في الزوايا خبايا

فلا تتطاول على من حولك، وخفِّف الوطء، فلا يعلم أقدار الناس إلا ربُّ العالمين، ولله دَرُّ أبي بكر القاضي الذي قال: "في الزوايا خبايا، وفي الناس بقايا".

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -

هل وصلك بيت المتنبي:

لا تحقِرَنَّ صغيرًا في مخاصمة    **   إن البعوضةَ تُدمي مُقلةَ الأسدِ؟ 

 

إن هذا القول ينطبق على هؤلاء الذين يستصغرون ويحتقرون غيرهم، ظانين ظنَّ السوء أنهم في قوة الريح، وما دَرَوا أن هذا الذي يرَونه صغيرًا قد يكون في عنف الأعاصير.

 

من هؤلاء الغافلين عُبيدُالله بن زياد، أمير العراق في أثناء خلافة يزيد بن معاوية، وكان غشومًا جهولًا ظلومًا، دخل عليه الصحابي الجليل عائذ بن عمرو رضي الله عنه فقال له ناصحًا: أي بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن شرَّ الرِّعاء الحُطَمة، فإياك أن تكون منهم))، فقال له عبيدُالله: اجلس؛ فإنما أنت من نُخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي: الحثالة الذين لا وزن لهم ولا قيمة.

 

فقال عائذ رضي الله عنه: وهل كانت لهم نُخالة؟ إنما كانت النُّخالة بعدهم وفي غيرهم.

 

إن قصفًا بهذا القدر لأميرٍ أمام حاشيته قمينٌ بأن يُسكته أبدَ الآباد.

 

ذكر ابن الجوزي في كتابه الأذكياء أن لقمانَ الحكيم كان عبدًا لرجلٍ من بني إسرائيل، اشتراه بثلاثين مثقالًا ونصف، وكان يعمل له، وكان مولاه يلعب بالنرد يُقامر عليه، وكان على بابه نهرٌ جارٍ، فلعِب يومًا بالنرد على أن من قمَر صاحبَه، شرِب الماء الذي في النهر كله أو افتدى منه، فقُمِرَ سيدُ لقمانَ، فقال له القامر: اشرب ما في النهر وإلا فأفتدِ منك.

 

قال: فلْتَسَلْني الفداء.

قال: عينيك أفقؤهما، وجميع ما تملك.

قال: أمهلني يومي هذا.

قال: لك ذلك.

 

فأمسي حزينًا كئيبًا، إذ جاءه لقمان وقد حمل حُزمة من حطب على ظهره، فسلَّم على سيده ثم وضع ما معه ورجع إلى سيده، وكان سيده إذا رآه عبث به، ويسمع منه الكلمة الحكيمة فيعجب منه، فلما جلس إليه، قال لسيده: ما لي أراك كئيبًا حزينًا؟

 

فأعرض عنه.

فقال له: أخبرني؛ فلعل لك عندي فَرَجًا.

فقص علية القصة، فقال له لقمان: لا تغتمَّ؛ فإن لك عندي فرجًا.

قال له: وما هو؟

 

قال: إذا أتاك الرجل فقال لك: اشرب ما في النهر، فقل له: أشرب ما بين ضفتي النهر أو المد؟ فإنه سيقول لك: اشرب ما بين ضفتي النهر، فإذا قال لك، فقل له: احبِس عنى المد؛ حتى أشرب ما بين الضفتين، فإنه لا يستطيع أن يحبس عنك المد، وتكون قد خرجت مما ذكرت، فطابت نفس سيده.

 

فلما أصبح جاءه الرجل فقال له: فِ لي بشرطي؛ أي: وفِّ لي، قال: نعم، أشرب ما بين الضفتين أو المد؟

 

قال: لا، ما بين الضفتين.

قال: فاحبس عنى المد.

قال: كيف أستطيع؟!

فخصمه، فأعتقه سيده.

 

قال العباس بن مرداس:

ترى الرجل النحيف فتزدريه 

وفي أثوابه أسدٌ مُزيرُ 

ويعجبك الطَّريرُ فتبتليه 

فيُخلِف ظنك الرجل الطَّريرُ 

فما عِظَمُ الرجال لهم بفخر 

ولكن فخرهم كرمٌ وخيرُ 

بُغاث الطير أكثرها فِراخًا 

وأمُّ الصقر مِقلاة نزورُ 

 

في الحديث الصحيح: (( «رُبَّ أشعثَ أغبرَ، مدفوعٍ بالأبواب، ذي طِمْرين، لو أقسم على الله لأبرَّه» ))، إن صورة هذا الرجل المهمَل من قِبل مَن حوله، ممن يزِنُون الناس بمظهرهم، صوَّرها هذا الحوار بين النبي صلى الله عليه وسلم وأحد جلسائه؛ ((فقد مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: «ما تقول في هذا» ؟

 

فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكَح، وإن شفع أن يُشفَّع.

 

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرَّ رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول في هذا؟

 

فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب ألَّا يُنكَح، وإن شفع ألَّا يُشفَّع، وإن قال ألَّا يُسمع لقوله.

 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ من مِلْءِ الأرض من مثل هذا» )).

 

والمنطق السطحيُّ نفسه، ذاك الذي يزِنُ به بعض الناس من حولهم حَدَثَ مع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان ضعيف البنية، دقيقَ الساقين، الأمر الذي عرضه لسخرية بعض الصحابة، وضحكوا منه، ((فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ممَّ تضحكون» ؟

قالوا: من دِقَّةِ ساقيه يا رسول الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لَهما أثقلُ في الميزان من أُحُدٍ» )).

 

وهذا صحابي مهمل من قِبل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم اسمه جُلَيْبِيب، مات في إحدى الغزوات، ولم يشعر أحد بفقده، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: (( «هل تفقدون أحدًا» ؟))، فأخذوا يُعدِّدون المفقودين، دون أن ينتبهوا لهذا الذي عاش في الظلال، ولما لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة لمن أراد، قال لهم: (( «لكني أفتقد جُلَيبِيبًا» ، ثم قال: «جُلَيبِيبٌ مني وأنا منه، جليبيب مني وأنا منه» )).

 

إن رجلًا من البشر - لا من الرسل ولا الأنبياء - لما مات اهتزَّ له عرش الرحمن؛ إنه الصحابي الجليل سعد بن معاذ.

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا لأُبَيِّ بن كعب: (( «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» ، قال أُبَيٌّ: آلله سمَّاني لك؟ قال: «الله سمَّاك لي» ، فجعل أبيٌّ يبكي)).

 

فلا تتطاول على من حولك، وخفِّف الوطء، فلا يعلم أقدار الناس إلا ربُّ العالمين، ولله دَرُّ أبي بكر القاضي الذي قال: "في الزوايا خبايا، وفي الناس بقايا".

____________________________________________
الكاتب: أ. د. زكريا محمد هيبة