِ النوافلِ والمستحبَّات.

 

ألا فَلتعلموا - عباد الله - أنَّ جميعَ العباداتِ التي شرعَها الله جلَّ وعلا، ما هيَ إلَّا مُنقياتٌ مِنَ الأدران، ومُجدِّداتٌ للإيمان، وبواعث لليقين، ومحفزاتٌ للهِمَّة، ومؤكداتٌ للميثاق الذي التزمنا بِه لله جلَّ وعلا مِنَ التصديقِ بالخبر، والامتثالِ للأمر والاجتنابِ للحظر.

 

عبدَ الله، إمَّا أنْ تكونَ ذا قلبٍ سليم، وإمَّا ذا قلبٍ زائغٍ ميِّت، لا يعرفُ معروفًا، ولا يُنكرُ مُنكرًا، وبينَ هذا وذاك القلبُ المريض، دائرٌ بينَ الحياة والموت، قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53].

 

ألا فاتقوا الله - عباد الله - وتعاهَدوا الإيمان في قلوبكم بالأعمالِ الصالحة، بالطاعات، بالحسنات، بالتوبة، بالاستغفار بالذكر، بتلاوةِ القرآن العظيم، والتقرُّب إلى الملكِ الدَّيَّان، إنابةً وخَشيةً، مراقبةً وتوكُّلًا، استعانةً وإخلاصًا، ولنَتَدارَك جميعًا ما نحنُ فيه منَ التقصيرِ وقلَّةِ العمل، وتذكَّروا أنَّ الأعمارَ مهما طالَتْ فهي قصيرةٌ، والدنيا مَهمَا طابتْ فهي يسيرةٌ، واليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، والكيِّسُ من دانَ نفسَهُ، وعمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ من أتبعَ نفسَهُ هواها، وتمنَّى على الله الأماني، وفي الحديث الصحيح: «أفضلُ المؤمنينَ إسلامًا من سَلِمَ المسلمونَ من لسانِه ويدِه، وأفضلُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وأفضلُ المهاجرين مَنْ هَجَرَ ما نهى اللهُ تعالى عنه، وأفضلُ الجهادِ مَنْ جاهد نفسَه في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ».

 

«ومِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُهُ ما لا يَعنِيهِ»، و «دعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك».

 

اللهمَّ يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.

______________________________________________

الكاتب: أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري