التحذير عما يشغل عن ذكر الله (خطبة )
وإنما يتوجَّه النهي والذم والهلاك لمن أشغلته تِجارته عن ذِكْر الله - جل وعلا - وأما الذي لم يشغله، فهو ممدوح
- التصنيفات: الذكر والدعاء -
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله الذي بذكره تطمئنُّ القلوب، سبحانه هو القائل: { ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾} [الرعد: 28]، وأشهد أن لا إله إلا الله أمرَنا بالمداومة على ذِكْره، وقرَن ذِكرَه بشكره، فقال: {﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾} [البقرة: 152]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير مَن حمد الله وهلَّله وكبَّره، وقال في حديث السبعة الذين يُظِلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: (( «ورجل ذكَر الله خاليًا، ففاضت عيناه» ))، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، أعدَّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا.
أما بعد: فيا عباد الله:
يقول الله تعالى: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾} [المنافقون: 9].
أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كلَّ مَن سارتْ قدماه إلى المسجد وتوجَّه لمناجاة الله تعالى، يعلم أن هذه الآية من عند الله، وأنها من جملة القرآن الذي أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجب الإيمان به كلِّه، فمن كفَر بآية من آياته، فكأنما كفَر به كله؛ {﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ } [البقرة: 85]،أما علِمتم ما جزاء هذا؟! {﴿ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾} [البقرة: 85]، وإن الله - سبحانه وتعالى - لم يَغفُل عن عملِ الكافر {﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾} [البقرة: 85]، وما علِم أنه بعمله اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، وبئس مَن باع آخرتَه بدنياه: { ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾} [البقرة: 86]، وما عَلِم هذا أن حظَّه العذاب الثقيل، وأنه لا يُنصَر في الدنيا: {﴿ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾} [البقرة: 86]، وحينئذٍ نرجع إلى الآية السابقة، قوله تعالى: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾} [المنافقون: 9]، فأول نظرة في هذه الآية نقول: ممن هذا النداء؟ ولمن وُجِّه؟ فنجده من الله - عز وجل - إلى عباده المؤمنين، وإذًا لا بد أن تعرف الغرضَ مَن هذا النداء بهذا الوصف، هو: تذكيرهم بما يَحمِل على الامتثال لله رب العالمين، والنظرة الأخرى: ماذا بعَد هذا النداء؟ هو نهيهم عن مُنْكَر عظيم، في ارتكابه خسارتهم وهلاكهم، وفي اجتنابه سعادتهم وفلاحهم: {﴿ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾} [المنافقون: 9]، ولنتساءل عن المراد بذِكْر الله؟ فنجده طاعتَه بجميع أنواعها؛ من إيمان به، ومن صلاة، وتلاوة قرآن، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، واستحضار لعظمته وقُدْرته، فإذا عرَفنا المرادَ بذِكر الله تعالى، فلنعرف ما شغَلنا عنه؛ لنَجتنِبه ونتباعد عنه، وهو: الاشتغال والالتهاء بالأموال والأولاد، واشكر - أخي المسلم - نعمةَ الله الذي لم ينهنا عما لم يكن في وُسْعنا ترْكه، وهو أصل محبَّة المال والولد، فإن هذا أمر طَبْعي لا يستطيع الإنسان أن يتخلَّص منه؛ {﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾} [آل عمران: 92]، وقوله تعالى: {﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8]، وقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾} [آل عمران: 14].
وإنما يتوجَّه النهي والذم والهلاك لمن أشغلته تِجارته عن ذِكْر الله - جل وعلا - وأما الذي لم يشغله، فهو ممدوح وفِعْله محمود؛ { ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾} [النور: 36، 37].
وإن المال لمن نِعَم الله تعالى إذا استُعمِل في طاعته، وفي الإعانة على ذِكْره وشكره، وإنه لنقمة على صاحبه إذا صُرِف في معصيته.
أيها المسلمون، هل تعرِفون ما قبل هذه الآية؟ {﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾} [المنافقون: 7].
ومن القائلون؟
هم: المنافقون الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتغلين بأموالهم وأولادهم، فالنهي في قوله تعالى: {﴿ لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ﴾} [المنافقون: 9]،للمؤمنين بألا يفعلوا فِعْلَهم، فالجدير بالمؤمن أن يجعل لتجارته أوقاتًا، ولأولاده أوقاتًا، ولإشرافه على عمرانه واكتساب معيشته أوقاتًا، ولتُصاحِبه النيَّة الخالصة بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وأن المال والبنين زينةُ الحياة الدنيا، ومع ذلك قد يكونان أعداء للشخص، لا لِذَاتِهما؛ وإنما هما سببان في الحيلولة بين الشخص والطاعة؛ لهذا وصَف الله تعالى بعضهم بالعداوة؛ فقال: {﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ ﴾} [التغابن: 14]، فوصفهم الله تعالى بالعداوة إذا هم صدُّوه عن طاعة الله، كما وصف الشيطان بها بقوله: {﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾} [فاطر: 6]، وعداوة الشيطان إما بالمباشرة كالوسوسة، أو بواسطة أعوانه من الإنس كالزوجة والولد وقرناء السوء { ﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ ﴾} [فصلت: 25]، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « ((إن الشيطان قَعَد لابن آدم في طريق الإيمان، فقال له: أتؤمن وتترك دينَ آبائك؟ فخالَفه فآمَن، ثم قعد له في طريق الهجرة، فقال له: أتُهاجِر وتترك أهلك ومالك؟ فخالَفه فهاجَر، ثم قعد له في طريق الجهاد، فقال له: أتُجاهِد وتقتل نفسك، فتُنْكَح نساؤك، ويُقسم مالك؟ فخالَفه فجاهَد فقُتِل، فحق على الله أن يدخله الجنة))» .
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا ما يَشغَلكم عن ذِكْر الله وطاعته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾} [الصف: 10، 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.