انتصار الهزيمة

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

غريبةٌ هي الأقدار وتصاريف الأيام، عجيبةٌ هي صنائع الله عز وجل، خفيةٌ هي لطائفه، بديعة هي حكمته، وكم نرجع الفكر كرتين، فينقلب إلينا خاسئًا حسيراً عاجزاً، لا يملِك إلا أن يقول: سبحان الله الفعال لما يريد.

قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 7، 8]، وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

إن السر في هذه الآيات لا يُدرَك تمام الإدراك إلا إذا فُهِم قولُه تعالى في آيات أخرى: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]، فليس العجبُ أن يصلَ إلى الإنسان ما كان يتوقعه ويحتسبه وينتظره، بل العجب أن يصل إليه ما لم يكن يحتسب، وما لم يكن يظن يومًا أنه سيصلُه، وهذه هي القدرة الإلهية العظيمة، فليس من عجب أن ينتصر القوي الذي يملك وسائل القوة، لكن الغريب أن ينتصر الضعيفُ الذي لا يملك سوى ضعفه، ولا يتقي إلا بصبره، ولا يصول إلا بيقينه وإيمانه.

إن ما كنا نشاهده في غزة بكل حرقة، وما كنا نبكي له بكل ألم، ونرثي له بكل أسى، أصبح يُظهر لنا اليومَ قدرةً خفيةً، وسرًّا ربانيًّا، وتطبيقًا جليًّا لآيات القرآن الكريم، إن غزة اليوم تعلم الأمة درسًا في التوكل، وتلقن العالم مبادئ النبل، وتورث الأجيال معاني العزة، لقد أصبحنا نرى في غزة اليوم معجزةً من المعجزات، وعجيبة من عجائب الأيام، إننا نرى انتصار الهزيمة، وانهزام النصر.

نعم، لقد انتصرت الهزيمةُ على النصر، وفاز الضعف على القوة؛ لأن أسلحة غزة لا ترى بالعين المجردة، ولا تمنعها الجدران، ولا تبطلها الرادارات، ولا تتصدى لها المضادات؛ لأنها لا تدمر بيوتًا أو آليات، ولا تقتل بشرًا أو حيوانات، إنها تضرب قيم العدو، وتضرب سمعته، وتنسف مستقبله وماضيه، وتضرب رُوحه التي يحيا بها بين العالمين، إنها تمسح تاريخ دولته، وتطمس معالم أمته، وتفضحه بين الخلائق، وتجرمه أمام التاريخ.

لأن أغلى ما تسعى إليه أمةٌ على وجه الأرض، أن توجد لنفسها مكانة معنوية حتى لا تكون منبوذة بين الأمم، وهذا ما تنفق عليه أمريكا مليارات الدولارات، وتحشد له الأفلام والمجلات والقنوات، بل هذه هي حقيقة الوطن التي يفخر بها الناس، وهي مظهر من مظاهر الانتساب التي هي فطرة في الإنسان، فلا أحد يرضى أن تكون أمُّه ذات تاريخ سيئ، أو أن يكون أبوه مجرماً، وكذلك لا يرضى أحد أن تكون دولته عاراً في الجبين، وسبة في التاريخ.
ولهذا انتصرت غزة على إسرائيل، وانتصر المغلوب على الغالب، والمضروب على الضارب، والقتيل على القاتل.

إن قصة انتصار الهزيمة قد تكررت في التاريخ، لكن مع العظماء، ومع أتباع الأنبياء، ولم يكن الله عز وجل ليخص بهذا الفضل غيرَ أوليائه، ولا لينعم بهذه الكرامة على غير أحبائه وأنصاره، وعلى رأس هؤلاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي سعت قريش إلى إذلاله بتوقيع عقد الحديبية، وكان فيه من بنود الذل ما حاكته قريش واستنكره المسلمون، حتى جادل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: ألسنا على الحق؟! ألستَ رسول الله؟! فعلام نعط الدنية في ديننا؟!!

بل وأشد من هذا وأنكى..
يصل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال مفاوضُ قريش: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقضِ الكتاب بعد»، قال: فو الله إذاً لم أصالحك على شيء أبدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي»، فقال: ما أنا بمجيزه لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرَد إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون إلى ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله.

قائد الأمة، ورسول رب العالمين، يسأل هذا الكافر أن يجيز له رجلا من المسلمين! وهذا المسلم الذي يرسف في قيوده وأغلاله يرد إلى الكفار على مرأى ومسمع من أبطال بدر! إنها مظاهر الهزيمة...

لكن كانت المعجزة ثمة، وكان النصر في طيات الهزيمة، فنزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، فكان الفتح في صلب الهزيمة، وأظهر البارئ عز وجل حكمته، وأرسى في المسلمين عقيدة {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا} [غافر: 51].

نعم.. إنه النصر الرباني الذي يُعجز العقول، ويبهر الألباب، ويتجاوز الأسباب.
إنه نصر بلال بن رباح، حين انتصر على المتجبر بكلمة، ونصر سعيد بن جبير حين أذل الطاغية بمحاورة.

إن الانتصار الذي تلوح بوادرُه في سماء غزة، وتزغرد كلماتُه في مبسم القائد هنية، وتلوح أنواره في جباه حماس، لهو من هذا القبيل، نصر الله الذي ينصر من يشاء، نصر الله الذي يظنه الرائي هزيمةً، ويحسبه الظان مذلة، فإذا به يراه نصرًا مبينًا، وفتحًا عظيمًا.

الكـاتب: حامد الإدريسي
المختار الإسلامي