صاحب القرآن
فالقرآن خيرُ صاحبٍ، ونعم الجليسُ، وأفضل أنيسٍ، ومن آنسه القرآنُ لم تُوحِشْه مفارقةُ الإخوان، به تطمئن القلوب: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله أجمعين؛ أما بعد:
فعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء القرآنُ يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أُسْهِرُ ليلَك، وأُظمئ هواجرك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيُعطى الْمُلْكُ بيمينه، والخُلْدَ بشماله، ويُوضع على رأسه تاجُ الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتين لا تقوم لهم الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب، أنَّى لنا هذا؟ فيُقال: بتعليم ولدكما القرآنَ، وإنَّ صاحِبَ القرآن يُقال له يوم القيامة: اقرأ وارْقَ في الدرجات، ورتِّل كما كنت تُرتِّل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية معك»[1].
قال المناوي: "صاحب القرآن: أي حافظه، وكل شيء لازم شيئًا فقد استصحبه"[2].
وقال الألباني: "صاحب القرآن: حافظه عن ظهر قلبٍ؛ على حدِّ قوله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله...»؛ أي: أحفظهم، فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذٍ واستكثاره منها كما توهَّم بعضهم، ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن، لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر منافقي أُمَّتي قُرَّاؤها»[3].
فالقرآن خيرُ صاحبٍ، ونعم الجليسُ، وأفضل أنيسٍ، ومن آنسه القرآنُ لم تُوحِشْه مفارقةُ الإخوان، به تطمئن القلوب: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وبه تحيا النفوس: «مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مَثَلُ الحيِّ والميت»[4]، وهو شافع مُشفَّع، ومجادِل مُصدَّق: «القرآن شافع مُشفَّع، وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار»[5]، صاحبه يرجو تجارةً لن تبور: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]، «وإن كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر»[6]، يتفرق عنه الأهل والأصحاب، ويبقى هو يدافع عنه في قبره: «يُؤتَى الرجل في قبره، فإذا أُتِيَ من قِبلِ رأسه دفعته تلاوة القرآن، وإذا أُتِيَ من قِبل يديه دفعته الصدقة، وإذا أُتِيَ من قِبل رجليه دفعه مشيه إلى المساجد»[7]، هو ذِكْرٌ له في الأرض، وراحة له في السماء: «أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن؛ فإنه رَوْحك في السماء، وذكرك في الأرض»[8]، يرتقي صاحبه في الدرجات، وينال به الخيرات: «وإن صاحب القرآن يُقال له يوم القيامة: اقرأ وارْقَ في الدرجات، ورتِّل كما كنت تُرتِّل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية معك»[9].
ولْيَصْبِرْ صاحب القرآن على مجالسة أمثاله في حِلَقِ الذكر: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]، و «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكِينة، وغَشِيَتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذَكَرَهم الله فيمن عنده[10]))[11]، و((ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم منادٍ من السماء: أنْ قوموا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسناتٍ»[12]، و «من غَدَا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلَّم خيرًا، أو يُعلِّمه، كان له كأجر حاجٍّ، تامًّا حجته»[13]، و «لأن أقعُدَ مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس، أحب إليَّ من أن أُعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربعة»[14]، و «لَيبعثَنَّ الله أقوامًا يوم القيامة في وجوههم النور، على منابر اللؤلؤ، يغبِطهم الناس، ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءً، قال: فجثا أعرابي على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، جلِّهم لنا نعْرِفْهم، قال: هم المتحابُّون في الله، من قبائلَ شتى، وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه»[15].
وقد يجد صاحب القرآن في مثل هذه المجالس الطيبة صِنفين من الناس ليسوا للقرآن بأهلٍ: «فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله عز وجل[16]، وسيجيء أقوام يُقيمونه كما يُقام القدح[17]، يتعجَّلونه، ولا يتأجلونه»[18]، فلا تذهب نفسه عليه حسرات، سيهونون على أهل الدنيا التي طلبوها، وسيهونون على الله الذي لم يخلصوا له العمل؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لو أن أهل العلم صانوا العلم، ووضعوه عند أهله، لَسَادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم؛ سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جَعَلَ الهمومَ همًّا واحدًا؛ همَّ آخرته، كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبالِ الله في أيِّ أوديتها هَلَكَ»[19].
فإذا خرج صاحب القرآن من هذا المحيط الطيب، ولا يضره ويحط من قدره من دخله أو خرج منه بسوء نية - فسيجد: «إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة»[20]، فالناس كثير، والْمَرضِيُّ منهم قليل، فكذلك لا تجد في مائة من الناس مَن يصلح للصحبة، وحمل المودة، وركوب المحبة، فيُعاوِن صاحبه ويُلِين له جانبه؛ وليتذكر قول نبيه صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي، يُغربَل الناس فيه غَربلةً، وتبقى حُثالة من الناس قد مَرِجت عهودهم وأماناتهم، فاختلفوا، وكانوا هكذا، وشبَّك بين أصابعه» ؟ قالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك؟ قال: «تأخذون بما تعرفون، وتَدَعُون ما تُنكرون، وتُقبِلون على خاصتكم، وتَذَرون أمرَ عوامِّكم»[21].
قال يحيى بن أكثم لما حضرت علقمةَ العطار الوفاةُ، قال لابنه: "يا بني إذا صحِبتَ الرجال، فاصحب من إذا أخدمته صانك، وإن صحِبتَه زانك، وإن تحركت بك مؤنةٌ صانك، وإن أمددت بخيرٍ مدَّ، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، أو سيئة سترها، وإن أمسكتَ ابتدأك، أو نزلت بك نازلةٌ وَاسَاكَ، وإن قُلتَ صدقك، أو حاولت أمرًا أمرك، وإذا تنازعتما في حق آثرك، قال عبدالملك: سمع الشعبي هذه الوصية فقال: تدري لِمَ أوصاه بها؟ فقلت: لا، قال: أوصاه ألَّا يصحب أحدًا؛ لأن هذه الخِصال لم تكمُل في أحدٍ"[22].
وقال أبو حاتم: حدثنا العتبي، قال: كنا عند سفيان بن عيينة فتلا هذه الآية: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، وقال: "ما في الأرض آدميٌّ إلا وفيه شبه من شبه البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو أُلقِيَ لها الطعام الطيب عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه، ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل عن نفسه، أو حكى خطأ غيره، تروَّاه وحفِظه"[23].
وقال الخطابي: "فالمغرور المائق المذموم عند الخلائق، النادم في العواقب، المحطوط عن المراتب مَنِ اغتر بالناس، ولم يحسم رجاءه باليأس، ولم يظلف قلبه بشدة الاحتراس، فالحذرَ الحذر من الناس؛ فقد قلَّ الناس وبقِيَ النَّسناس[24]، ذئاب عليهم ثياب، إن استفردتهم حرموك، وإن استنصرتهم خذلوك، وإن استنصحتهم غشُّوك، وإن كنت شريفًا حسدوك، وإن كنت وضيعًا حقَّروك، وإن كنت عالمًا ضلَّلوك وبدَّعوك، وإن كنت جاهلًا عيَّروك ولم يرشدوك، إن نطقت قالوا: مِكثارٌ مِهذار صفيق، وإن سكتَّ قالوا: غبيٌّ بليد بطيء، وإن تعمَّقت قالوا: متكلِّف متعمِّق، وإن تغافلت قالوا: جاهل أحمق، فمعاشرتهم داء وشقاء، ومزايلتهم دواء وشفاء، ولا بد من أن يكون في الدواء مرارة وكراهة، فاختَرِ الدواء بمرارته وكراهته على الداء بغائلته وآفته"[25].
تُوفِّيَ الخطابي رحمه الله سنة 388 للهجرة، فما عساه يقول لو أدرك زماننا؛ وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقَوا ربكم»[26]، والله المستعان.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
[1] الصحيحة: 2829 (وقد ضعَّفه قبل ذلك في ضعيف الجامع (6416)، ثم تراجع عن هذا التضعيف وصححه في السلسلة الصحيحة)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (22950): إسناده حسن.
[2] فيض القدير (1-415).
[3] في تعليقه على الحديث في الصحيحة برقم: 2240.
[4] صحيح البخاري: 6407.
[5] صحيح الجامع: 4443.
[6] الصحيحة: 2829.
[7] صحيح الترغيب والترهيب: 3561.
[8] الصحيحة: 555.
[9] الصحيحة: 2829.
[10] وهذه أعظم نعمة وأكبر شرف أن يذكره الله في الملأ الأعلى.
[11] صحيح مسلم: 38 - (2699).
[12] الصحيحة: 2210.
[13] صحيح الترغيب والترهيب: 86.
[14] الصحيحة: 2916.
[15] صحيح الترغيب والترهيب: 1509.
[16] الصحيحة: 258.
[17] عود السهم قبل أن يراش ويركب نصله.
[18] الصحيحة: 259.
[19] صحيح الترغيب والترهيب: 3171.
[20] صحيح البخاري: 6498.
[21] صحيح ابن ماجه: 3957.
[22] آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة: 64.
[23] العزلة للخطابي: 55.
[24] الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس، وقيل: هم يأجوج ومأجوج.
[25] العزلة للخطابي: 72.
[26] صحيح البخاري: 7068.
_________________________________________________________
الكاتب: محمد حباش