التشاؤم وعلاجه
"التشاؤم شرٌّ كله؛ فهو سوءُ ظنٍّ بالله، منكد للحظة الحاضرة، مانع من تخطيط العبد لمستقبله"
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
خَلَقَ الله خلقَه، فأنشأهم على التوحيد والفطرة، وجَبَلَهم على حبِّ الخِصال الكريمة، والأفعال الحميدة، وعزَّز هذا بوحيِهِ الذي أرسل به رسله، فصار التعامل بها حَسنةً وقُربةً؛ ولذا تلحَظ أن النفوس الصافية السليمة بهذه الأخلاق تأنَس وترتاح، وكلما سَمَتِ الأخلاق وارتفعت، أنِست وتألَّقت الأرواح، وزاد في المجتمعات السرورُ والفرح، وبعُد عنها الشقاء والتَّرَحُ، وإن ابتعدت هذه الأخلاق يتنكد العيش، ويفسُد الطبع، ويضيق الصدر، ويكثُر الفُحش، فلا أنس بين أهلها يُرجى، بل قلوبهم وأفئدتهم شتى.
عباد الله:
الخير أصل، والشر طارئ، فلقد عاش الناس على التوحيد عشرة قرون، ثم داخلهم الشركُ، ثم تَبِعَه فساد في الأخلاق والمعاملة والأعراض، فاختلفت الطبائع، وتغيَّرت عند البعض صفاءُ الفِطَرِ، فأرسل الله رسله ليُصحِّحوا المسار، ويعبِّدوا العبيد لربهم العظيم الجبار، فلا فساد في الدنيا أعظم من الضلال في الدين، وأعظمه الشرك برب العالمين، فهو أعظم ذنب عُصِيَ الله به؛ ولذا مع عظيم سَعَةِ رحمة الله، إلا أنه لا يغفر لمن أشرك به إلا التوبة؛ لأن الله وحده خَلَق، ووحده رزق، ووحده بيده الملك والتدبير، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده.
عباد الله:
ومن الأخطاء التي عالجها المصطفى ما وقع فيه أهل الجاهلية الأولى وما يراه في زماننا اليوم من التشاؤم والتَّطيُّر الْمُحرَّم، سواء أكان التشاؤم بنوع طير يراه الإنسان، أو لسماع كلام يدل على الخيبة والخسران، أو التشاؤم بالأشخاص والأرقام، أو بالشهور أو بعض الأيام، أو بما يحصل عن الخروج من السقوط والتعثرات، أو ملاقاة أصحاب العاهات، فيترك الإقدام على ما عزم عليه لأجل هذه التُّرَّهات، وهذا حرام لقول خير البرية صلى الله عليه وسلم: (( «لا عدوى ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ ولا صَفَر» ))، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( «الطِّيَرَةُ شِركٌ، الطيرة شرك، الطيرة شرك» ))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «من ردَّتْهُ الطِّيَرَةُ من حاجة فقد أشرك» ، قالوا: يا رسول الله، ما كفَّارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: «اللهم لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك» ))، ولقد علَّل العلماء رحمهم الله تحريم التَّطيُّر والتشاؤم بأمورٍ؛ منها:
1- أن التَّطَيُّر منافٍ للتوحيد؛ فالْمُتطَيِّر قطع توكله على الله، واعتمد على غيره؛ ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «من تعلَّق شيئًا، وُكِلَ إليه» ))، وأن المتطير تعلَّق بأمور لا حقيقة لها، بل هو وهم وتخيٌّل، ولا شكَّ أن هذا مُخِلٌّ بالتوحيد لأن التوحيد عبادة واستعانة بالله؛ قال تعالى: ﴿ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ﴾ [الفاتحة: 5]، وقال: ﴿ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ﴾ [الطلاق: 3].
2- التطير فيه إساءة الظن بالله عز وجل، والواجب على العبد أن يظن الظنَّ الحَسَنَ بربه؛ فلقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( «لا طِيَرَة، وخيرها الفأل» ، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» )).
عباد الله:
التشاؤم شرٌّ كله؛ فهو سوءُ ظنٍّ بالله، منكد للحظة الحاضرة، مانع من تخطيط العبد لمستقبله، فكم طالبِ علمٍ عزم على الجِدِّ والاجتهاد، فجاءته من عبارات التَّثْبِيط ما تهُدُّ الجبال، فيترك الجِدَّ والبذل! وكم من مُقدِم فرح بالزواج، جاءه البهتان والزور بسعادة يعيشها المرء أول الأيام، ومن ثم نكد على مدى السنين والأعوام، فعَلا على مُحيَّا المقدم على الزواج التشاؤمُ! فكيف سيستـقبل هذا الزوج حياته؟ ولقد زعموا ذلك وكذبوا، فهل يكون في وصية رسول الله للشباب النكد؟ بل ألم تكن العلاقة الزوجية آية من آيات الله؟ قال تعالى: ﴿ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ﴾ [الروم: 21]، لكن ربما وقع الخلل، فعليك بسؤال أهل الاختصاص؛ فهو السبيل لرأب الصدع، ورجوع الأُلفة والرحمة.
عباد الله:
كم كان هذا الكلام سببًا في عزوف كثير من الشباب عن الزواج! فيا خسارة من كان سببًا في ذلك! وهل يستطيع قائل هذا الكلام البُعدَ عن أهله وولده؟ وكم من تائب عزم على التوبة والتقرب للرب، ومواصلة العمل الذي يصلح القلب، فجاءه من يُصعِّب عليه الأمر، ويَضَعُ له الحواجز، مُذكِّرًا له بأيامه الخوالي، وكيف يكون البعد عن شباب لطالما أنِس بهم، وكيف ستكون الحياة بدونهم، فلا تزال هذه الكلمات المثبِّطة تـفُتُّ في عَضُدِ التائب، حتى يترك توبته! ويا سبحان الله! هل يضيق صدر من توجه للرب الكريم، الذي بيده الأُنس وقلوب العباد؟ فكم من صالح كتب له القَبول في كل مكان! ﴿ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} ﴾ [مريم: 96].
عباد الله:
يتبادل الناس عبر وسائل اتصالاتنا رسائلَ فيها انتقاص لشباب ونساء بلادنا، باسم الطرفة والترويح عن النفس، وكثرة تكرار هذه الطرف على العقل، توحي للشاب والفتاة بالدونية، فكيف نساهم في هدم مجتمعنا وبلدنا بأيدينا، وكأن بلادنا لم تُخرِج علماء أفذاذًا، وفي شتى مجالات الحياة؟ فيا مُطلِقًا عبارات التشاؤم، إنك تَفُتُّ في عَضُدِ الأمة، وتُضعِف فيها الهمة، وذا ذنبٌ عظيم، فاتَّقِ الله؛ ولذا كان من لطف الله بالمؤمنين ألَّا يخرج معهم المنافقون، الذين من صفاتهم بثُّ الهون والضعف في نفوس المقاتلين؛ قال تعالى: ﴿ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ﴾ [التوبة: 47]، فيا عبدالله، قُلْ خيرًا أوُ اصمُت، وتذكَّر: رُبَّ كلمةٍ لا تُلقي لها بالًا تهوي بها في النار سبعين خريفًا.
عباد الله:
لما كان التشاؤم خطره على الفرد والمجتمع كبير، كان أبعدَ ما يكون عنه رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، فمبعثه صلى الله عليه وسلم كان بشارة عيسى عليه السلام في الإنجيل، والبشارة تفاؤل، ولما نزل الوحي على رسولنا صلى الله عليه وسلم رجع لزوجه خائفًا، فطَمْأَنَتْهُ، وهو الزوج المحب، وبشَّرته مُذكِّرةً بحاله وطِيب فِعاله، وكريم خِصاله، وذا من عظيم التفاؤل، ولما جاء الصحابة رسولَ الله في مكة يشتكون من أذى المشركين، بشَّرهم بصلاح الأحوال، وتيسير السبل للسالكين، ولكنهم يستعجلون، ولما خرج مع الصِّدِّيق مهاجرًا إلى المدينة، خاف الصِّدِّيق من طلب الطالبين لما كانوا بالغار محيطين، فذكَّره الرسول الأمين بمعية رب العالمين قائلًا: (( «ما ظنُّك باثنين، الله ثالثهما» ؟))، فكان عليه الصلاة والسلام أعظم المتفائلين.
ولما استعصت على الصحابة صخرة في الخندق، استنصروا برسول رب العالمين، فضرب المصطفى بالمعول ثلاثًا، وبشَّر بالنصر والفتح في بلاد العالمين؛ اليمن، وملك كسرى وقيصر الهالكين، وبعد سنين يتحقق الوعد المبين، فيخسأ المنافقون الْمُشكِّكون ببشارة رسول العالمين.
وفي الحديبية قدِم للتفاوض من المشركين سهيل بن عمرو، فتفاءل باسمه وقال: (( «سهُل أمركم» ))، وغيَّر أسماء بعض صحابته من حزن إلى سهل، ومن عاصية إلى جميلة، وفي قصة الإفك ينزل القرآن العظيم: ﴿ {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ﴾ [النور: 11].
عباد الله:
تأمل في جبل أُحُدٍ، لو صحَّ أن يتشاءم المسلمون بمكانٍ، فليس إلا هذا المكان، فحوله جَرَتِ الغزوة الوحيدة التي كثُر فيها المصاب، وعظُم فيها الخطب، واشتد الكرب، وكثُرت فيها الجراحات، وشُجَّ رأس خير البريات، لكن الرسول يُطلقها صريحة، قاطعًا كل حبائل التشاؤم: (( «أُحُدٌ جبل يحبنا ونحبه» ))، ويعلق عليه بعض الأجور لتتعلق به النفوس؛ قال تعالى مواسيًا عباده بعد أُحُدٍ: ﴿ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ﴾ [آل عمران: 139].
فمما يُعين على التخلص من حبائل التشاؤم والانطلاق للتفاؤل أمور؛ منها:
1- أن تعلم أن التفاؤل دأب الرسل والصالحين والناجحين، والخيرُ في اقتفاء أثرهم.
2- كرِّر عبارات التفاؤل، والقدرة على الإنجاز.
3- صادِقِ المتفائلين في حياتك، واقرأ سِيَرَهم، تكن بإذن الله مثلهم.
4- عزِّز الإيجابيات في حياتك وإن كانت قليلة، تختفِ السلبيات الكبيرة.
5- استفِدْ من الخطأ، وقل دائمًا: الخطأ طريق الصواب.
6- لا يأسرك التفكير في المصائب وتوقع الفشل، وابدأ دائمًا البحث عن الحلول الممكنة.
7- تذكُّر النجاحات السابقة يُعين على قراءة الأحداث القادمة بشكل جيد؛ قال الله تعالى لأهل أحد: ﴿ {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ﴾ [آل عمران: 140].
8- تذكَّر على الدوام أن التشاؤم لا يُرضي الله، والتفاؤل إحسانُ ظنٍّ بالله العظيم، فاخْتَرْ لنفسك، واعلم أن التفاؤل الصحيح الذي يكون معه الجِدُّ والاجتهاد في العمل.
اللهم اجعلنا من المتفائلين الظانين أحسنَ الظن برب العالمين، وارزقنا التوفيق في الدارين يا رب العالمين.
__________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني