حقيقة الزهد في الدنيا
يجب على المسلم العاقل أن يعلم أن الحياة الدنيا ليست دارَ قرارٍ، وإنما هي قنطرة إلى الدار الباقية يوم القيامة؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهدَ الناس فيها.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الهدف الأسمى من العبادة هو الحصول على رضا الله تعالى في الدنيا ويوم القيامة؛ ولذلك ينبغي على المسلم أن يقلِّل من الاستمتاع بالأمور المباحة بقدر استطاعته؛ لينال السعادة في الدنيا ويوم القيامة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
تعريف الزهد:
الزهد: هو التقليل من ملذَّات الحياة الدنيا المباحة؛ رغبةً في ثواب الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
♦ روى ابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: ((أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل إذا أنا عمِلتُه، أحبَّني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يُحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»؛ (حديث صحيح، صحيح ابن ماجه للألباني، حديث: 3310).
♦ قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله): دليل على أن الزهد أعلى المقامات وأفضلها؛ لأنه جعله سببًا لمحبة الله تعالى، وأن مُحِبَّ الدنيا متعرِّض لبُغض الله تعالى؛ [الكاشف عن حقائق السنن للطيبي، ج: 10، ص: 3290].
♦ قوله: (وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس): أي: لا تتطلع لِما في أيدي الناس يحبك الناس، وهذا يتضمن ترك سؤال الناس؛ أي: لا تسأل الناس شيئًا؛ لأنك إذا سألت أثقلتَ عليهم؛ [شرح الأربعين النووية لابن عثيمين، ص: 319].
♦ روى ابن ماجه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فَقْرَه بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيَّتَه، جمع الله له أمره، وجعل غِناه في قلبه، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغمة»؛ (حديث حسن، صحيح ابن ماجه للألباني، حديث: 3313).
♦ قوله: (وهي راغمة)؛ أي: وهي مقهورة.
قال الإمام محمد عبدالهادي السندي رحمه الله: "إن ما كُتِبَ للعبد من الرزق يأتيه لا محالة، إلا أنه من طَلَبَ الآخرة يأتيه بلا تعبٍ، ومن طلب الدنيا يأتيه بتعب وشدة، فطالِبُ الآخرة قد جمع بين الدنيا والآخرة؛ فإن المطلوب من جمع المال الراحة في الدنيا، وقد حصلت لطالب الآخرة، وطالب الدنيا قد خسِرَ الدنيا والآخرة؛ لأنه في الدنيا في التعب الشديد في طلبها، فأي فائدة له في المال إذا فاتت الراحة"؛ [حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ج: 2، ص: 524].
فائدة تربوية مهمة:
الزهد في الدنيا لا يمنع المسلم من الاجتهاد والسعي في طلب الرزق الحلال، الزهد لا يمنع المسلم من الاجتهاد في تحصيل العلوم الدنيوية؛ كالطب والصيدلة والهندسة، وسائر العلوم الأخرى التي تساعد المسلم على تعمير الدنيا، وتجعله يعتمد على نفسه في جميع مجالات الحياة، وتجعله كذلك يمتلك الأسلحة العسكرية الحديثة التي تساعده في حماية بلاده والتصدي لأعدائه.
زهد نبيناصلى الله عليه وسلمفي الدنيا:
يجب على المسلم العاقل أن يعلم أن الحياة الدنيا ليست دارَ قرارٍ، وإنما هي قنطرة إلى الدار الباقية يوم القيامة؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهدَ الناس فيها.
(1) روى الشيخان عن عائشة أنها قالت: ((ما شبِع آلُ محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين، حتى قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ (البخاري حديث: 5416، مسلم حديث: 2970).
(2) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((تُوفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعير))؛ (البخاري حديث: 2916).
(3) روى البخاري عن عائشة قالت: ((كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدمٍ، وحشوه من ليف))؛ (البخاري حديث: 6456).
(4) روى مسلم عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان يخطب، قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال: ((لقد رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دَقَلًا - رديء التمر - يملأ به بطنه))؛ (مسلم حديث: 2978).
(5) روى البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما أكل آلُ محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر))؛ (البخاري حديث: 6455).
أقوال السلف الصالح في الزهد:
سوف نذكر بعض أقوال سلفنا الصالح في الزهد في الحياة الدنيا:
(1) كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "إنك لن تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا"؛ (المنهاج في شعب الإيمان، الحليمي، ج: 3، ص: 389).
(2) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "طوبى للزاهدين في الدنيا، والراغبين في الآخرة"؛ (شعب الإيمان للبيهقي، ج: 13، ص: 179).
(3) قال موسى بن عقبة: كتب أبو الدرداء رضي الله عنه إلى بعض إخوانه: "أوصيك بتقوى الله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله، فإنك إذا فعلت ذلك، أحبَّك الله لرغبتك فيما عنده، وأحبك الناس لتركك لهم دنياهم، والسلام"؛ (شعب الإيمان للبيهقي، ج: 13، ص: 198).
(4) قال أبو واقد الليثي رضي الله عنه: "تابعنا الأعمال أيها أفضل، فلم نجد شيئًا أعون على طلب الآخرة من الزهد في الدنيا"؛ (مصنف ابن أبي شيبة، ج: 7، ص: 116).
(5) قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا أزهده في الدنيا، وفقَّهه في الدين، وبصَّره عيوبه، ومن أُوتيهن فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة"؛ (المنهاج في شعب الإيمان، ج: 3، ص: 389).
(6) قال وهب بن منبه رحمه الله: "أعون الأخلاق على الدين الزهدُ في الدنيا"؛ (المنهاج في شعب الإيمان، الحليمي، ج: 3، ص: 389).
ثمرات الزهد في الدنيا:
نستطيع أن نوجز ثمرات الزهد في الأمور الآتية:
(1) الزهد فيه تمام التوكل على الله تعالى.
(2) الزهد يغرس في قلب المسلم القناعة.
(3) الزهد يصرف المسلم عن التعلق بالملذات الفانية إلى العمل من أجل النعيم المقيم في الجنة.
(4) الزهد فيه وقاية لنفس المسلم من الوقوع في الشهوات.
(5) المسلم الزاهد يحبه الله تعالى ويقرِّبه إليه.
(6) الزهد راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
(7) المسلم الزاهد يكسب حبَّ الناس له؛ حيث إنه لا يزاحمهم على دنياهم.
(8) الزهد فيه التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
(9) الزهد يحث النفس على حب الإنفاق في سبيل الله تعالى، وعدم التعلق بالدنيا.
(10) الزهد يُخرِج المسلم من عبودية الشيطان والدنيا والنفس؛ (موسوعة نضرة النعيم، ج: 7، ص: 3069).
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ويجعله في ميزان حسناتي يوم القيامة؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
_____________________________________
الكاتب: الشيخ صلاح نجيب الدق