من وجوه إعجاز القرآن الكريم نزوله باللفظ العربي

محمد سيد حسين عبد الواحد

{ هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ}

  • التصنيفات: القرآن وعلومه -


ورد في صحيح مسلم من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:   ««إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنانَةَ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا مِن كِنانَةَ، واصْطَفَى مِن قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصْطَفانِي مِن بَنِي هاشِمٍ» »

نَسبُ النَّبيِّ محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو أشرَفِ أنسابِ بَني آدمَ، وقدْ حَفِظ اللهُ سُبحانه هذا النَّسبَ الشَّريفَ جِيلًا بعْدَ جِيلٍ، حتَّى جاء منه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هِدايةً للعالَمِين، وقدْ بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتحدث عن ذلكَ ليعرف النَّاسُ قدر قُرَيش وبَني هاشمٍ الَّذين هُم صُلبُ نَسبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. 

أحسب أنه من المفاخر للمسلمين العرب أن الله سبحانه وتعالى اصطفى منهم واختار من بينهم النبي الخاتم سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلّم.. 

فهو النبي الأمي نسبة إلى أم القرى مكة،  ونسبة إلى قريش القبيلة العربية التي لم يأتها نبي منها إلا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: 
﴿ { هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ} ﴾

ومن بين مفاخر المسلمين العرب أن الله تعالى كما اصفي منهم وكما اختار من بينهم خاتم النبيين، اصفى الحكيم العليم لغة العرب فجعلها قوالب للسور العظيمات، وللآيات البينات من القرآن الكريم المنزل على إمام المرسلين ذلك أن لغة العرب هي أوسع لغات الأرض وهي الأفصح والأبلغ بين لغات البشر قال الله تعالى:  {﴿ وَإِنَّهُۥ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾﴿ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ ﴾﴿ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ ﴾﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ ﴾}

يذكر أصحاب السير أنه كان بمكة رجل يقال له (يعيش) وكان أعجمياً لا يعرف من لغة العرب إلا يسيراً.. 

وكان لذلك الأعجمي داراً عند جبل الصفا،  وكان ذلك االأعجمي يبيع بعض المتاع أمام داره  .. 
وكان (يعيش) هذا صديقاً للنبي عليه الصلاة والسلام،  فكان رسول الله يزوره ويجلس إليه ويكلمه،  وكان المشركون يرون رسول الله يدخل عليه ويخرج من عنده.. 
وكان (يعيش) نصرانياً يقرأ التوراة والإنجيل فلما أوحي الله تعالى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم بهذا القرآن قالت قريش إنما يعلمه بشر يقصدون أن الذي علمه القرآن وأملاه عليه هو (يعيش) فأنزل الله تعالى قوله:  {﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ ﴾}

أحد أقوي دلائل صدق النبي عليه الصلاة والسلام أن القرآن أنزل بلغة العرب بأصالتها وجمالها وذوقها وإبداعها وقوتها وسعتها وبيانها وشمولها ووفرة ألفاظها وفصاحتها وبلاغتها.. 

أحد أقوي دلائل إعجاز القرآن الكريم نزوله باللسان العربي على نبي عربي في أمة عربية كذبت وعاندت وكفرت،  لكنه لما تحداها الرسول بهذا القرآن الذي أنزل بلغتهم.. 

عجزوا أولاً عن الإتيان بمثله.. 
قال الله تعالى { ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُۥ ۚ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ﴾﴿ فَلْيَأْتُوا۟ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِۦٓ إِن كَانُوا۟ صَٰدِقِينَ ﴾}

ثم عجزوا ثانياً عن الإتيان بعشر سور من مثله قال الله تعالى {﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا۟ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِۦ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُوا۟ مَنِ ٱسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾}

ثم عجزوا ثالثاً عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه كما في الآية : { ﴿ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا۟ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا۟ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴾}

ثم إن القرآن الكريم بلفظه ومعناه ما زال ولم يزل متحدياً الجميع أن يأتوا بمثل القرآن أو يعارضوه.. 

