أعمال القلوب

أعمال القلب إذا صلحت، صلحت أعمال البدن، فعمل القلوب هو الذي يحيي عمل الأبدان، وهو الذي يحبِّب إلينا الإيمان.

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

إن الله سبحانه وتعالى حين فَرَضَ على عباده العباداتِ، وأوجب عليهم الطاعات، جعل منها عباداتٍ بدنيةً ظاهرة، يقوم بها الإنسان ببدنه؛ كالصلاة والصوم والحج، والجهاد في سبيل الله.

 

وجعل منها عباداتٍ قلبيةً باطنة، لا يطَّلع عليها إلا الله؛ مثل: التوكل على الله، واليقين بالله، والخوف منه، والرجاء به وإليه.

 

وقد يهتم البعض لأعمال البدن أكثر من اهتمامه بأعمال القلب، مع أن الصحيح والسليم أن يهتم المسلم لأعمال قلبه أكثر من اهتمامه بأعمال بدنه.

 

والله سبحانه وتعالى حين أثنى على المؤمنين؛ قال سبحانه: ﴿  {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}  ﴾ [المؤمنون: 1، 2].

 

فأثنى عليهم بعمل قلوبهم؛ وهو الخشوع في الصلاة، أكثر من عمل أبدانهم؛ كالركوع والسجود.

 

ولأن أعمال القلب إذا صلحت، صلحت أعمال البدن، فإذا كان القلب يخشى الله تعالى ويراقبه، صار يصلي الصلاة في وقتها، لا يؤخرها عن وقتها، ولا ينام عنها، أو يتساهل فيها، وإذا صلَّاها، فإنه يصليها بخشوع وقلبٍ حاضرٍ، ويجاهد نفسه ألَّا يسرق الشيطان منه صلاته بما يحدثه من مشاريع في حياته، أو يناقشه في قضايا عامة أو خاصة.

 

وإذا تأمَّلنا أعمال الأنبياء عليهم السلام - وهم أعرف الناس بمراد الله تعالى من خَلْقِهِ - نرى أنهم كانوا يُولُون أعمال القلوب اهتمامًا زائدًا؛ فهذا إبراهيم عليه السلام لما قذفه قومه في النار، عَرَضَ له جبريل عليه السلام فقال له: "يا إبراهيمُ، هل لك من حاجة؟ فقال إبراهيم: أمَّا إليك فلا، وأما إلى الله فنعم".

 

وهذا رجاء بالله وحده، لا يُغيِّره أحد مهما بلغت منزلته، حتى لو كان جبريل نفسه مَلَك الوحي، ورفيق الأنبياء، وأقرب الملائكة إلى الله تعالى.

 

وهذا هود عليه السلام، بَعَثَهُ الله تعالى إلى قوم عادٍ، أشدِّ الأمم كفرًا وعنادًا واستكبارًا: ﴿  {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}  ﴾ [فصلت: 15]، ﴿  {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}  ﴾ [الفجر: 6 - 8].

 

هؤلاء القوم العُتاة الذين بعث الله إليهم هودًا، فماذا كانت معجزةُ هودٍ؟ لم تكن معجزة ظاهرة كعصا موسى، أو ناقة صالح، أو مُلك سليمان، بل كانت معجزته في التوكل على الله تعالى: ﴿  {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ}  ﴾ [هود: 53 - 55].

 

فمعجزة هودٍ هي التوكل على الله عز وجل، فلم يستطع الطغاة من قومه أن ينالوا منه شيئًا، مع ما هم فيه من القوة والجبروت.

 

وفي آيات كثيرة من القرآن الكريم ما يدفع المؤمن إلى التوكل على الله تعالى وحده، وألَّا يعلق قلبه إلا بربه سبحانه وتعالى: ﴿  {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}  ﴾ [يوسف: 67].

 

وإذا توكَّل المؤمن على الله تعالى، تصاغر في عينيه كلُّ عظيم، فلا عظيم ولا كبير أمام الله عز وجل، ولا قدرة أقوى من قدرته سبحانه.

 

أيها المسلمون، إن من أعظم ما أُصيب به الناس في هذه الأزمنة أنهم عظَّموا الماديات، والقوى الظاهرة في الكون أمام أعينهم، وتناسَوا أن الله تعالى هو الذي خلق هذه الماديات، وهو الذي هدى البشر إلى صناعتها وتطويرها: ﴿  {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}  ﴾ [طه: 50].

 

ومع ذلك لا يزال الله تعالى يُرينا قدرته على كل شيء على هذه الماديات، مهما تضخَّمت أمام أعيننا، فتأتي الزلازل لتدمِّرَ كلَّ شيء، وتأتي العواصف لتقتلع كل شيء، وتأتي الفيضانات فتُغرق كل شيء، ويأتي البرد الشديد فيموت الناس منه، ويأتي الحر الشديد فيموت الناس منه.

 

ولا زالت أنواعٌ من الأمراض تظهر كل حين، لا يعرف الطب لها علاجًا حاسمًا.

 

وأين الناس من تدمير الله عز وجل لأصحاب الفيل بطَيرِ الأبابيل؟ وأين الناس من إغراق الله لفرعون وقومه الكافرين؟ ﴿  {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}  ﴾ [ق: 37].

 

فقد جاء في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ))، فماذا في القلوب حتى ينظر الله تعالى إليها؟ إن في القلب أعمالَ الإيمان بالله والتصديق به، وتعظيم أمره والخشية منه، والإخلاص له، والتواضع لخَلْقِهِ، وعدم الكِبْرِ على أحدٍ من خلقه، ورجاء ما عند الله، والخوف من عقابه، واستحضار مراقبة الله تعالى في كل وقت، فهو عبودية كاملة متصلة لا تنقطع.

 

وإذا اجتهد المرء في صلاح قلبه، ومعرفة هذه الأعمال - أعمال القلوب - وجد لنفسه رسوخًا في دين الله أعظمَ من رسوخ الجبال، ووجد في روحه لذة لكل عبادة يقوم بها، لا يتأفَّف من طولها، ولا يستثقل حضورها.

 

أخيرًا:

حين مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة لموته، وشكَّ بعض الناس في وفاته، وحصل أمرٌ جلل، حتى جاء أبو بكر الصديق فقال كلمته المشهورة النابعة من قلب مليء باليقين: "من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت".

 

ولما وقعت الرِّدَّة في جزيرة العرب، اختلف الناس في قتالهم، فقال أبو بكر كلمته المشهورة النابعة من قلب مليء باليقين: "لأُقاتِلَنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله، لقاتلتُهم عليه".

 

فعمل القلوب هو الذي يحيي عمل الأبدان، وهو الذي يحبِّب إلينا الإيمان.

_______________________________________________________
الكاتب: ساير بن هليل المسباح