العقل مناط التكليف
محمد سيد حسين عبد الواحد
أحد أشرف أعضاء جسد الإنسان عقله وبسبب هذا العقل.. الإنسان هو أكرم الخلق على الله تعالى
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
✍ العناصرُ الأساسية :
✍ أولًا : سنة الله تعالى في خلقه التفاوت والتكامل
✍ ثانيًا : أشرف الأعضاء العقل
✍ ثالثًا: ضرورة تنمية قدرات العقل وحمايته
✍ المـــوضــــــــــوع:
أيها الإخوة الكرام: من سنة الله تعالى في خلقه سنة ( التفاوت) ويقصد بالتفاوت هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل كل شيء في الوجود مختلفاً لا يشبه بعضه بعضاً جعل كل شيء في الوجود متنوعاً جعل كل شيء في الوجود متكاملاً فجعل الله تعالى من الخلائق الليل والنهار وجعل الحاكم والمحكوم، وجعل القوة والضعف، وجعل الغنى والفقر، وجعل الخير والشر، وجعل الأعلى والأدنى ..
كل ذلك من سنة الله تعالى في خلقه ليضمن الحكيم العليم بذلك بقاء هذا العالم وسلامة بقاءه وتعاونه وتكامله..
هذا التفاوت نراه بأعيننا حتى على مستوى الإنسان الواحد فمن أعضاء الإنسان ما هو مهم، ومنها ما هو أهم ومنها ما هو أشرف ومنها ما هو أميز من غيره..
من هنا كان حديثنا اليوم عن أحد أشرف أعضاء الجسد وأميزها وهو (العقل)..
قال الله تعالى {﴿ إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَءَايَٰتٍ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ ﴾ ﴿ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾} ..
أحد أشرف أعضاء جسد الإنسان عقله وبسبب هذا العقل.. الإنسان هو أكرم الخلق على الله تعالى قال الله تعالى {﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾} ..
قال المفسرون : كرم الله بني آدم بالعقل الذي ركبه فيهم، وميزهم به عن كثير من خلق الله تعالى تفضيلاً..
لا تكليف للإنسان ولا مخاطبة له شرعاً بأمر أو نهي أو عقوبة بحد من حدود الله تعالى أو بعقوبة تعزيرية، ولا وعد ولا وعيد، ولا عظة ولا عبرة لأحد من بني آدم إلا مع وجود العقل ومع سلامة ذلك العقل قال الله تعالى:
{﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾} وقال : {﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾}
وقال : {﴿ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾}
العقل هو : « أكبر المعاني قدرًا، وأعظم الحواس نفعًا، بالعقل فقط يتميز الإنسان عن البهيمة، وبالعقل يعرف الإنسان الصواب من الخطأ ، وبالعقل يهتدي الإنسان إلى مصالحه، وبالعقل يتقي الإنسان ما يضره، والعقل شرط في ثبوت الولاية على النفس والغير ولا صحة لتصرف الإنسان في مال أو عقد إلا أن يكون عاقلاً رشيداً..
قال الله تعالى: {﴿ وَلَا تُؤْتُوا۟ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُوا۟ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا ﴾﴿ وَٱبْتَلُوا۟ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ.. ﴾}
ورد في الصحيح عن عليِّ بن أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «« رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ » »
يذكر أصحاب السير:
أنّ من صفة عمر رضي الله عنه ومن عَادته ودَأبِه رضيَ اللهُ عَنه أنَّه كان رجَّاعٌ إلى الحقِّ ، يقبل النصيحة، فإذا ذكرته تذكر ، وإذا نصحته انتصح، لا يكابر، ولا يستبد برأيه، يبحث عن الحكمة وأنى وجدها أخذها..
يذكر أصحاب السير أنه في زمان عمر رضي الله عنه وقعت امرأة محصنة في الزنا..
ومن بين آيات القرآن الكريم التي نسخت ألفاظها،التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمول به آية الرجم للزاني المحصن ، وكانت هذه الآية من سورة الأحزاب ، لكنها رفعت ونسخت تلاوة، وبقيت الآية يعمل بها في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ومن بعده ، وفيها يقول الله عز وجل « والشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »
قال أبي بن كعب رضي الله عنه:
كَمْ تَعُدُّونَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ مِنْ آيَةٍ ؟ قَالَوا : ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ آية ، قَالَ أُبَيٌّ : وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ إِنْ كَانَتْ سورة الأحزاب لَتَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَقَدْ قَرَأْنَا فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
وخطب عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه الناس يوماً فقال : إنَّ اللَّهَ قدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عليه الكِتَابَ، فَكانَ ممَّا أُنْزِلَ عليه آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فأخْشَى إنْ طَالَ بالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللهِ فَيَضِلُّوا بتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وإنَّ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللهِ حَقٌّ علَى مَن زَنَى إذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كانَ الحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ..
