احفظ الله يحفظك

فمن الحقائق الثابتة أن المسلم إذا حافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى، ونواهيه، حفِظه الله تعالى في الدنيا والآخرة

  • التصنيفات: نصائح ومواعظ -

الـحمد لله رب العالـمين، والصلاة والسلام على نبينا مـحمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لـهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فمن الحقائق الثابتة أن المسلم إذا حافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى، ونواهيه، حفِظه الله تعالى في الدنيا والآخرة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:

روى الترمذي عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ((كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلامُ، إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يـحفظك، احفظ الله تـجده تـجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لـم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لـم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّتِ الصُّحُف»؛ (حديث صحيح، صحيح سنن الترمذي، للألباني، حديث: 2043).

 

منزلة الوصية النبوية:

هذا الـحديث الشريف وصية مباركة من وصايا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضمن قواعد عامة من أهم أمور العقيدة الإسلامية المباركة.

 

* قال بعض الصالحين: إذا أردت أن توصي صاحبك، أو أخاك، أو ابنك، فقل له: (احفظ الله يحفظك)؛ فإن الله سبحانه وتعالى يحفظ أولياءه الصالحين، في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي أموالهم، وفي جوارحهم، وفي أعراضهم، ويحفظهم من أعدائهم، في كل مكان وزمان؛ [فصل الخطاب في الزهد، محمد عويضة، ج: 1، ص: 796].

 

الحافظ والحفيظ من أسماء الله الحسنى:

الحفظ معناه: صون الشيء من الزوال، والـحفيظ مبالغة من حافظ؛ قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21]، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، والـحافظ والـحفيظ: هو الـموكَّل بالشيء يحفظه، يُقال: والـحفظة: هم الملائكة الذين يُحصون أعمال العباد ويكتبونها؛ قال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]؛ [أسماء الله الحسنى، عمر الأشقر، ص: 159].

 

قال ابن منظور رحمه الله: "الحفيظ: من صفات الله عز وجل، لا يعزب عن حفظه الأشياء كلها مثقال ذرة في السماوات والأرض، وقد حفِظ على خلقه وعباده ما يعملون من خير أو شر، وقد حفظ السماوات والأرض بقدرته"؛ [لسان العرب، لابن منظور، ج: 7، ص: 441].

 

كيف نحفظ الله تعالى؟

- قوله: (احفظ الله) يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذِن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه؛ قال عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33]، وفُسِّر الحفيظ ها هنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها؛ [جامع العلوم، لابن رجب، ج: 1، ص: 462].

 

المحافظة على الصلاة:

إن من أعظم ما يجب على المسلم حفظُه من أوامر الله تعالى إقامةَ الصلاة، وقد أمرنا الله تعالى بالمحافظة عليها؛ فقال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ومدح الله تعالى المحافظين على الصلاة بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34].

 

روى الشيخان عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»؛ (البخاري، حديث: 8، مسلم، حديث: 16).

 

- روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إن أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة من عملِهِ صلاتُه، فإن صلَحت، فقد أفلح وأنْجَحَ، وإن فسَدت فقد خاب وخسِر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك»؛ (حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني، حديث: 337).

 

الأمر بالمحافظة على الصلاة كان آخرَ وصية للنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته:

- روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ، الصلاةَ، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم))؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود للألباني، حديث: 4295).

 

حفظ اللسان عن المحرَّمات:

يجب على المسلم أن يحفظ لسانه عن كل ما يُغضب اللهَ تعالى؛ كالغِيبة والنميمة، والكذب وشهادة الزور، وغيرها من آفات اللسان.

 

قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].

 

قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال سبحانه: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].

 

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت»؛ (البخاري حديث: 6018، مسلم حديث: 47).

 

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إن العبد لَيتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد لَيتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يَهوِي بها في جهنم»؛ (البخاري، حديث: 6478).

 

روى الترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمْسِكْ عليك لسانك، ولْيَسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك»؛ (حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 1961).

 

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «أتدرون ما الغِيبة» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذِكرُك أخاك بما يكره» ، قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه»؛ (مسلم، حديث: 5289).

 

روى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «لما عُرِج بي، مررت بقوم لهم أظفار من نُحاس، يخمُشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل» ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم))؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود للألباني، حديث: 4778).

 

روى الشيخان عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  «لا يدخل الجنة نمَّام»؛ (البخاري حديث: 6056، مسلم حديث: 105).

 

النميمة: هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، والنمَّام هو من ينقل الحديث بين الناس على جهة الإفساد بينهم؛ [الكبائر، للذهبي، ص: 179].

 

روى الشيخان عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إ «ن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيكذبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا»؛ (البخاري، حديث: 6094، مسلم، حديث: 2607).

 

حفظ السمع عن الحرام:

قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

 

يجب على المسلم أن يحافظ على نعمة السمع التي وهبها الله تعالى له، فلا يستمع إلى الغناء الماجن الذي يثير الشهوات بين الرجال والنساء، ويجب عليه أن يتجنب الاستماع إلى الغيبة والنميمة، والخوض في أعراض الناس؛ فإن الله تعالى سوف يسأله عن نعمة السمع يوم القيامة: فيم استخدمها؟ ويجب عليه أن يحرص على استخدام نعمة السمع فيما يفيده في أمور الدين والدنيا؛ كالاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم، ودروس العلم النافع من علماء أهل السنة الموثوق بعلمهم، الذين يتقون الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم.

 

حفظ البصر عن المحرَّمات:

قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].

 

روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إياكم والجلوسَ على الطرقات» ، فقالوا: ما لنا بدٌّ، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: « فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطُوا الطريق حقَّها» ، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر»؛ (البخاري، حديث: 2465، مسلم، حديث: 2121).

 

روى أبو داود عن جرير رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفَجْأَةِ؟ فقال: «اصرف بصرك»؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود، للألباني، حديث: 1880).

 

حفظ البطن عن الحرام:

قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

 

- (الباطل): اسم جامع لكل ما لا يحل في الشرع؛ كالربا، والغصب، والسرقة، والخيانة، والرِّشوة، وكل محرَّم جاء الشرع به.

 

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

 

قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6].

 

- روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «لَيأتينَّ على الناس زمان، لا يبالي المرء بما أخذ المال؛ أمن حلال أم من حرام»؛ (البخاري، حديث: 2083).

 

- روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يأخذ مالًا بحقه يُبارَك له فيه، ومن يأخذ مالًا بغير حقه، فمَثَلُه كمَثَلِ الذي يأكل ولا يشبع))؛ [مسلم، حديث: 1052].

 

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرضه»؛ (مسلم، حديث: 2564).

 

حفظ الفَرْجِ عن الفاحشة:

إن من أعظم ما يجب على المسلم حفظه من نواهي الله عز وجل حفظَ الفَرْجِ؛ قال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

 

- روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «من يضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رجليه، أضمن له الجنة»؛ (البخاري، حديث: 6474).

 

- قوله: (يضمن): يحفظه.

 

- قوله: (ما بين لَحْيَيه): لسانه، ولحييه: مثنى لَحْي؛ وهو العظم في جانب الفم.

 

- قوله: (وما بين رجليه): فَرْجه.

 

الجزاء من جنس العمل:

- قوله: (يحفظك)؛ قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "يعني: أن من حفِظ حدود الله، وراعى حقوقه، حفظه الله؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]))؛ (جامع العلوم لابن رجب، ج: 1، ص: 465).

 

حفظ الله لجوارح العبد الصالح:

قال ابن رجب الحنبلي: "من حفظ الله في صباه وقوته، حفظه الله في حال كِبَرِه وضعف قوته، ومتَّعه بسمعه وبصره، وحَولِه وقوته وعقله"؛ (جامع العلوم، لابن رجب، ج: 1، ص: 465).

 

قال هشام بن عروة بن الزبير: "بلغت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مائة سنة، ولم يسقط لها سنٌّ، ولم يُنكَر من عقلها شيء"؛ (تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، ج: 2، ص: 329).

 

قال ابن رجب الحنبلي: "كان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بعقله وقوته، فوثب يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعُوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفِظناها عن المعاصي في الصغر، فحفِظها الله علينا في الكِبَرِ"؛ (مجموع رسائل ابن رجب، ج: 3، ص: 100).

 

حفظ الله لأولاد العبد الصالح:

قال سبحانه: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].

 

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82] فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقَرَّ عينه بهم"؛ (تفسير ابن كثير، ج: 5، ص: 186).

 

- قال سعيد بن المسيب رحمه الله لابنه: "لَأزيدنَّ في صلاتي من أجلك؛ رجاءَ أن أُحفظَ فيك، ثم تلا هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]".

 

- قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "ما من مؤمن يموت إلا حفِظه الله في عَقِبِه وعَقِبِ عقبه"؛ يعني: أولاده وأولاد أولاده.

 

- قال محمد بن المنكدر رحمه الله: "إن الله لَيحفظ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده، والدُّويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر"؛ [تفسير القرآن، لابن رجب، ج: 1، ص: 576].

 

- قال مطرف بن عبدالله رحمه الله: سمعت مالك بن أنس رحمه الله يقول: "قلما كان رجلٌ صادقًا لا يكذب، إلا مُتِّع بعقله، ولم يُصِبْه ما يصيب غيره من الهَرَمِ والخَرَفِ"؛ (تفسير القرطبي، ج: 8، ص: 288).

 

الدعاء بالحفظ في الدنيا والآخرة:

يجب على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء لكي يحفظه سبحانه في أمور دينه ودنياه؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

 

- قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

 

- قال جل شأنه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

 

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  «إذا جاء أحدكم فراشه، فلينفُضْهُ بصِنْفَةِ -طرف- ثوبه ثلاثَ مرات، وليقل: باسمك ربِّ وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فاغفر لها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»؛ (البخاري، حديث: 7393).

 

روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاء الدعواتِ، حين يمسي، وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي»؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود، للألباني، حديث: 4239).

 

الله تعالى مع عباده الصالحين:

- قوله: (تجده تجاهك) معناه: أنَّ مَن حفِظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل أحواله حيث توجَّه، يحُوطه وينصره ويحفظه، ويوفِّقه ويُسدِّده؛ قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

 

- قال قتادة بن دعامة رحمه الله: "من يتَّقِ الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضِلُّ"؛ (حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، ج: 2، ص: 339).

 

هذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقول موسى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهما في الغار:  «ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما» ؟.

 

هذه هي المعية الخاصة التي تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة، بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وقوله: {وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم، فهي مقتضية لتخويف العباد منه، والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطته ونصره، فمن حفِظ الله، وراعى حقوقه، وجده أمامه وتجاهه على كل حال، فاستأنس به، واستغنى به عن خلقه؛ (جامع العلوم، لابن رجب، ج: 1، ص: 471).

 

الدعاء طريق الحفظ والأرزاق:

قوله: (إذا سألت فاسأل الله): أي: فاسأل الله وحده؛ فإن خزائن العطايا عنده، ومفاتيح المواهب والمزايا بيده، وكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أُخروية، فإنها تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمته من غير شائبة عرض؛ لأنه الجواد المطلق، والغنيُّ الذي لا يفتقر، فينبغي ألَّا يُرجى إلا رحمته، ولا يُخشى إلا نقمته، ويُلتجأ في عظائم المهام إليه، ويُعتمد في جمهور الأمور عليه، ولا يُسأل غيره؛ لأن غيره غيرُ قادر على العطاء والمنع، ودفع الضر وجلب النفع، فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، ولا يُترك السؤال بلسان الحال أو ببيان المقال في جميع الأحوال؛ إذ السؤال إظهار شعائر الانكسار، والإقرار بسمت العجز والافتقار، والإفلاس عن ذروة القوة والطاقة إلى حضيض الاستكانة والفاقة.

 

قال الشاعر:

الله يغضب إن تركت سؤاله   ***   وبُنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ 

 

- قوله: (وإذا استعنت فاستعن بالله): أي: وإذا أردت الاستعانة في الطاعة وغيرها من أمور الدنيا والآخرة، فاستعن بالله تعالى؛ فإنه المستعان، وعليه التكلان في كل زمان ومكان؛ [مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 8، ص: 2333].

 

إرادة الله تعالى هي الغالبة:

- قوله: (أن الأمة): أي: جميع الخلق من الخاصة والعامة، والأنبياء والأولياء وسائر الأمة.

 

- قوله: (على أن ينفعوك بشيء): أي: في أمر دينك أو دنياك.

 

- قوله: (لم ينفعوك): أي: لم يقدروا أن ينفعوك.

 

- قوله: (إلا بشيء قد كتبه الله لك): أي: قدَّره، وأثبته في الذكر وفرغ منه، وقد أذِنهم في ذلك.

 

- قوله: (يضروك بشيء): أي: من سلب نفع أو جلب ضر.

 

- قوله: (لم يضروك): أي: لم يقدروا أن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك.

 

- قوله: (رُفِعت الأقلام): أي: من كتابة الأحكام.

 

- قوله: (وجفت الصحف): أي: نشفت ما دوِّن فيها من أقضية المخلوقين إلى يوم القيامة، فلا يُوضَع عليها قلمٌ بعدُ بتدوين شيء، وتغيير أمر، وخلاصته أنه كتب في اللوح المحفوظ ما كتب من التقديرات، ولا يُكتَب بعد الفراغ منه شيء آخر، فعبَّر عن سبق القضاء والقدر برفع القلم، وجفاف الصحيفة تشبيهًا بفراغ الكاتب في الشاهد من كتابته؛ [مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 8، ص: 2433].

 

فائدة مهمة:

قال الإمام علي الهروي رحمه الله: "لا يُقال: هذا ينافي قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]؛ لأنَّا نقول: المحو والإثبات أيضًا مما جفَّت الصحف؛ لأن القضاء قسمان: مُبرَم ومُعلَّق، وهذا بالنسبة إلى اللوح المحفوظ، وأما بالإضافة إلى علم الله، فلا تبديل ولا تغيير، ولهذا قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، وقيل: عند الله كتابان؛ اللوح، وهو الذي لا يتغير، والذي يكتبه الْمَلَكُ على الخلق، وهو محل المحو والإثبات"؛ (مرقاة المفاتيح، علي الهروي، ج: 8، ص: 2433).

 

حفظ الله لعباده الصالحين يوم القيامة:

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].

 

قال ثابت البناني رحمه الله: بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله من قبره، يتلقَّاه الْمَلَكان اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخَفْ ولا تحزن، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، قال: فيؤمن الله خوفه، ويُقِر عينه، فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين؛ لِما هداه الله، ولِما كان يعمل له في الدنيا، وقال زيد بن أسلم رحمه الله: يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يُبعَث؛ (تفسير ابن كثير، ج: 7، ص: 177).

 

أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به طلاب العلم الكرام.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

_____________________________________________________
الكاتب: الشيخ صلاح نجيب الدق