{واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} لقاء الله رب العالمين

آيات كثيرة تتكلم عن ذلكم اللقاء الحتمي وذلك المقام العظيم الذي يخيف المؤمنين ويرهب المتقين، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

  • التصنيفات: التقوى وحب الله -

كل واحد منا له طريق بدايته منذ ولد، ونهايته بين يدي ربه، وهذا أمر حتمي لا مفر منه، قال تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 12].

 

قال السعدي رحمه الله: فليس في إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه ليجزى بعمله.

 

وقال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8]، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]، وقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور: 42]، وقال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18]، وقال: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]، وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3].

 

آيات كثيرة تتكلم عن ذلكم اللقاء الحتمي وذلك المقام العظيم الذي يخيف المؤمنين ويرهب المتقين، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

 

قال السعدي: وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي؛ لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك.

 

وقال ابن عاشور رحمه الله: جِيءَ بِقَوْلِهِ: {واتَّقُوا يَوْمًا} تَذْيِيلًا لِهاتِهِ الأحْكامِ؛ لِأنَّهُ صالِحٌ لِلتَّرْهِيبِ مِنِ ارْتِكابِ ما نُهِيَ عَنْهُ، والتَّرْغِيبِ في فِعْلِ ما أُمِرَ بِهِ أوْ نُدِبَ إلَيْهِ؛ لِأنَّ في تَرْكِ المَنهِيّاتِ سَلامَةً مِن آثامِها، وفي فِعْلِ المَطْلُوباتِ اسْتِكْثارًا مِن ثَوابِها، والكُلُّ يَرْجِعُ إلى اتِّقاءِ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي تُطْلَبُ فِيهِ السَّلامَةُ وكَثْرَةُ أسْبابِ النَّجاحِ.

 

وفِي البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ هي آخِرُ ما نَزَلَ، فَقالَ جِبْرِيلُ: يا مُحَمَّدُ، ضَعْها عَلى رَأْسِ ثَمانِينَ ومِائَتَيْنِ مِنَ البَقَرَةِ، وهَذا الَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ والضَّحّاكُ وابْنُ جُرَيْجٍ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُقاتِلٌ، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عاشَ بَعْدَ نُزُولِها واحِدًا وعِشْرِينَ يَوْمًا، وقِيلَ: واحِدًا وثَمانِينَ، وقِيلَ: سَبْعَةَ أيّامٍ، وقِيلَ: تِسْعَةً، وقِيلَ: ثَلاثَ ساعاتٍ.

 

وقال البخاري: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ، إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]، قَالَتْ: فَقَالَ: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ» ، (وقد رواه مسلم أيضًا).

 

قال النووي ‏رحمه الله ومعناه: أن التقصير غالب في العباد، فمن استقصي عليه، ولم يسامح هلك ودخل النار، ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ»: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]؛ (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).

 

نسأل الله الستر والعفو والعافية يوم القيامة.

 

ورغم أهمية هذا الأمر ومركزيته في ديننا فإن أكثر الناس غافلون عنه؛ لذا يقعون في المعاصي، ويقصرون في الطاعات، ولكي تستعدَّ لذلك اليوم عليك بستة أمور أعانني الله وإياك على فعلها:

1- قراءة القرآن بالتدبر:

فإن العبدَ السعيد الموفَّق هو من يُقبِل على كتاب ربِّه قراءةً وسماعًا، وحفظًا وتدبرًا وعملًا، والعبد التعيس البائس هو من خلَّف الكتاب وراء ظهره، لا يأتمر بأوامره، ولا ينتهي عن نواهيه، ثم جعل إلهه هواه، هذا وقد ندبنا الله في أكثر من آية إلى تدبُّر كتابه؛ فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

 

قال السعدي رحمه الله: يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك، فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملًا فيه ازداد علمًا وعملًا وبصيرة؛ لذلك أمر الله بذلك، وحث عليه، وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

 

ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله؛ لأنه يراه يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضُه بعضًا، فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضًا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور؛ فلذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]؛ أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلًا.

 

2- التفكر في خلق السموات والأرض:

إنك إذا ما قرأت كتاب ربك سبحانه وتعالى ستجد في كل صفحة تقريبًا كلامًا عن مخلوقات رب العالمين، وستجد أمرًا بالتفكُّر في خلقه سبحانه أو نَهْيًا عن الغفلة عنه.

 

التفكُّر العبادة الصامتة، العبادة الصامتة التي تعظم أجرك وتزيد ثوابك وإيمانك ويغفر الله تبارك وتعالى بها ذنبك، فالذي يتفكر في خلق السموات والأرض تصيبه الخشية من ربِّه العظيم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28].

 

قال السعدي رحمه الله: ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها؛ ولهذا قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فكل من كان باللّه أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داعٍ إلى خشية اللّه، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].

 

إن التفكُّر في خلق السموات والأرض يدفعك دفعًا إلى تسبيح الله وتنزيهه وسؤالك إياه النجاة من النار، فمن صفات أولي الألباب الذين مدحهم الله في كتابه {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 191، 192].

 

قال السعدي رحمه الله: ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين، فإذا تفكروا بها، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثًا، فيقولون: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} عن كل ما لا يليق بجلالك، بل خلقتها بالحق وللحق، مشتملة على الحق، {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} بأن تعصمنا من السيئات، وتوفقنا للأعمال الصالحات، لننال بذلك النجاة من النار، ويتضمن ذلك سؤال الجنة؛ لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم الجنة، ولكن لما قام الخوف بقلوبهم، دعوا الله بأهم الأمور عندهم.

 

قال ابن عاشور رحمه الله: والتَّفْكِيرُ عِبادَةٌ عَظِيمَةٌ، رَوى ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في جامِعِ العُتْبِيَّةِ قالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْداءِ: ما كانَ شَأْنُ أبِي الدَّرْداءِ؟ قالَتْ: كانَ أكْثَرَ شَأْنِهِ التَّفَكُّرُ، قِيلَ لَهُ: أتَرى التَّفَكُّرَ عَمَلًا مِنَ الأعْمالِ؟ قالَ: نَعَمْ، هو اليَقِينُ.

 

والخَلْقُ بِمَعْنى كَيْفِيَّةِ أثَرِ الخَلْقِ، أوِ المَخْلُوقاتِ الَّتِي في السَّماءِ والأرْضِ، فالإضافَةُ إمّا عَلى مَعْنى اللّامِ، وإمّا عَلى مَعْنى (في).

 

وقَوْلُهُ: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} وما بَعْدَهُ جُمْلَةٌ واقِعَةٌ مَوْقِعَ الحالِ عَلى تَقْدِيرِ قَوْلٍ: أيْ يَتَفَكَّرُونَ قائِلِينَ: رَبَّنا إلَخْ؛ لِأنَّ هَذا الكَلامَ أُرِيدَ بِهِ حِكايَةُ قَوْلِهِمْ بِدَلِيلِ ما بَعْدَهُ مِنَ الدُّعاءِ.

 

وقال أيضًا: فَأوَّلُ التَّفْكِيرِ أنْتَجَ لَهم أنَّ المَخْلُوقاتِ لَمْ تُخْلَقْ باطِلًا، ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْهُ تَنْزِيهُ اللَّهِ وسُؤالِهِ أنْ يَقِيَهم عَذابَ النّارِ؛ لِأنَّهم رَأوْا في المَخْلُوقاتِ طائِعًا وعاصِيًا، فَعَلِمُوا أنَّ وراءَ هَذا العالَمِ ثَوابًا وعِقابًا، فاسْتَعاذُوا أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذابِ، وتَوَسَّلُوا إلى ذَلِكَ بِأنَّهم بَذَلُوا غايَةَ مَقْدُورِهِمْ في طَلَبِ النَّجاةِ إذِ اسْتَجابُوا لِمُنادِي الإيمانِ وهو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وسَألُوا غُفْرانَ الذُّنُوبِ، وتَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ، والمَوْتَ عَلى البِرِّ إلى آخِرِهِ، فَلا يَكادُ أحَدٌ مِن أُولِي الألْبابِ يَخْلُو مِن هَذِهِ التَّفَكُّراتِ، ورُبَّما زادَ عَلَيْها، ولَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وشاعَتْ بَيْنَهُم، اهْتَدى لِهَذا التَّفْكِيرِ مَن لَمْ يَكُنِ انْتَبَهَ لَهُ مِن قَبْلُ، فَصارَ شائِعًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ بِمَعانِيهِ وألْفاظِهِ.

 

3- الخلوة لتحقيق الأمرين الأولين:

فكي تتدبر القرآن وتتفكر في المخلوقات لا بد من خلوة تُعينك على ذلك، وأجمل بالخلوات في المساجد خاصة بعد الفجر والمغرب، اقرأ في تلك الخلوة كتاب ربك، واقرأ التفسير، وردد الآيات، واستمتع بدررها، واستنبط ما فيها من معانٍ وحِكَم وعِبَر، ثم افتح نافذة المسجد وتأمَّل السماء ومخلوقاتها والأرض ومخلوقاتها.

 

يقول مسلم بن يسار: مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُناجَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ويقول محمد بن يوسف: مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة.

 

قال الدكتور حمزة بن فايع الفتحي في مقال له على شبكة صيد الفوائد بعنوان خلوة فكرية: وفي الخلوة ذكر وتسبيح، وصلاة وتراويح، وتألُّه وخشوع، قد لا يُدرك مع الصخب والمتاعب، أو الشغل والمراكب!

 

• وفي الاختلاء الفكري: حل لأفكار، وترتيب لمشكلات، ومراعاة لمواقف، وتصحيح لأغلاط! ومن الذي يحسن الحلول في عمق الأزمة، أو عند اشتداد الجائحة؟!

 

• وفيه تعلُّم معاني الصمت والانزواء قليلًا، لا سيَّما من استشاط نقدُه، وطال لفظه، ففرصة نفيسة، كما تعلَّمَ فنون الكلام، أن يتعَلَّم فنون الصمت، وفي الصمت حكمةٌ وحِكَم، وفقهٌ وفهم، وتدريبٌ ومهارات.

 

• وفيه خروج عن المألوف الصاخب، وإعادة القراءة لكثير من المواقف والعلوم والاختيارات.

 

• وفي الخلوة تعبئة جديدة للعقل، والتركيز في ضخ مواد مختلفة، وإعادة تثقيفه من جديد.

 

• وفيها معالجة لمفهومات مغلوطة، وإحلالها بمفهومات جديدة، تستند لنص منير، أو فكر رشيد، أو تجربة أكيدة!

 

• لا سيما وأن فيها تخففًا من الذنوب الحالكة، والخطايا الماحقة التي تضر العقل والروح، فيصدأ الاختيار والتصرف، وهو ما لا يفقهه كثير من الناس! ويعتقدون أن الذنوب ليست مؤثرة في الحياة والسلوك، فتخرج تصرفاتهم وسلوكهم على خلاف الجودة والسداد! {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].

 

• وحينما ينضاف إلى مقصود الاختلاء الفكري الإبداع والإنتاج، وسبر المقولات والفهوم، وتوليد المفاهيم المستحدثة، يتولد الهمُّ لها، فغالبًا المقاصد ما تسوق إلى نتائجها، والقراءة الحادة المتعمقة تنتج وتثري وتتجاوز كل التوقعات.

 

• وفي تدبر الوَحْيَيْن والغوص في معانيهما نفائس وروائع وعجائب، لا سيما لمن قرأ بتدبر، وعاش متأملًا، ودقق متفكرًا... وفي الفكر بالقرآن روضٌ ونعمةٌ...وفي السُّنَّة الغَرَّاء درسٌ ومخبر...! انتهى كلامه حفظه الله.

 

4- احذر الشيطان واتباع خطواته:

فقد نهانا الله في أربع آيات عن اتباع خطوات الشيطان، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169].

 

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208، 209].

 

{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142].

 

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].