في زمان عمر رضي الله عنه:
وقعت امرأة محصنة في الزنا وقامت عليها البينة، وكانت هذه المرأة في عقلها خبلٌ فاستشار عمر الناس في أمرها ناساً فأشاروا عليه برجمها لأنها كانت تجن أحياناً وتفيق أحياناً.. فأمر عمر رضي الله عنه أن يقام عليها حد الرجم..
فخرجوا بها من عند عمر فمشوا بها إلى ساحة الرجم من طريق مروا خلاله على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال عليّ : ما شأنُ هذه ؟ قالوا : مجنونةُ بني فلانٍ زنت، فاستشار فيها الناس فقالوا ترجم حداً فأمر بها عمرُ أن تُرجَمَ ..
فقال عليّ : ارجِعوا بها، فرجعوا بها، ثمَّ إنّ علياً أتى عمر فقال : يا أميرَ المؤمنين، أما علِمتَ أنَّ القلمَ قد رُفِع عن ثلاثةٍ؟ والمعنى (أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد رَفعَ التَّكليفَ والعِقابَ على ثَلاثةٍ من البَشرِ)
قال عليٌّ : يا أميرَ المؤمنين، أما علِمتَ أنَّ القلمَ قد رُفِع عن ثلاثةٍ؟« عن المجنونِ حتَّى يعقل ، وعن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبيِّ حتَّى يحتلم»؟ قال : بلَى، قال : فما بالُ هذه المرأة المجنونة تُرجَمُ ؟
قال : لا شيءَ، قال فأرسِلْها، فأرسَلَها عمر رضي الله عنه ، وجَعلَ يُكبِّرُ"، أي: فجعلَ عمرُ رضيَ اللهُ عَنه يُكبِّر اللهَ عزَّ وجلَّ فرَحًا بِتَصويبِ عليٍّ لَه ومَنعِه من أنْ يقعَ في مِثلِ هذا الخَطأِ، وكانَ مِن عَادةِ عُمرَ ودَأبِه رضيَ اللهُ عَنه أنَّه رجَّاعٌ إلى الحقِّ.
سقط الحد عن هذه هذه المرأة بسبب الشبهة والشبهة هي زوال عقلها وعند زوال العقل لا تكليف ولا عقوبة ذلك أن الحدود تُدرأَ بالشُّبهاتِ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا جميعاً تمام النعمة إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير ..
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول: إذا كان العقل هو أحد أشرف أعضاء الجسد، وإذا كان العقل هو أجل النعم ، وهو مناط التكليف ومحل التشريف ، كان لابد من تنمية هذا العقل وتطويره..
لماذا؟
لأن حياة الإنسان، وولاية الإنسان على نفسه، وولايته على غيره، لا تتم إلا بتمام العقل، ثم إن إيمان العبد لا ينعقد إلا بالعقل، وكذا العقل لا ينضبط إلا بالإيمان.. ومن هذا نفهم أن الإيمان شقيق العقل لا ينفصلان ولا يتعارضان ولا يُكتفى بأحدهما عن الآخر..
ولذلك كان الحسن البصري إذا ذكر له صلاح رجل قال أخبروني عن عقله، كيف عقله؟
فإن قيل له ولم السؤال عن عقله؟
قال : ما تم دين عبد حتى يتم عقله..
ودليله قول الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾
وصدق رحمه الله.. فالإيمان والتصديق بوحدانية الله تعالى وبأنه الخالق العظيم، والتصديق بكتب السماء وبالأنبياء والمرسلين إنما يقول أول ما يقوم على الإقناع العقلي وقد ورد هذا المعنى صراحة في القرآن الكريم غير مرة ومنها قول الله تعالى:
{ ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ ﴾ } ومنها قوله: { ﴿ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ﴾} ومنها قوله: {﴿ هَٰذَا بَلَٰغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا۟ بِهِۦ وَلِيَعْلَمُوٓا۟ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلْأَلْبَٰبِ ﴾} وقال عز من قائل {﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْكِتَٰبَ ﴾﴿ هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُو۟لِى ٱلْأَلْبَٰبِ ﴾}
ثم إن قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه ودعوته لهم كلها تقوم على إعمال العقل، واستنباط النتائج من المقدمات وباء العواقب على المسببات..
من هنا كان لزاماً على من ملك عقلاً أن ينميه بطلب كل علم نافع وخاصة علم الحساب، وأن يطور الإنسان عقله بدوام النظر والتفكر في خلق الله تعالى..
وبكثرة الحديث مع الحكماء من الناس، والاستفادة من تجاربهم، وباستشارة العقلاء إذ العاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا جميعاً لساناً سؤولاً وقلباً عقولاً إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.