كيف تستثمر لآخرتك؟
حريٌّ بالمسلم أن يعمل لآخرته، وأن يترك آثارًا حسنة لما بعد موته، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولأن آثار الإنسان تبقى بعده ويُجازى عليها
- التصنيفات: نصائح ومواعظ -
معاشر المؤمنين، كيف نستثمر لآخرتنا؟ فإنه حريٌّ بالمسلم أن يعمل لآخرته، وأن يترك آثارًا حسنة لما بعد موته، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولأن آثار الإنسان تبقى بعده ويُجازى عليها؛ قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
{وَآثَارَهُمْ}: هي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حياتهم وبعد وفاتهم، من الأعمال والأقوال والأحوال، فكيف تترك لك يا عبد الله أثرًا حسنًا بعد موتك؟
اعلم- أثابك الله- أن من تلك الآثار التي تبقَى للمرء بعد موته السُّنَنَ الحسنةَ التي يبادر إليها المسلم ويتحقق بها النفع للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أَجْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عليه مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ»؛ (صحيح ابن ماجه).
فليتفكَّر أولئك الذين يتصدرون مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام وريادة المجتمعات في هذا الحديث، فمن عمل حسنةً فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيد.
ومن الآثار الحسنة بعد الممات، عباد الله، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه: عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه، يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ»؛ (ابن ماجه - حسن).
قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 - 18].
ومن الأثر الحسن: غرسُ الغرس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلِمٍ يغرسُ غَرْسًا، أو يزرعُ زرعًا، فيأْكُلُ منْهُ طيرٌ أو إنسانٌ أو بَهيمةٌ إلَّا كانَ لَهُ بِهِ صدقةٌ» .
فهنيئًا لمن سبقوا بتلك الفضائل:
من شيَّدوا المساجد، وبنوا المدارس والمعاهد، ومن صنفوا العلوم النافعة، وشيَّدوا المواقع التقنية المفيدة، ومن حفروا الآبار، وشقوا القنوات والأنهار، ومن فتحوا البلدان والأمصار، فدخلت شعوبٌ الإسلام، ومنهم من فتحوا بلدانًا كانت عواصم للنصرانية والكفر فأصبحت عواصم للإسلام وللأمة، كما يسَّر الله للسلطان العثماني محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عاصمة المسيحية الشرقية لتصبح عاصمة الخلافة الإسلامية، تحقيقًا لبشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ، ولنِعمَ الأميرُ أميرُها، ولنعم الجيشُ ذلك الجيشُ»؛ (البخاري في التاريخ، والطبراني، وصححه الذهبي).
ومن الآثار الطيبةِ الحسنةِ: النصحُ الأمين لوزراء الصدق في هذه الأمة للحكَّام، ومن أعظمهم أثرًا الوزيرُ الناصحُ الصالح: رجاء بن حيوة رحمه الله، وذلك عندما اقترب أجلُ الخليفةِ سليمان بن عبدالملك، فاستشار رجاءً: من يولي بعده؟ فأشار عليه بعمر بن عبدالعزيز، وكانت مشورة خيرٍ ونصح؛ فقد كانت خلافة راشدة كخلافة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، عمَّ فيها العدل وكُبت الظلم، وانتشر خلالها الأمن، وتنزَّلت البركات، وكانت فترة مضيئةً في تاريخ الأمة، فسنَّ رجاءٌ في هذا النصح بابًا للوزراء والمستشارين ليتركوا بعدهم أثرًا حسنًا تتعاظم به أجورهم.
ولم تقتصر تلك الآثار الحسنة، عباد الله، على القادة والأمراء والوزراء؛ بل كان للتجار المسلمين آثارٌ جليلةٌ عظيمةٌ في دخول شعوبٍ عديدة في الإسلام؛ لِما رأوا من أمانتهم وطيب أخلاقهم؛ كأندونيسيا التي تضم اليوم أكبر الشعوب المسلمة، فلكم عباد الله أن تتأملوا كم نال أولئك التجار المسلمون من الأجور والثواب طوال قرون تَتْرى إلى يومنا هذا.
ولم تقتصر الآثارُ الحسنةُ على ذوي المال والقيادة والقوة، بل ترك أناس من عامة المسلمين آثارًا جليلةً بتمسُّكهم بدينهم وطيب أخلاقهم، حين أسلم على أيديهم ساسةٌ وعلماءُ وأدباء من الشرق والغرب، فانقلبوا، بفضل الله ثم بمعاشرة أولئك، إلى دعاةٍ ينافحون عن الإسلام، ويدعون إليه.
معاشر المؤمنين، ومن الآثار الحسنة: الأوقاف التي سَنَّها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وتسابق الصحابة الكرام إليها، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان قد أصابَ أرْضًا بخَيْبَرَ، فأتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فيها، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبْتُ أرْضًا بخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مالًا قَطُّ أنْفَسَ عِندِي منه، فَما تَأْمُرُ بهِ؟ قالَ: «إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَها، وتَصَدَّقْتَ بها»، قالَ: فَتَصَدَّقَ بها عُمَرُ، أنَّه لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، وتَصَدَّقَ بها في الفُقَراءِ، وفي القُرْبَى، وفي الرِّقابِ، وفي سَبيلِ اللَّهِ، وابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيْفِ، لا جُناحَ علَى مَن ولِيَها أنْ يَأْكُلَ مِنْها بالمَعروفِ، ويُطْعَمَ غيرَ مُتَمَوِّلٍ.
ومنها أوقاف عثمان بن عفان رضي الله عنه التي ما زال ريعُها إلى اليوم في المدينة المنورة.
أما أوَّلُ من أوقف فهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي أوقف بساتين مخيريق اليهودي الذي أسلم وكان عالمًا من علماء اليهود، صدَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم حتى إذا كانت غزوة أُحُد، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وكان قد أوصى إن قُتل فأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها بما أراه الله، فقاتل مع المسلمين حتى قُتِل، فآلت أمواله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سبعَ حوائط - أي بساتين - فجعلها صدقة، قال السهيلي: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق وكانت سبع حوائط، أوقافًا بالمدينة لله.
وما زالت تلك البساتين تُنتج ثمارها إلى اليوم، إيذانًا باستدامةِ الخير والثواب لصاحبها.
وصدق الشاعر حين قال:
دقَّاتُ قلبِ المرء قائلة لــــــــــه ** إن الحياة دقائق وثوانـي
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ** فالذكر للإنسان عمر ثانـي
________________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي