بركات السماء والأرض

هذه الأرضُ التي هي فندقُ الحياة، والتي زُيِّنت بأنواع الزِّينة، وهيِّئت بجميع ما يحتاج إليه هذا الضيفُ العظيم، خليفة الله في أرْضه

  • التصنيفات: الطريق إلى الله -

 

حامد الإدريسي

 

هذه الأرضُ التي هي فندقُ الحياة، والتي زُيِّنت بأنواع الزِّينة، وهيِّئت بجميع ما يحتاج إليه هذا الضيفُ العظيم، خليفة الله في أرْضه، قد وهبتْه هواءَها المعتدل، وماءَها العذب، وثمارها الناضِجة، وأظلته بشجرها الوارف، وأمتعتْه بزينتها حين تزيَّنت بألوان الرَّبيع، وأدفأتْ بشرته بشمسها الدافِئة على شواطئ البحار، وتطامنتْ له حتى يسلكَها فجاجًا، ويمشي فيها ذاكرًا لله شاكرًا له على ما وهَبَه مِن عناية الكون، وما أخْدَمه مِن أنواع الدوابِّ والأنعام والطيور، وما أحاطه مِن ملائكته التي تحْفَظه مِن أمر الله.

هذه الأرضُ العظيمة، والأمُّ الرحيمة، هي مضمارُ هذا الإنسان في رِحلته إلى الله، ففيها يكسِب الحَسَنات، وفيها يقترِف السيِّئات، وهي لا تفرِّق بيْن هذا المحسِن وهذا المسيء، فينال كلٌّ منها بحسب ما أذن الله له فيه من الرِّزق والمتاع؛ {﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ } [الإسراء: 20].

ولكنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لم يترُكْ أمر الرِّزق مُعلقًا بإرادته الحكيمة فقط، بل جعَل لإرادته أسبابًا علَّق عليها أرزاقًا، فمَن أراد أن يوسِّع عليه دفعَه للسبب وأعانه عليه وهيَّأه له، ومَن أراد أن يُضيِّق عليه أعاقَه عنِ الأسباب، وحال بيْنه وبيْن ما يُريد، وأين ما يُريد ممَّا يريد، فإنْ سلَّم له فيما يريد كفاه ما يريد، وإن لم يُسلِّم له فيما يريد، أتْعبه في ما يُريد، ولا يكون إلا ما يُريد.

ولأنَّه قد تزِر الأخرى وزرَ غيرها، وقد نهلِك بما يفعله السفهاءُ منَّا، وقد تتعلَّق بذنوبنا فتنٌ لا تُصيب الظالمين منا خاصَّة؛ ولأنَّه قد يعمُّ الذنب المذنبَ وغيرَه إذا كثُر الخبث، كما قال -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- لزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حين سألتْه: أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعَم، إذا كثُر الخبث))، وكما قال موسى مستعيذًا بالله أن يُؤاخذه بما فعَل السفهاء؛ {﴿ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ﴾} [الأعراف: 155] - لكلِّ هذا وغيره، قد تَقبض الأرض والسماء بركاتِهما إذا أمر -أي كثُر- المُتْرَفون في البلادِ وفسقوا فيها؛ قال -تعالى-: {﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾} [الإسراء: 16]، وهذا الدَّمار قد يكون بالصاعِقة والقارعة والصيحة، وقد يكون بعمومِ البلاء والغلاء والوباء، فكلُّ ذلك عقابُ الله لمَن أعرض عن ناموس شرْعه، ولوَّث حُرمة قوانين الكون بعبثه وجُرْمه؛ كما قال -تعالى-: في أهل مكة: {﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون ﴾ } [النحل: 112]، فالجوع والخوف، من الدَّمار الذي تكلَّمت عنه الآية الكريمة.

فلو آمَن أهلُ القرى وأهلُ المدن وأهل البوادي، لفتَح الله عليهم بركاتِ السماء والأرض؛ قال -تعالى-: {﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾} [الأعراف: 96 - 99].

وقد تظنُّ يا قارئي الكريم، أنَّ هذه البَركات التي يفتَحها الله على القُرى وأهلها إنَّما هي أمورٌ مرتبطة بإرادته الحكيمة لا تعلق لها بالأسباب، وهذا ما سُنحاول الحديث عنه في هذا المقال؛ كي نربطَ الأسباب الربَّانية بالأسباب الكونيَّة، ونرى كيف ينال قومٌ آمنوا واتَّقوا بركاتِ السماء والأرض.

إنَّ عجلةَ الاقتصاد إنما سُمِّيت عجلةً لاتصال أجزائِها وتماسُك بنيتها، فخلَل في مرحلةٍ مِن مراحل العمليَّة الاقتصاديَّة، يؤثِّر على باقي المراحل، فيتوقَّف أو يتأخَّر أو ينحرِف دورانُ عجلةِ الاقتصاد ويتأثَّر الناتج الإجمالي للبلد، ويظهر ذلك جليًّا على الطبقة الوسطى وما تحتَها، ولنضرب مثالاً على ذلك: فلو أخلف المستوردُ موعدَه ولم يحضر المادة الخام في موعدِها، فإنَّ المصنع سيتأخَّر، والمنتِج سيلغي صفقتَه مع المصنع، والزُّبون سيشتري سلعةً أخرى، فتتسلسل الخسارة وتأكل مِن كل واحد على قدْر حَجْمه، ويأكل هو ممَّن تحته، حتى يُؤكَل الضعيف في آخِر السِّلسلة.

ولنفترض أن تأخُّر هذه السِّلعة كان بسبب فساد موظَّف في الجهة الحكوميَّة المسؤولة عن قِسم الواردات، فسنربط هذه الخسارةَ مباشرةً بفساد ذلك الموظَّف، ثم نحسب قيمةَ الخسارة المادية التي ترتَّبت على ذلك الفساد وأثَرها على الناتج العام، فنخرُج بنتيجة مفادها أنَّ فساد موظَّف في جِهة حكوميَّة ترتَّب عليه خسارةٌ اقتصادية قِيمتها كذا وكذا.

إنَّ جميع المنكرات والمعاصي، تؤثِّر مباشرةً في الاقتِصاد مِن قريبٍ أو بعيد، فانظر إلى الكذِب وأثره على الاقتصاد، وانظر إلى إخلاف المواعيد، وأكْل أموال الناس بالباطل، وانظر إلى الرِّبا والزِّنا، وغيرها من المنكرات وما تؤدِّي إليه من مشاكلَ اقتصاديةٍ كبيرة، تتسبَّب في إهلاك الحرْث والنَّسْل، وبالتالي تدمير الاقتصاد وتدمير القُرى والمُدن والبلدان؛ {﴿ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾} [الأعراف: 96].

فانظر إلى ذلك الذي خرَج سكرانَ مِن خمَّارته، وفي الطريق انقلبتْ به سيارتُه، فقَتَل رجلاً كان يمشي على الرَّصيف عائدًا مِن عملِه الذي يقوت به نفسه وأسرته.

تَمَّ الحُكم عليه بالسجن، وتم تعطيل قُدرته الإنتاجية، وقُدرة ذلك الرجل البريء الذي راح ضحيةَ المسكر، وبالتالي فإنَّ أسرتين مِن أُسر المجتمع قد تعرَّضتَا للشتات والضياع، وتعطَّلت طاقاتٌ كان من المفترض أن تنتجها هاتان الأسرتان لولا قارورةُ الخمر تلك!

هذه حادثةٌ تتكرَّر باستمرار، وكما ذكرت الإحصائيات فإنَّ المخدِّرات والخمر تشكِّلان السببَ الأوَّل في حوادث السير، ولو وقفْنا عند الخمر وآثاره على الاقتصاد لطال بنا الوقوف، فالأُسْرَة التي هي الخلية المنتِجة للطاقات في المجتمع تتأثَّر كثيرًا بسببِ أمِّ الخبائث، وأغلب مَن يضربون زوجاتِهم هم من المدمنين للخمور؛ ولذا فلو حاولْنا أن نقوم بعملية حسابيَّة لنحسب ما يتكبَّده المجتمع من خسائرَ بشريَّة بسبب تشتُّت الأُسَر، وضياع الأبناء، وانحرافهم إلى طُرق الفساد واللصوصيَّة والإجرام، ونحسب أثر ذلك على الاقتصاد، لوجدْنا أنَّنا أمام أرقام كبيرة جدًّا.

وانظرْ إلى الزِّنا، وما يُسبِّبه مِن دمار للأسر، وما يصرفه ربُّ الأسرة حين يُبتلَى به من مدَّخرات الأُسرة وأموالها، بل قد يوصله الهوى إلى تدمير تِجارته والاستهتار بحياته، وقد عشتُ شخصيًّا قصةً لرجل من معارفنا، كان مديرًا لأحد البنوك في مدينة الدار البيضاء، ابتلاه الله بحبِّ فتاة مِن البغايا، عرَفتْ كيف ترسم له أحلام الحبِّ والهوى وتستدر مِن جيبه المليء ما شاءت، فاشترى لها شقَّةً ومتاعًا، حتى أوصلته إلى حد أن يستدين مِن البنك كي يلبِّي لها طلباتها، وحين رأتْ أنَّ دوره قد انتهى بدأت تمارس عليه فنونَ التمنُّع والتأفُّف، حتى اكتشف الحقيقةَ المُرَّة، وعرف أنَّه كان قنطرةَ عبور، فقرَّر الانتقام منها، وطلب منها مرافقته إلى إحدى دور السينما، وهناك مرَّر سكينته على عُنقها وانطلق نحو الحمامات ليشربَ قارورة سُمٍّ كان قد أعدَّها مسبقًا، لم تمتِ الفتاة، ولم يمت هو، وبعد أن مكَث في العناية المركَّزة أيامًا، خرَج معاقًا ليصبح قعيدَ زوجته التي أصبحتْ ترعاه بعدما خرَج مِن السجن، والأبناء يرون ماذا حلَّ بأبيهم التعيس!

إنَّ هذه القصَّة التي عِشتُ أحداثها عن قُرب، تُثير في نفسك الكثيرَ من القصص التي سمعتها أو عايشت أحداثها في مجتمعنا البعيد عن الدِّين، ولا تَلُمْ يا أُخيَّ هذا الرجل وحده، ولُمِ المجتمع الذي أتاح أمامه الفسادَ والتبرُّج والعري، والمدرسة التي لم تحصِّنه دينيًّا، والمسجد الذي لم يقُمْ بدوره، والدولة التي لم تَسُنَّ القوانين لتمنع مثلَ هذه الظروف التي تحثُّ على الفساد وتؤزُّ إليه أزًّا، والتي تضرُّ بالمجتمع وتدمِّره أخلاقيًّا قبل أن تدمِّره اقتصاديًّا.

ولنتجه الآن معًا إلى شقٍّ آخر من شِقي هذا المقال، فبعد أن أشرْنا إشارةً موجزة مخلَّة إلى أثر المعاصي على الاقتصاد، نُريد أن نتلمس جانبًا آخرَ أكثر أهمية ألا وهو جانب القِيَم الإسلامية، فهي التي تجعل الاقتصادَ يزدهر بصورة لا يُمكن أن تحسبها آلاتُنا الحاسبة، وهو ما تَصِفه الآية العظيمة بأنه: {﴿ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾} [الأعراف: 96].

لنأخذ قِيمةَ التوكُّل، ونطرَحها في مجتمع مِن المجتمعات، لنرى أثَرها على عجلة الاقتصاد والنمو، فالمتوكِّل على الله يعلم أنَّ ما كتب الله له لن يأخذَه غيره، وما لم يكتبْه الله له، لا يصِل إليه، فهو لا يمدُّ يدَه إلى مال غيره بغير حق، ولا يطلب رِشوةً ولا يمنع حقًّا، يعرف واجبه فلا يقصر فيه، ويعلم أنَّ الله رقيب عليه، فلا يعتدي ولا يظلم، وبهذا يَتجنَّب الاقتصادُ الكثيرَ من المعوقات التي تضرُّ به في التعامُلات المالية بيْن الناس، وهذا لا يتحقَّق إلا إذا حقَّقْنا التوكُّل كقِيمة يعيش عليها المجتمع، وليس عقيدةً مسطَّرة في الأوراق.

ولو تحصَّل لنا مجتمع يُطبِّق قيمةَ الصِّدق، لدارت عجلةُ الاقتصاد بسرعة عالية، فبسبب الكذِب والخيانة، أصبحتِ المعاملات المالية تأخُذ الكثيرَ من الخُطوات التوثيقيَّة ويتدخَّل فيها الكثير من الأطراف القانونيَّة والبنكيَّة وغيرها، كي يضمنوا الثِّقة بين المتبايعين، ويربطوا بينهم العهودَ والعقودَ التي تضمن لكلِّ طرف حقَّه، وهذا يجعل المعاملة تأخذ وقتًا طويلاً، وتُكلِّف مبالغَ إضافيَّة، فلو افترضنا مجتمعًا أمينًا صادقًا، فإنَّ كلمةً واحدة في مجلس تعاقُد، تعتبر كافية لينتقل الحقُّ بين المتعاقدين، ومتى ما تفرَّق المجلس أصبح البائع يرى أنَّ تلك البضاعة قد حُرِّمت عليه وأصبحتْ من حق المشتري ولو كانتْ ما تزال في يده، وأنَّه متى ما نقَض هذا العقد فإنَّه معتدٍ على مال غيره بغير حق، إلا أن يُقيله المشتري مِن تلك الصَّفْقة، فمُدة التعاقد في مجتمع صادق لا تتعدَّى دقائقَ معدودة، تنتقل بها الملكيات والأراضي والعقارات والأموال، فيكون عددُ العمليات التجاريَّة التي تتمُّ في شهر واحِد في مجتمع يُطبِّق قيمة الصِّدق، أكثر بآلاف المرَّاتِ مِن غيره من المجتمعات، فبدل أن يَضيع جهدُ التجار في هذه الإجراءات التوثيقيَّة وتتأخَّر الصفقات، فإنَّ الصدقَ يُسرِّع عمليةَ التعاقد، ويعفي المجتمع مِن فراغ زمني كبير، سبُبه عدم الثِّقة وفشو الكذب والغش، فمتى ما وُجِد الصِّدق فإنَّ النمو الاقتصادي يسير بوتيرةٍ عالية، وبالتالي نُرْزَق مزيدًا من بركات السماء والأرض.

ولو عاش المجتمعُ يُطبِّق القِيم الإسلاميَّة في الاقتصاد، ويُحرِّم الغش ويَمنع أكْل أموال الناس بغير حق، ويُعطي الأجير أجْره قبل أن يجفَّ عرقه، ويمتنع عن البيوع المحرَّمة، وعن بيع ما لا يملك حتى يقبضَه، وعن النَّجش وهو أن يرفَع سِعر السلعة في المزايدة لا رغبةً في الشراء، وإنما لرفْعِ السِّعر على المشتري الحقيقي، ويُحرِّم الاتجار في الخمور والمخدِّرات، فإنَّ الاقتصادَ سينمو بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، وسوف يتحقَّق في هذه القرية قوله -تعالى-: {﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾} [الأعراف: 96]، هذا بالإضافةِ إلى ما يُثيره الإيمانُ في النَّفْس من حبِّ العمل وحبِّ الخير للناس، والتعاون والاجتهاد، وما يبعثه في الوجدان من قُوى الطُّمأنينة والرِّضا والصبر والتحمُّل، وهو ما يجعل المجتمعَ سليمًا معافًى، ويجعل أفرادَه مشاعلَ خير وإصلاح، وبالتالي نُرزق مزيدًا مِن بركاتِ السماء والأرض.