ثم إن دائرة التحدي تتسع وتتسع لتشمل الثقلين الإنس والجن على حد سواء..
 قال الله تعالى: {﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُوا۟ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾}

ورد أن هذه الآية نزلت رداً على قريش يوم قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن فقالوا {﴿قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَآ ۙ إِنْ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ﴾}

فلما قالوا ما قالوا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يجدد التحدي وأن يبق الباب مفتوحاً إلى يوم القيامة ونزلت الآية :   {﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُوا۟ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾}

وقف أرباب اللغة وفحول البلاغة والبيان أما اللغة العربية التي نزل بها القرآن بجمالها وبيانها وقفوا أمامها مبهوتين مدهوشين يقول قائلهم: 
"وَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ" (مستدرك الحاكم)

شرف الله تعالى اللسان العربي ورفع قدره بنزول القرآن الكريم باللفظ العربي.. {﴿ وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ }

ومن المبشرات: 
أن لغة العرب ستبقى حية يتعلمها المسلم في إفريقيا، ويتقنها المسلم في أوروبا، ويتكلم بها المسلم في أطراف الأرض ولو لم يكن عربياً،  لأن العربية لغة القرآن ولغة الإسلام ولا يفهم القرآن إلا بلسان العرب،  وهذا يعطينا دلالة على حفظ الله تعالى للسان العربي من الزيغ ومن الانحراف ومن الضياع حيث ربطه بالقرآن لفظاً ومعنى فحفظت لغة العرب بحفظ القرآن الكريم من لدن الحكيم العليم سبحانه وتعالى قال الله تعالى: {﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ﴾}

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور ابصارنا وذهاب همومنا وغمومنا إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. 

الخطبة الثانية 
ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أن طلب العلم فريضة على كل مسلم.. 

طلب العلم النافع فريضة على كل مسلم ومن أنفع العلوم تعلم لغة العرب ذلك أنها لغة القرآن الكريم 
ولا نستطيع ان نفهم آيات القرآن الكريم إلا إذا عرفنا لغته وألفاظه وإعرابه وكأن تعلم اللغة جزء من الدين.. 

قال الشافعي عليه رحمة الله:  اللسان الذي اختاره الله هو لسان العرب أنزل به كتابه وجعله لسان خاتم أنبياءه من هنا كان لزاماً على من قدر على تعلم العربية أن يتعلمها.. 

ذلك أن القرآن بألفاظه ومعانيه لا يعرف ولا يفهم إلا  باللغة التي نزل بها.. 

من هنا كان لزاماً على من تكلم في تفسير القرآن الكريم وبيان معانيه أن يكون عالماً بلغة العرب.. 

فالحرف يوضع في الكلمة فيعطيك معنى جديداً،  وينتزع الحرف من الكلمة ليعطيك معنى آخر.. 
ومثاله قول الله تعالى على لسان الخضر في حديثه مع موسى عليه السلام قال {﴿ قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾} فكلمة ﴿تَسْتَطِع﴾ جاءت كاملة من غير تخفيف ولا نقص في حروفها لتعطينا دلالة أن موسي عليه السلام قد امتلأ قلبه حيرة ودهشة مما رأي من العجائب والغرائب مع الخضر. 
ثم في نهاية اللقاء قال { ﴿ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾} فحذفت التاء الثانية فصارت الكلمة ﴿ تَسْطِع ﴾ لتعطيك إشارة أن الأمر خف عن موسى بعد أن عرف أسباب ما رأى من العجائب والغرائب.. 

والحركة أيضاً توضع على الحرف فتميز الكلام وتبين المعني وتنقلك إلى وجه آخر من وجوه البلاغة والبيان.. 
ومثالها قول الله تعالى {﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾} وذلك بسكون التاء {﴿ وَٱللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾} هذه السكون دلالتها أن الكلام كلام الله عز وجل وكأنه تعالى يقول وأنا أعلم بما وضعتْ امرأة عمران. 
في قراءة ثانية لهذه الآية تحركت التاء بالضم فصارت ﴿ وَٱللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتُ﴾ بضم التاء وضم التاء هذا يعطينا دلالة جديدة على أن الكلام كلام امرأة عمران تقوله﴿ وَٱللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتُ﴾ من باب الرضا بما قسم الله عز وجل.. 

ما من لغة في العالم تعطيك ما تعطيه لك لغة العرب كل اللغات فقيرة والغنية لغة العرب،  كل اللغات خليط من اللهجات والأصيلة لغة العرب، كل اللغات محدودة والواسعة الشاملة لغة العرب، لغة القرآن المنزل على خير الأنام صلى الله عليه وسلّم.. 

نسأل الله العظيم أن ينفعنا بالقرآن العظيم وأن يجعله ربيع قلوبنا ونور أبصارنا..