الصبر: مصدره وأسبابه

"الصبر إذا قام به العبد كما ينبغي، انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلِيَّة عطِيَّة، وصار المكروه محبوبًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يَبْتَلِهِ ليُهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته..."

  • التصنيفات: تزكية النفس -

قد تعتري الإنسانَ همومٌ وغموم وأحزان، وقد تنزل به كُرَبٌ وشدائدُ وابتلاءات، فلا يَقْوَى على تحمُّلها والثبات أمامها، وتكبُّد آلام معالجتها ودفعها، إلا إذا تزوَّد بما يلزم ويكفي من الصبر؛ فإن الصبر عُدَّةُ المؤمن لمواجهة البلايا والمحن، وبه تنكشف الظلمات وتنفرج الكُرَب؛ وفي ذلك يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: (( «والصبر ضياء» ))[1]، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الصبر مَطِيَّةٌ لا تكبو"[2]، وقيل: "الصبر إذا قام به العبد كما ينبغي، انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلِيَّة عطِيَّة، وصار المكروه محبوبًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يَبْتَلِهِ ليُهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته..."[3].

 

فما مصدر الصبر؟ وما أسباب تحصيله؟

أولًا: مصدر الصبر:

إن مصدر الصبر الذي يتعين على العبد قصدُهُ ليتزود منه هو رب العالمين جل جلاله؛ القائل في كتابه الحكيم: ﴿  {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}  ﴾ [النحل: 127].

 

فالصبر عطاء ربانيٌّ، ورزق يقسمه الله تعالى لمن يشاء وبقدر ما يشاء، وفقًا لمقتضى عدله وحكمته، والناس متفاوتون فيه كما هم متفاوتون في الأرزاق الأخرى؛ وقد جاء في الحديث النبوي الشريف أن نبيَّنا الكريمَ صلى الله عليه وسلم قال: (( «ومن يتصبر، يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر» ))[4] ؛ أي: "ما منَّ اللهُ على أحدٍ بعطاء من رزق أو غيره، خيرٍ وأوسع من الصبر؛ لأن الإنسانَ إذا كان صبورًا، تحمَّل كل شيء، إن أصابته ضراء صبر، وإن عرض له الشيطان بفعل محرَّمٍ صبر، وإن خذله الشيطان عما أمر اللهُ صبر، فإذا كان الإنسان قد منَّ اللهُ عليه بالصبر، فهذا خيرُ ما يُعطاه الإنسان، وأوسع ما يُعطاه... فلذلك تجد قلبه دائمًا مطمئنًّا، ونفسه مستريحة"[5].

 

ثانيًا: أسباب تحصيل الصبر:

إذا كان الصبر عطاءً ربانيًّا، فلا بد لمن أحبَّ أن ينال هذا العطاء، أن يسلُكَ سبيله، وأن يطلبه بأسبابه التي دلَّنا عليها الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ وفيما يأتي بعضها:

السبب الأول: الصلاة:

الصلاة من أعظم أسباب تحصيل الصبر؛ لأنها صلة بين العبد وربه، ومن خلالها يستمد القوة ويَشحَن قلبه بالطاقة الإيمانية؛ لذلك فإن الله تعالى أرشدنا إلى الاستعانة بها على تحمُّل ومواجهة ما قد نُلاقيه من ابتلاءات؛ فقال سبحانه: ﴿  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  ﴾ [البقرة: 153]، وفي الحديث: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزَبَهُ أمرٌ، صلى))[6].

 

السبب الثاني: الدعاء:

فإن العبد ضعيف، وقد ينفَدُ مخزونه من الصبر، فيحتاج إلى من يُسنده ويقوِّيه ويُثبِّته في أوقات الشدة؛ وذلك هو الله عز وجل الذي يجب على العبد أن يُكثِرَ من اللجوء إليه، والخضوع بين يديه، وإظهار الضعف والافتقار إليه، ويسأله أن يُفرغ عليه صبرًا؛ كما قال سبحانه على لسان عباده المؤمنين المجاهدين في سبيله: ﴿  {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}  ﴾ [البقرة: 250]، وقال على لسان المؤمنين الذين جهروا بالحقِّ وتحدَّوا بطش فرعون: ﴿  {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}  ﴾ [الأعراف: 126].

 

السبب الثالث: الإكثار من ذكر الله تعالى:

فإن ذكر الله تعالى يُحيي القلب ويقوِّيه ويشحَنه بالصبر، فيزول عنه القلق والهمُّ والغمُّ، ويكسبه الهدوء والسَّكِينة والطمأنينة؛ وفي هذا يقول الله عز وجل: ﴿  {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}  ﴾ [الرعد: 28].

 

ولذلك قد أوصى الله تعالى عباده المؤمنين بذكره عند المصائب فقال: ﴿  {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}  ﴾ [البقرة: 155 - 157].

 

وقرن سبحانه في قرآنه الكريم بين الصبر والتسبيح؛ فقال: ﴿  {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}  ﴾ [طه: 130]، وقال: ﴿  {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}  ﴾ [ق: 39، 40].

 

السبب الرابع: مطالعة سير الصابرين من الأنبياء والصالحين:

وقد قصَّ الله تعالى بعضَ قصصهم في القرآن الكريم، وأخبر بما لاقَوه من شدائدَ وابتلاءاتٍ عظيمة، قابلوها بالصبر الجميل واليقين في الله تعالى، وأمرنا أن نتذكرهم ونتدبَّر قصصهم؛ عسى أن يكون ذلك رفعًا للهِمَمِ وتقوية للعزائم؛ فقال سبحانه: ﴿  {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}  ﴾ [ص: 17]، وقال: ﴿  {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}  ﴾ [الأحقاف: 35]...؛ إلخ.

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُذكِّر أصحابه بقصص الأولين من الصابرين؛ ومن ذلك مثلًا ما جاء في الحديث عن أبي عبدالله خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: ((شكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِّد بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألَا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخَذ الرجلُ، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يُؤتى بالمنشار فيُوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» ))[7].

 

السبب الخامس: تذكُّر ما أعدَّ الله تعالى للصابرين من خيرٍ عظيمٍ وثواب جزيل في الدنيا والآخرة:

فقد أثنى الله عليهم، ووصفهم بالصدق والتقوى، وأوجب لهم محبته، ومعيته الخاصة التي تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم، ووعدهم بأحسن الجزاء؛ فقال سبحانه: ﴿  {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}  ﴾ [البقرة: 177]، وقال: ﴿  {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}  ﴾ [آل عمران: 146]، وقال: ﴿  {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  ﴾ [الأنفال: 46]، وقال: ﴿  {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}  ﴾ [النحل: 96]، وقال: ﴿  {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}  ﴾ [الرعد: 22]، وقال: ﴿  {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}  ﴾ [الفرقان: 75]...؛ إلخ.

 

خاتمة:

يحتاج الإنسان إلى زادٍ كافٍ من الصبر، يستعين به على تحمُّل أعباء الحياة، ومواجهة شدائدها، ومعالجة مشاكلها، والصبر رزق من الأرزاق، وعطاء ربانيٌّ، يُطلب من واهبه سبحانه وتعالى، بالأسباب الشرعية التي دلَّنا عليها في كتابه الحكيم، وعلى لسان نبيه الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ومن أهم تلكم الأسباب ما تقدَّم ذكره في هذا المقال، والله المستعان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 


[1] جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه، رقم: 223.

[2] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، الإمام ابن قيم الجوزية، ج: 1، ص: 523، صححه وخرج أحاديثه: محمد عبدالله، دار التقوى، شبرا الخيمة، مصر، بدون تاريخ.

[3] لا تحزن وابتسم للحياة، الشيخ محمود المصري، ص: 270، مكتبة الصفا، القاهرة، ط: 1 (1428هـ/ 2007م).

[4] صحيح البخاري، رقم: 1469، وصحيح مسلم، رقم: 1053.

[5] شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ج: 1، ص: 96، بتصرف يسير، المكتبة الإسلامية، عين الشمس الشرقية، ط: 1 (1423هـ/ 2002).

[6] حسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم: 4703.

[7] صحيح البخاري، رقم: 6943.

________________________________________________
الكاتب: عبدالقادر دغوتي