الفرح بالقرآن
محمد الطاهر بن عاشور
اقتباس من تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور من موقع الباحث القرآني
- التصنيفات: التفسير -
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هو خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ سورة يونس الآية 58
يَتَفَرَّعُ عَلى كَوْنِ القُرْآنِ هُدًى ورَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ تَنْبِيهُهم إلى أنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ورَحْمَةٌ بِهِمْ يَحِقُّ لَهم أنْ يَفْرَحُوا بِهِما، وأنْ يُقَدِّرُوا قَدْرَ نِعْمَتِهِما، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّها نِعْمَةٌ تَفُوقُ نِعْمَةَ المالِ الَّتِي حُرِمَ مِنها أكْثَرُ المُؤْمِنِينَ ومُنِحَها أكْثَرُ المُشْرِكِينَ، فَكانَتِ الجُمْلَةُ حَقِيقَةً بِأنْ تُفْتَتَحَ بِفاءِ التَّفْرِيعِ.
وجِيءَ بِالأمْرِ بِالقَوْلِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الجُمْلَةِ المُفَرَّعَةِ والجُمْلَةِ المُفَرَّعِ عَلَيْها تَنْوِيهًا بِالجُمْلَةِ المُفَرَّعَةِ، بِحَيْثُ يُؤْمَرُ الرَّسُولُ أمْرًا خاصًّا بِأنْ يَقُولَها وإنْ كانَ جَمِيعُ ما يُنَزَّلُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ مَأْمُورًا بِأنْ يَقُولَهُ.
وتَقْدِيرُ نَظْمِ الكَلامِ: قُلْ لَهم فَلْيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ بِذَلِكَ لِيَفْرَحُوا.
فالفاءُ في قَوْلِهِ: فَلْيَفْرَحُوا فاءُ التَّفْرِيعِ، وبِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ مَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ ”فَلْيَفْرَحُوا“ قُدِّمَ عَلى مُتَعَلَّقِهِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ ولِإفادَةِ القَصْرِ، أيْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ دُونَ ما سِواهُ مِمّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾، فَهو قَصْرُ قَلْبٍ تَعْرِيضِيٌّ بِالرَّدِّ عَلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ ابْتَهَجُوا بِعَرَضِ المالِ فَقالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ أمْوالًا وأوْلادًا.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ: فَبِذَلِكَ لِلْمَذْكُورِ، وهو مَجْمُوعُ الفَضْلِ والرَّحْمَةِ، واخْتِيرَ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهُ اسْمُ الإشارَةِ لِما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى التَّنْوِيهِ والتَّعْظِيمِ مَعَ زِيادَةِ التَّمْيِيزِ والِاخْتِصارِ. ولَمّا قَصَدَ تَوْكِيدَ الجُمْلَةِ كُلَّها بِما فِيها مِن صِيغَةِ القَصْرِ قَرَنَ اسْمَ الإشارَةِ بِالفاءِ تَأْكِيدًا لِفاءِ التَّفْرِيعِ الَّتِي في فَلْيَفْرَحُوا لِأنَّهُ لَمّا قُدِّمَ عَلى مُتَعَلَّقِهِ قُرِنَ بِالفاءِ لِإظْهارِ التَّفْرِيعِ في ابْتِداءِ الجُمْلَةِ، وقَدْ حُذِفَ فِعْلُ ”لِيَفْرَحُوا“ فَصارَ مُفِيدًا مُفادَ جُمْلَتَيْنِ مُتَماثِلَتَيْنِ مَعَ إيجازٍ بَدِيعٍ. وتَقْدِيرُ مَعْنى الكَلامِ: قُلْ فَلْيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ لا سِواهُما فَلْيَفْرَحُوا بِذَلِكَ لا سِواهُ.
والفَرَحُ: شِدَّةُ السُّرُورِ.
ولَكَ أنْ تَجْعَلَ الكَلامَ اسْتِئْنافًا ناشِئًا مِمّا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلى المُؤْمِنِينَ بِالقُرْآنِ. ولَمّا قُدِّمَ المَجْرُورُ وهو ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ﴾ حَصَلَ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنى الشَّرْطِ فَقُرِنَتِ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ بِالفاءِ الَّتِي تَرْبُطُ الجَوابَ لِقَصْدِ إفادَةِ مَعْنى الشَّرْطِ. وهَذا كَثِيرٌ في الِاسْتِعْمالِ كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦]، وقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «فَفِيهِما فَجاهِدْ» . وقَوْلِهِ: «كَما تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكم» بِجَزْمِ (تَكُونُوا) وجَزْمِ (يُولَّ) . فالفاءُ في قَوْلِهِ: فَبِذَلِكَ رابِطَةٌ لِلْجَوابِ، والفاءُ في قَوْلِهِ: فَلْيَفْرَحُوا مُؤَكِّدَةٌ لِلرَّبْطِ.
ولَمْ يَخْتَلِفِ المُفَسِّرُونَ في أنَّ القُرْآنَ مُرادٌ مِن فَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ. وقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «فَضْلُ اللَّهِ القُرْآنُ ورَحْمَتُهُ أنْ جَعَلَكم مِن أهْلِهِ» (يَعْنِي أنْ هَداكم إلى اتِّباعِهِ) . ومِثْلُهُ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ والبَراءِ مَوْقُوفًا، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ فَإنَّ الفَضْلَ هو هِدايَةُ اللَّهِ الَّتِي في القُرْآنِ، والرَّحْمَةَ هي التَّوْفِيقُ إلى اتِّباعِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هي الرَّحْمَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ القَصْرِ المُسْتَفادِ مِن تَقْدِيمِ المَجْرُورَيْنِ. وأفْرَدَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ كَما أُفْرِدَ اسْمُ الإشارَةِ. والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اسْمِ الإشارَةِ، أيْ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ.
و(ما يَجْمَعُونَ) مُرادٌ بِهِ الأمْوالُ والمَكاسِبُ لِأنَّ فِعْلَ الجَمْعِ غَلَبَ في جَمْعِ المالِ. قالَ - تَعالى: ﴿الَّذِي جَمَعَ مالًا وعَدَّدَهُ﴾ [الهمزة: ٢] . ومِنَ المُعْتادِ أنَّ جامِعَ المالِ يَفْرَحُ بِجَمْعِهِ.
وضَمِيرُ يَجْمَعُونَ عائِدٌ إلى النّاسِ في قَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ﴾ [يونس: ٥٧] بِقَرِينَةِ السِّياقِ ولَيْسَ عائِدًا إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ يَفْرَحُوا فَإنَّ القَرائِنَ تَصْرِفُ الضَّمائِرَ المُتَشابِهَةَ إلى مَصارِفِها، كَقَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ:
عُدْنا ولَوْلا نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعُهم بِالمُسْلِمِينَ وأحْرَزُوا ما جَمَعُوا
ضَمِيرُ (أحْرَزُوا) عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ عادَ إلَيْهِمُ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: (جَمْعُهم) . وضَمِيرُ (جَمَعُوا) عائِدٌ إلى المُسْلِمِينَ، أيْ لَوْلا نَحْنُ لَغَنِمَ المُشْرِكُونَ ما جَمَعَهُ المُسْلِمُونَ مِنَ الغَنائِمِ، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿وعَمَرُوها أكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها﴾ [الروم: ٩] في سُورَةِ الرُّومِ.
وعَلى هَذا الوَجْهِ يَظْهَرُ مَعْنى القَصْرِ أتَمَّ الظُّهُورِ، وهو أيْضًا المُناسِبُ لِحالَةِ المُسْلِمِينَ وحالَةِ المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، فَإنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا في ضَعْفٍ لِأنَّ أكْثَرَهم مِن ضِعافِ القَوْمِ أوْ لِأنَّ أقارِبَهم مِنَ المُشْرِكِينَ تَسَلَّطُوا عَلى أمْوالِهِمْ ومَنَعُوهم حُقُوقَهم إلْجاءً لَهم إلى العَوْدِ إلى الكُفْرِ. وقَدْ وصَفَ اللَّهُ المُشْرِكِينَ بِالثَّرْوَةِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وذَرْنِي والمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾ [المزمل: ١١] وقالَ ﴿أنْ كانَ ذا مالٍ وبَنِينَ إذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ [القلم: ١٤] وقالَ ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ﴾ [آل عمران: ١٩٦]،