اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا

لقد بيَّن القرآن الكريم أهمية الرشد وأثره في حياة الأفراد والمجتمعات، وجعل من أعظم دلالاته والوصول إليه والحفاظ عليه، تنمية الإيمان بالله والحفاظ عليه..."

  • التصنيفات: تزكية النفس -

الحمدُ لله العزيز الغفور، الحليم الشكور، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، لا قاطع لمن يصله، ولا نافع لمن يخذله، يُثيب على العمل القليل ويقبله، ويحْلمُ على العاصي فلا يعاجله، الملائكة من خشيتِه مُشْفِقون، والعباد من عظمته وجلون، وكلُّ من في السموات والأرض له قانتون.

يا ربّ هيِّئ لنا من أمرنا رشـــــدا   **   واجعل معونتك الحسنى لنا مـددا 

ولا تكِلْنا إلى تدبير أنفسنـــــــــــا   **   فالنفسُ تعجز عن إصلاح ما فسدا 

أنت الكريم وقد جهّزتُ من أملي   **   إلى أياديك وجهًا سائلًا ويـــــــــدا 

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبعث مَن في القبور للوقوف بين يديه يوم النشور، وأشهد أن نبينا وسيِّدنا محمَّدًا عبدُه ورسوله، بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

عبــــاد الله، حين  {أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ}  [الكهف: 10]، لم يسألوا الله النصر، ولا الظفر، ولا التمكين، ولا شيئًا من متاع الدنيا؛ بل قالوا:  {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}  [الكهف: 10]، ذلك أن الرشد هو إصابة وجه الحقيقة، وهو السداد، وهو السير في الاتجاه الصحيح، فإذا أرشدك الله فقد أوتيت خيرًا عظيمًا، وخطواتك مباركة، وبهذا يوصيك الله أن تردد:  {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}  [الكهف: 24]، بالرشد تختصر المراحل، وتختزل الكثير من المعاناة، وتتعاظم لك النتائج حين يكون الله لك  {وَلِيًّا مُرْشِدًا}  [الكهف: 17]؛ ولذلك حين بلغ موسى الرجل الصالح لم يطلب منه إلا أمرًا واحدًا هو  {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}  [الكهف: 66]، فإن الله إذا هيَّأ لك أسباب الرشد، فإنه قد هيَّأ لك أسباب الوصول للنجاح الدنيوي والفلاح الأخروي.

 

والرشد ضد الغيِّ والضلال، وهو ضد السفه وسوء التدبير، والرشد يعني الهدى والحق والإيمان، قال تعالى:  {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}  [البقرة: 256]، والجن لما سمعوا القرآن أول مرة ماذا قالوا؟ قالوا:  {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}  [الجن: 1، 2].

 

أيها المؤمنون عباد الله، لقد بيَّن القرآن الكريم أهمية الرشد وأثره في حياة الأفراد والمجتمعات، وجعل من أعظم دلالاته والوصول إليه والحفاظ عليه، تنمية الإيمان بالله والحفاظ عليه، وطلب العون والسداد منه سبحانه، قال تعالى:  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}  [النساء: 136]، وقال تعالى:  {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}  [البقرة: 186].

 

وبيَّن سبحانه وتعالى أن الإيمان عندما تتزين به القلوب، فإن ذلك سبيل إلى الرشد والرشاد، قال تعالى:  {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}  [الحجرات: 7، 8].