 

قال القرطبي رحمه الله: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ، وَخَبَرُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَأْخُذَ حَذَرَهُ مِنْ هَذَا الْعَدُوِّ الَّذِي قَدْ أَبَانَ عَدَاوَتَهُ مِنْ زَمَنِ آدَمَ، وَبَذَلَ نَفْسَهُ وَعُمْرَهُ فِي إِفْسَادِ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَذَرِ مِنْهُ فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168، 169]، وَقَالَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، وَقَالَ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، وَقَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، وَقَالَ: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]، وَقَالَ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّحْذِيرِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.

 

5- اتَّقِ ظلم العباد:

فإن العبد لا يزال في فسحة من دينه ما ابتعد عن ظلم العباد من والدين وزوجة وأولاد وأقرباء وأصهار وجيران وغيرهم من العباد، فطوبى لمن حسن خلقه، وابتعد عن ظلم غيره؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين» ؛ (متفق عليه).

 

قال ابن حجر في فتح الباري:... قال الخطابي: قوله: طوقه له وجهان: أحدهما: أن معناه أنه يكلف نقل ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر، ويكون كالطوق في عنقه لا أنه طوق حقيقة، الثاني: معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين، أي: فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقًا في عنقه؛ انتهى.

 

وهذا يؤيده حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب بلفظ: خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين، وقيل: معناه كالأول، لكن بعد أن ينقل جميعه يجعل كله في عنقه طوقًا ويعظم قدر عنقه حتى يسع ذلك؛ انتهى.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: مَنْ كانتْ له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يومَ القيامةِ وشِقُّه مائلٌ؛ أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم: «أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟ إنَّ المُفلسَ من أُمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ».

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ينبغي) أن يستكثر العبد من الحسنات، ليوفي غرماءه، وتبقى له بقية يدخل بها الجنة.

 

6- عليك بالدعاء كدعاء رب قني عذابك يوم تبعث عبادك:

ففي سنن أبي داود أن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، كان إذا أراد أن يَرْقُدَ وضع يدَه اليمنى تحتَ خَدِّهِ ثم يقول: اللهم قِنِي عذابَك يوم تبعثُ عبادَك ثلاثَ مِرارٍ.

 

ومن الممكن أن تدعو بدعاء اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا، أو اجعلني ممن تدخلهم الجنة بلا سابقة عذاب ولا مناقشة حساب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:  «عُرِضَتْ عليَّ الأمَمُ، فأخذ النَّبيُّ يَمُرُّ مَعَه الأمَّةُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَه النَّفَرُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَه العشرةُ، والنبيُّ يَمُرُّ مَعَه الخَمسةُ، والنَّبيُّ يَمُرُّ وحدَه، فنَظَرتُ فإذا سَوادٌ كَثيرٌ، قُلتُ: يا جِبريلُ، هَؤُلاءِ أمَّتي؟ قال: لا، ولَكِنِ انظُر إلى الأفُقِ، فنَظَرتُ فإذا سَوادٌ كَثيرٌ. قال: هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ، وهَؤُلاءِ سَبعُونَ ألفًا قُدَّامَهم لا حِسابَ عليهم ولا عَذابَ، قُلتُ: ولمَ؟ قال: كانُوا لا يَكتَوُونَ، ولا يَستَرْقُونَ، ولا يَتَطيَّرُونَ، وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلُونَ» ، فقامَ إليه عُكَّاشةُ بنُ مِحصنٍ، فقال: ادعُ اللهَ أن يَجعَلَني مِنهم، قال:  «اللَّهمَّ اجعَلْه مِنهم» ، ثُمَّ قامَ إليه رَجُلٌ آخَرُ فقال: ادْعُ اللهَ أن يَجعَلَني مِنهم، قال:  «سَبَقَكَ بها عُكَّاشةُ».

 

جعلني الله وإياكم منهم مع عكاشة وباقي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع إمامهم وقدوتهم النبي صلواته ربي وسلامه عليه، والحمد لله رب العالمين.

__________________________________________________
الكاتب: د. محمد أحمد صبري النبتيتي