 

وصلاح النفس وتربيتها وتزكيتها بالقيم والأخلاق والمثل العليا سبيل الرشد وطريقه، وعكس ذلك الغي والضلال، قال تعالى:  {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}  [الأعراف: 146]، إن المظاهر لا تغني من الحق شيئًا؛ لذلك قد تجد الرجل الكبير والشاب القوي، وصاحب الشهادة وقد تجد صاحب الجاه والمكانة، وقد تجد ذلك الإعلامي والسياسي وغيرهم، لم تشفع لهم مكانتُهم أن يقولوا رشدًا ويعملوا رشدًا، فينفعوا أوطانهم ومجتمعاتهم وأُمَّتهم؛ لأنهم لم يتخذوا طريق الرشد سبيلًا؛ بل كانت نفوسُهم وحظوظُهم الشخصية وعدم إدراكهم لواجباتهم تقودهم في كثير من الأحيان إلى سبيل الغي، فتحل الكوارث والمشاكل، وتتأجَّج الفتن والصراعات، وقد تُسفك الدماء، وتُدمَّر الأوطان، ويهلك الحرث والنسل؛ لذلك لما رأى نبي الله لوط عليه السلام قومه وإصرارهم على المنكر، قال لهم:  {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}  [هود: 78]، أليس منكم رجل عنده تقوى أو أثر من خلق ومروءة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فكانت النتيجة أنْ دَمَّر الله تلك القرى، قال تعالى:  {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}  [هود: 82]؛ لأن الرشد كله خير في البيت والمجتمع والقبيلة والدولة، وهو صمام أمان لتجاوُز المحن والعقبات والفتن والابتلاءات، وإذا ما غاب وتلاشى، ظهرت أمراض كثيرة ومشاكل عديدة واختلافات كثيرة.

 

عبــــاد الله، إننا بحاجة إلى الرشد في جميع أمور حياتنا؛ رشد في الإيمان والالتزام بأحكام الدين، ورشد في السلوك والمعاملات، ورشد في الأقوال والأفعال والنيَّات، ورشد في العلم والعمل؛ لذا كان يدعو صلى الله عليه وسلم ربَّه، يطلب الرشد والعزيمة عليه، عن شَدَّاد بْن أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ»؛ (السلسلة الصحيحة).

 

«وَأَسْأَلُك عَزِيمَةَ الرُّشْدِ»: هِيَ الْجِدُّ فِي الْأَمْرِ بِحَيْثُ يُنْجَزُ كُلُّ مَا هُوَ رُشْدٌ مِنْ أُمُورِهِ، وَالرُّشْدُ هُوَ الصَّلَاحُ وَالْفَلَاحُ وَالصَّوَابُ.

 

إننا نعيش في هذه الدنيا وفي هذا الزمان وكأننا في كهف مظلم بسبب الذنوب والمعاصي والحروب والفتن والصراعات والأمراض والأوبئة والكوارث والمصائب  {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}  [الروم: 41]، ولا نجاة لنا إلا بأن يهيِّئ الله لنا من أمرنا رشدًا، إذا تُبْنا إليه، ولجأنا إليه، وطهرت نفوسنا، واستقامت أحوالنا، وليس ذلك ببعيد ولا عسير، فما أيسره! توبة صادقة وعمل صالح ((اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ، وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ!

أيها المسلمون، من علامات الرشد في الفرد المسلم والمجتمع المسلم، التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، قال تعالى:  {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}  [العصر: 1 - 3]، ومن ذلك القول الحسن والتثبت من الأقوال وعدم التسرع والعجلة، قال تعالى:  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}  [الحجرات: 6]، ومن ذلك المسارعة إلى الخيرات، قال تعالى:  {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}  [المائدة: 48] ووصف الله عباده بقوله:  {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}  [الأنبياء: 90]، ووضع الأمور في نصابها، والتصرف وفق المصلحة، وبذل المعروف وكفّ الأذى، والتعاون على البر والتقوى، ونشر الأخوة والمحبة في المجتمع وتقديم النفع؛ من علامات الرشد، وكثرة الدعاء وطلب الرشد من الله توفيق ورحمة، فقد كان صلى الله عليه وسلم سأل الله الرشد، ومن ذلك قوله: «اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي»!؛ (رواه الترمذي وصححه الحاكم).

 

هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ:  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}  [الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وانصر عبادك الموحدين، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

______________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري